مرسى جميل عزيز l فارس الأغنية .. بين جواهر الكلم .. وجوهره

مرسي جميل عزيز
مرسي جميل عزيز

د‭. ‬إلهام‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬حمدان

صال وجال ليقبض على جواهر الكلم، ليثري وجدان الناس بجوهر المعاني التي ينطوي عليها، بدأت موهبته في السطوع مذ كان طفلا صغيرا، دفعته عاطفته أن يكتب رثاء مؤثرا يرثي به أستاذه ويلقيه على مسامع أقرانه في مدرسته ويسمع دوي تصفيقهم لكلماته الشاعرة، من هنا بدأ ميلاد شاعر وجد أن عليه أن يشق الطريق ويطلق العنان لموهبته الفذة لكي تفصح عن نفسها لترصع النفوس بالماس واللؤلؤ من (جواهرجي) يتقن فنون صنعته كصاحب حرفية لا تبارى في مجاله، وكان لوالده (كبير تجار الفاكهة في الزقازيق) دور كبير في رعاية موهبة ابنه وشغفه بالأدب والفن، فحرص على حفظه القرآن الكريم والمعلقات السبع والكثير من الشعر لشعراء أفذاذ، إضافة إلى أن انجذابه إلى الأغاني الشعبية ومناداة الباعة الجائلين على بضاعتهم من فاكهة وخضر كان له فعل السحر عليه، فرسخت ميوله للشعر  في مطلع حياته، وبعد التحاقه بكلية الحقوق أصبح رئيساً وعضواً لعدة أنشطة فنية ترعاها الكلية أهمها الشعر، والآداب، والموسيقا، وفن التمثيل، وأيضاً فنون التصوير،وهذا يكشف عن شغفه  الشديد تجاه الفنون بأنواعها.

كان أن خرجت أولى أغنياته فى الإذاعة المصرية عام ١٩٣٩، بعنوان: (الفراشة) وضع موسيقاها الموسيقار العبقري رياض السنباطي، وتلاها  أغنية (يامزوق ياورد في عود) للفنان الجميل  (عبدالعزيز محمود) ومازال يافعا بدأ رحلة شعرية طويلة فكتب كلمات لكبار الملحنين ليتغنى بها الكبار صوتا وطربا من مغنيينا.

كان للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ نصيب الأسد من منتوج مرسي جميل عزيز الشعري  الغنائي قارب الـ 35 أغنية. من بينها: فى يوم فى شهر فى سنة .. مرثية الغناء العربى / بتلومونى ليه /  بأمر الحب، أعز الناس، حبك نار، الليالى، أبو عيون جريئة، راح، يا خلى القلب، جواب، اسبقنى ياقلبى، ضحك ولعب وجد وحب، يا قلبى خبي، الحلوة، هى دى هي، الحلو حياتى وروحي، ليه تشغل بالك، بلاش العتاب، مالك ومالى يا ابو قلب خالي، استعراض قاضى البلاج  “دقوا الشماسى”، موال فيلم “شارع الحب”، يا  لائمى مهلا .. موال أدهم الشرقاوى ..ثم جاءت كلماته الخالده للثلاثية الغنائية المتتابعة لكوكب الشرق أم كلثوم (سيرة الحب، فات المعاد، ألف ليلة وليلة). وتميز بخاصية فريدة في عصره بين من جايلوه من الشعراء بأن تغنت القيثارة (فيروز) قصيدته (سوف أحيا) ونجحت نجاحا كبيرا أحدث تحولا كبيرا فى مسيرته الإبداعية، بل الوسط الثقافي المصري والعربي في آن، وأصبحت الأغنية من أهم الأغنيات المحفوظة في الإذاعة المصرية لقيمتها الفنية العالية .

عرف في الوسط الفني بلقب ( فارس الأغنية ) لكننا وجدناه يتنقل بين ألقاب عدة خلعها عليه النقاد، فهو تارة رائد الأغنية الحديثة، وتارة ملك الرومانسية، وتارة أخرى جواهرجي الكلمة أو صانع النجوم وساحر الكلمات، وغير ذلك.. وهي ألقاب تنم جميعها عن نجاح منقطع النظير يغبطه عليه شعراء عصره.

لم يكتف (صاحب الألف أغنية) مرسي عزيز بكتابة الشعر، فنهل من العلوم الأدبية والفنية كافة، فساعدته هذه المعارف على صقل موهبته فانطلق يكتب القصة القصيرة والسيناريو للأعمال المقدمة للسينما بل تخصص في فن كتابة السيناريو وحصل على دبلوم في هذا التخصص عام 1963. بعدها بعامين تم تكريمه رسميا من الدولة المصرية وحصل على وسام الجمهورية للآداب والفنون عام 1965 من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أسوة بعمالقة الفكر والثقافة والفن في تاريخنا المعاصر، وكرم من محافظة الشرقية بأن أطلقت المحافظة اسمه على الشارع الذى كان قاطنا فيه بالزقازيق، وكذلك أطلقت محافظة الأسكندرية اسمه على الشارع المجاور لمسكنه بها ، وأنشأت جامعة الزقازيق جائزة باسمه تمنحها لأوائل الخريجين من قسم اللغة العربية بكلية الآداب إعلاء لقيمته كفنان متميز وتقديرا لقيمة الفن بشكل عام متمثلة في شخصه الموهوب والمحبوب.

 أمضى مرسي عزيز أكثر من أربعين عاما يعمل علما فى مجال الشعر والأغنية، حتى توفاه الله فى التاسع من فبراير 1980 عن عمر يناهز 58 عاما.

قال عنه عباقرة عصره في الأدب والفكر والثقافة ما نعده شهادات مهمة تضاف إلى ما منح من تكريمات تتوج مشوار عطائه الفني ،نسوق بعضها كقطرة من فيض، فالأديب الكبير يحيى حقى قال عنه ممتدحا: “ من الظلم ألا يدرس مرسى جميل عزيز،  كشاعر مرهف الحس،  بارع الإشارات،  حلو العبارة،  يعنى أشد العنايه بوحدة الأغنية، وضرورة احتوائها على معنى جديد .. إنه يعبر عن الحب أدق تعبير، انظر إلى الفتاه عنده،  إنها تبث همها إلى أمها،  فأحس بطبيعة الشعب وأشجانه .. إن مرسى جميل عزيز،  شديد الالتصاق بالشعب .. وفى شعره ملامح فلكلوريه كثيرة.”

أما عملاق الأدب عباس محمود العقاد قد سجل إعجابه الشديد بكلمات أغنيته لفايزة احمد قال: إن فى هذه الأغنية “ يامه القمر ع الباب “، من البلاغة، أضعاف المئات من قصائد الشعر العربى .. وإذا لم تفتح الأبواب لهذا الصوت الجديد “فايزة أحمد”، فبأي كلمات ستفتح؟!”

وجاء الرأي الأكاديمي لوزير الثقافة سابقا  أ.د./  أحمد هيكل مقيما مرسى جميل عزيز، فقال عنه: “شاعرعمودي  بارع فى المقام الأول،  ينتسب إلى مدارس الشعر الحديث العربية والأوروبية، وينضم كشاعر رومانسى كبير إلى شعراء مدرسة “أبولو”،  ويمتد شعره بعمق إلى شعراء المهجر .. لكنه اختار بذكاء، الأغنية - كشعر مسموع - مجالا لذيوع شعره وانتشاره .. تميز بثقافته الموسوعية وتجربته فى ذلك تشبه تجربه العقاد .. الأغنية العاطفية عنده لا تعبر عن عاطفة هائمة، بل عاطفة محددة، يتناولها بالعمق، وتختلف كل منها عن الأخرى، فى موقفها الدرامى والوجدانى والنفسى .. مع أهمية الأغنية، أطالب بتدريسها - خاصه من خلال ما كتبه لها - فى كليات الآداب والتربية ودار العلوم “.

وجاء رأي أ.د. عبد الحميد يونس رائد الأدب الشعبي ليعبر عن دور عزيز في تطوير الأغنية الشعبية، قال: “ لقد قام مرسى جميل عزيز، بتطوير الغناء الشعبى المصرى من خلال أغانيه، وأضاف إليه مناح جديدة وأبعادا فنية وجمالية حديثة  “.

وقال عنه  الكاتب والناقد والمحاور مفيد فوزى : “ اكتب عن ،  مرسى جميل عزيز .. عن صاحب المدرسة الرومانسية فى الأغنية.. عن شاعر سعت إليه التجربة الرحبانية، وبعدها عرف منصور وعاصى الرحبانى كيفية الاستفادة من التراث اللبنانى .. عن شاعر كان يغار منه الشعراء، وبعد رحيله، أصبحت الأغنية الرومانسية الرقيقه الراقية، يتيمة، تنادى فارسها مرسى جميل عزيز. “

“إلى جانب موهبته الفذة، ملك مرسى جميل عزيز، ذكاءا حادا، وذهنا متقدا، وتميزت روحه بالتحدى، فجاء إنتاجه بهذا الثراء.” والرأي على حد قول رفيقه صلاح عبد الصبور .

إذن نحن أمام شاعر رصين بحق  من عمالقة الشعر العمودى يملك ناصية الكلمة الشعرية ويسخرها بقدرة واقتدار، أحدث النقلة التالية فى “الحداثة” بعد أمير الشعراء أحمد شوقى، يوازيه الشاعر صلاح عبد الصبور فى مجال الشعر الحر. نحن أمام صاحب مشروع شعري كامل متكامل أخلص له وحققه متلفحا بحب الناس وعشقهم لمفرداته السلسة، فعطاء أربعين عاما ليس بالأمر العابر أو الهين، فقد أثبت بموهبته الربانية وثقافته العميقة وعمله الجاد لتطوير فن الأغنية بكل أشكالها واستخداماته اللغوية المعبرة عن المشاعر والأحاسيس كافة بأنواعها بين الرومانسي والشعبي والوطني والديني متنقلا بين حناجر رصينة لمطربين عرفهم الجمهور المصري والعربي من خلال تغنيهم بجواهر الكلم التي تنطوي على جوهر عميق يشعل الوجدان بالحالة التي يريدنا أن نعيشها عبر كلمات من حرير تخرج من قلبه لتسكن قلوب سامعيها.. وإلى أبد الآبدين باقية.. كما بقي هو بتراثه وتاريخه الفني حتى الآن وإلى أبد الآبدين.. فرسالته الشعرية بحق كانت رسالة حب عظيمة راقية موجهة إلى  الإنسان في كل زمان ومكان.

اقرأ أيضا : ابنة محمد الموجي: والدي كان يعتبر عبدالحليم حافظ ابنا له

;