«كل الفضاء».. قصة قصيرة للكاتب محمد كمال سالم

محمد كمال سالم
محمد كمال سالم

لم يكنْ يَدري الشابُّ الصغيرُ ابنُ التاسعةَ عشرَ عامًا لِمَ زُجَّ به في هذه الزنزانةِ الصغيرةِ منفردًا !!

يستغيثُ، يصرخُ: أَخرجوني! يهتفُ: لِمَ أنا هنا؟! لم أفعلْ شيئًا!!

لم يجدْ لصُراخهِ صدى سوى غلظةِ السجانِ وقسوةِ الزنزانةِ، يتمتمُ في حيرةٍ: كنتُ في طريقي لأصحابي ولا شأنَ لي بالسياسةِ.

يدفعُ إليهِ الحارسُ طعامهُ الرديءَ والذي ارتضاهُ بعدَ حينٍ.

ينكفئُ كلَّ ليلةٍ تحتَ نافذةِ محبسهِ الباردِ يترقبُ تسللَ ضوءِ النهارِ من خلالِ قضبانِها المتشابكةِ، يستجدي غفوةً ويلتمسُ ساعةً واحدةً من ليالٍ طويلةٍ نامها قريرَ العينِ في بيتِهم.

 

ومع كلِّ أولِ ضوءٍ يأتيهِ على نافذتِهِ، عصفورٌ جميلٌ في زرقةِ السماءِ، يُغَرِّدُ ويلتقطُ الحَصَى المتناثرةَ حولَ قضبانِها. أصبحَ ينتظرهُ، وما كانَ يخلفهُ، وكلما أتاهُ حاولَ أن يقتربَ منهُ فيطيرُ بعيدًا فيحزنُ، وتمنى لو بقي عندهُ هذا العصفورُ واعتملتْ برأسِ الشابِ فكرةُ اقتناءِ العصفورِ، فيحتالُ حيلَ الصغارِ ويدبرُ قفصًا ويفخخُ للعصفورِ ليلًا ويقبضُ عليهِ صباحًا، وزَجَّ بهِ في القفصِ منفردًا.

 

وراحَ يراقبُ صدمةَ سجينهِ الصغيرِ وهو يحاولُ أن يطيرَ، وفي كلِّ مرةٍ يرتطمُ بقضبانِ القفصِ الجريديةِ ويهوي إلى قاعدتِهِ فيقولُ: ها أنا أيضًا قد أصبحتُ سَجَّانًا، وفي اللحظةِ ذاتها يدفعُ السجانُ بابَ الزنزانةِ ويلقي للشابِ طعامهُ ويقولُ لهُ ساخرًا: ها ها أصبحتَ سَجَّانًا أيضًا أيها الصغيرُ.

ينظرُ الشابُ للعصفورِ قائلاً: أسمعتَهُ؟!

 

سأحرركَ عندما يطلقونَ سراحي، لا تنظرْ إليَّ هكذا! أنا أيضًا لم أفعلْ شيئًا، هتافًا واحدًا ألقى بي هنا! هتافٌ هتفتْ بهِ الجماهيرُ المحتشدةُ، توغلَ إلى نفسي وهاجتْ له مشاعري، فهتفتهُ معهم.

ليتكَ كنتَ هناكَ، وهم يقبضونَ على مرافقي ويضربونَ ويقولونَ: هل تهتفونَ وتتظاهرونَ؟!

علامَ تهتفونَ؟! أنتم تتكاثرونَ، وتأكلونَ عيشًا عيشًا ألا تشبعونَ؟!

أتراهمْ أيها العصفورُ لا يعرفونَ أن أبي يكدّ ليلَ نهارَ من أجلِ رغيفِهم هذا؟!

يحاولُ العصفورُ الفرارَ من القفصِ فيرتطمُ بقضبانهِ الجريديةِ ويهوي إلى قاعهِ.

تراهُ أين يبحثُ عني الآنَ؟! أبي يضعُ في كفي كلَّ صباحٍ يسيرَ قروشهِ وما زالَ يلقنني: "استقمْ كما أُمِرتْ". وأمي لهفَ قلبي للهفتها، على ما بالها الآنَ؟! وهي التي لا تغفو حتى تدثرَنا أنا وإخوتي، تلوكُ كلَّ يومٍ الكفافَ.. ولكنها تصبُ الأحلامَ والأماني الطيبةَ في أواني طعامِنا.

 

يصيحُ العصفورُ غاضبًا لا يأبهُ لكلامِ الشابِ ويحاولُ أن يطيرَ فينتهي إلى ما انتهى إليه في كلِّ مرةٍ.

يسكنُ العراكُ بينَ العصفورِ والشابِ الذي وجدَ أخيرًا ما يُسَرِّيهِ، فراحَ يدبرُ للعصفورِ إناءَ سقايتهِ، ويوفرُ لهُ بعضًا من طعامهِ الرديءِ الذي ارتضاهُ العصفورُ بعدَ حينٍ.

وتمرُ الأيامُ وتكثرُ حتى صارتْ أسابيعًا، يذبلُ العصفورُ ويتجاهلُ الشابُ ويؤثرُ صحبتهُ على أن يطلقهُ. الأسابيعُ كثرتْ وصارتْ أشهرًا، ويرى العصفورُ الشابَ ذابلاً وهو لا يدري،

كان يظنُ أنهُ أمرٌ عارضٌ ولابدَّ أنهمْ سيعلمونَ أنهُ مجردُ فتى يجبُ أن يعودَ لبيتهِ.

العصفورُ ينزوي مهزومًا في قفصهِ، والشابُ ينكفئُ أسفلَ النافذةِ

يرقبُ.. آخرَ شعاعٍ للشمسِ أن ينسحبَ خلالَ قضبانها،

ومعَ آخرِ ضوءٍ يقتربُ من عصفورهِ السجينِ قائلاً: طالَ الوقتُ رفيقي وأصبحتَ لا تُغَرِّدُ، تجاهلتْ محنتكَ وأشركتُكَ محنتي في غرورٍ، سامحني، في الصباحِ .. أطلقُ سراحك.

وفي الصباحِ

صخبٌ وضجيجٌ كبيرانِ، طلقاتٌ ناريةٌ كثيفةٌ تدوي في كلِّ اتجاهٍ، صياحٌ وصراخٌ يأتي من كلِّ صوبٍ، الشابُ يثبُ وثباتٍ متتاليةٍ محاولاً أن يستطلعَ الأمرَ من خلالِ النافذةِ، يُصدمُ بابُ زنزانتهِ بعنفٍ ثم يُفتحُ بكاملهِ، يناديهُ:

اهربْ أيها السجينُ!

يرتبكُ الشابُ لا يدري ماذا يفعلُ، يهرولُ نحوَ بابِ الزنزانةِ، يعودُ مسرعًا حيث العصفورُ يحررهُ قائلاً: اهربْ أيها السجينُ، ويهرولُ ثانيةً تجاهَ البابِ، يلقي نظرةً أخيرةً على العصفورِ فيجدهُ كلما حاولَ الطيرانَ طارَ حتى ارتفاعِ القفصِ الذي قد تحررَ منهُ ويهوي إلى الأرضِ، ثم يجدُ مرةً أخرى في الطيرانِ فلا يتجاوزُ مثلَ محيطهِ وينتهي إلى الأرضِ، يضطربُ الشابُ، يدورُ حولَ العصفورِ حائرًا يحاولُ أن يتجاوزَ بابَ محبسهِ فلا يستطيعُ، وكأنهُ وقد أصبحَ القفصُ والزنزانةُ للسجينين الصغيرين هما،،،

كُـلُّ الفَضَـــاءِ.