..المذكرات الشخصية ليست عملا شائعًا فى الثقافة المصرية والعربية خاصة إذا كان من يريد كتابة المذكرات شخصية سياسية أو انخرطت فى العمل العام، ولكن فى الفترة الأخيرة بدأت عملية نشر المذكرات الشخصية للسياسيين فى مصر والعالم العربى تأخذ مساحة معقولة فى المكتبة المصرية والعربية.
هذا الشح فى كتابة المذكرات الخاصة بالسياسيين والمنخرطين فى العمل العام عندنا يقابله فى الغرب وتحديدًا فى الولايات المتحدة كثافة شديدة فى النشر فالمسئول السياسى أو العسكرى أو الأمنى أو فى أى مجال من مجالات العمل العام بمجرد خروجه من منصبه تبدأ دور النشر فى التسابق من أجل التعاقد معه لنشر مذكراته.
تعتبر عملية نشر مذكرات الشخصيات العامة عملا شديد النظام والربحية فى الولايات المتحدة فحسب دور الشخصية وشعبيتها فى الحياة السياسية الأمريكية وما أثارته من جدل حول قراراتها يكون الرقم المدفوع من دار النشر لصاحب المذكرات والذى يصل فى كثير من الأحيان إلى رقم وأمامه ستة أصفار.
تحظى نوعية أخرى من المذكرات الشخصية باهتمام خاص من دور النشر الأمريكية وهى مذكرات القادة العسكريين ورجال أجهزة الاستخبارات لأن اسم صاحب المذكرات وموقعه يحفز القارئ على الشراء بسبب طبيعة عمل الشخصية صاحبة المذكرات وما سيكشفه من أسرار مثيرة.
آخر هذه النوعية من المذكرات التى أثارت ردود فعل قوية والصادرة قبل أيام كانت بعنوان "نقطة الانصهار" للجنرال كينيث ماكينزى قائد القيادة الوسطى فى الجيش الأمريكى.
تأتى الإثارة فى مذكرات الجنرال ماكينزى لأنه كان المسئول المباشر عن عملية قتل قاسم سليمانى قائد فيلق القدس فى الحرس الثورى الإيرانى.
بالتأكيد دارالنشر تعلم جيدا أنها ستعوض ما دفعته لأصحاب تلك المذكرات سواء سياسيين أو قادة عسكرين ورجال الاستخبارات من حجم المبيعات للنسخ المطبوعة و نسخ ال PDF هذا غير حقوق نشر المعلومات فى المذكرات لذلك توجد وظيفة مرتبطة بعملية النشر تلك وهى وظيفة "الكاتب الشبح ".
هذا "الكاتب الشبح " هو كاتب محترف وفى الأغلب يكون صحفي متمرس يتولى إعادة صياغة المعلومات التى توفرها له الشخصية صاحبة المذكرات فى حال أن صاحب المذكرات لايمتلك موهبة الكتابة .
بنسبة كبيرة أغلب المذكرات التى كتبتها شخصيات عامة أمريكية تولى صياغتها "الكاتب الشبح" الذى حاز على هذه الصفة لأن اسمه لايظهر على غلاف المذكرات لذلك يظل شبحًا بالنسبة للقارئ ويتلقى أجره من دار النشر التى تتولى طبع ونشر المذكرات.
لا تأتى أهمية هذه المذكرات من كونها فقط تحقق أرباحًا أو تعطى لصاحبها شهرة فوق شهرته، تتمثل الأهمية الأكبر فى أنها وثائق تاريخية تسهم فى بناء ذاكرة الأمة وتفسر للمواطن الذى يتعامل مع النظام السياسى والدولة طبيعة وظروف القرار الذى أتخذ وقتها مما يعطى ثقة للمواطن فى دائرة صنع القرار داخل دولته خاصة عندما تكون هذه القرارات متعلقة بالجوانب الأمنية والاستخباراتية التى تظل لحساسيتها سرية ولا يكشف عنها إلا وفق مدد زمنية محددة وممن عاصروها.
إذا كانت حركة نشر المذكرات للشخصيات السياسية المصرية والعربية شهدت نشاطًا ملحوظًا فى الفترة الأخيرة إلا أن النوعية الخاصة بمذكرات الشخصيات المصرية والعربية التى عملت فى المجال الاستخبارى والأمنى شديدة الندرة، بحثت طويلا عن هذه النوعية من المذكرات فى المكتبة المصرية والعربية ووجدت عددًا لا يخرج عن أصابع اليد الواحدة ومنذ سنوات قرأت عن مذكرات اللواء حسن طلعت مدير المباحث العامة السابق والذى بعد ذلك أصبح جهاز مباحث أمن الدولة وحاليا جهاز الأمن الوطنى .
صدرت هذه المذكرات تحت عنوان "فى خدمة الأمن السياسى من عام 1939 الى عام 1971 " وكانت طبعتها الأولى فى العام 1983 ، طوال سنوات بحثت عن نسخة من هذه المذكرات ولكن لم أوفق إلى أن عثرت على نسخة منها.
هناك أسباب عديدة تحرك شغف أى محب لتاريخ هذا الوطن فى البحث عن هذه المذكرات لعل أولها الفترة التاريخية التى تغطيها مذكرات اللواء حسن طلعت وهى فترة شديدة الغنى بالأحداث الفاصلة فى تاريخ الوطن الأمرالآخر أن النافذة التى سنطل منها على هذه الأحداث نافذة غير مسبوقة رغم العديد من الكتابات التى غطت نفس الفترة تاريخيًا، لأن صاحب المذكرات ليس شخصية سياسية أو عامة يمكن لها التصريح الدائم بما تفعله أوشرح طبيعة قراراتها بل عمله كرجل أمن وتوليه أعلى درجات هذا العمل فرضت عليه السرية التامة فى قراراته ولا يمكن له بالتأكيد شرحها إلا بعد مدة طويلة من الزمن.
من ضمن الأسباب العديدة التى تعطى لهذه المذكرات أهمية خاصة غير طبيعة منصب صاحبها أنها تكشف مراحل صعود خطر الفاشية الإخوانية وتهديدها لمفهوم الدولة سواء فى العهد الملكى أو بعد ثورة 23 يوليو لتثبت المعلومات الواردة فى المذكرات أن الفاشية الإخوانية ودون شك تستهدف الدولة فى الأساس مهما اختلف النظام السياسى ملكى أو جمهورى.
يضع صاحب المذكرات رؤية محددة فى البداية للأحداث التى سيتناولها لتكون محايدة "لم يكن اتصالى بالأحداث السياسية اتصالا صانعا أو مفجرا لها بل كان اتصال رجل أمن يعايشها أو يداورها أو لتفاجئه بدورها فتجرفه معها وقد تزامنت خدمتى بالشرطة مع كل الأحداث العظام التى عاشتها مصر خلال أربعة عقود من أواسط القرن العشرين ".
رغم غنى هذه المذكرات بالكثير بالمعلومات التاريخية الهامة والمثيرة فى نفس الوقت وتحتاج إلى سلسلة من الحلقات لنشرها إلا أن الصراع مع الفاشية الإخوانية فى مراحله المتعددة من الملكية إلى الجمهورية يؤكد طبيعة هذا التظيم الإرهابى وعمالته لقوى الاستعمار وأن غرضه الأساسى الصدام مع الأمة والدولة المصرية بكافة الوسائل المنحطة.
أول صدام بين صاحب المذكرات والجماعة الفاشية كان فى مدينة الإسماعيلية حيث تم تعيينه ضابط القلم الخصوص أو البوليس السياسى المسئول عن الأمن السياسى بالمحافظة.
تكشف الواقعة التى يثبتها فى مذكراته تأصل مفهوم الخداع والكذب فى الجماعة الفاشية وعلى رأسها مرشدها ومؤسسها حسن البنا، قررت الجماعة الفاشية الاحتفال بذكرى تأسيسها العشرين فى العام 48 بمدينة الإسماعيلية لأنها المدينة التى شهدت بدايتها مع مرشدها حسن البنا وقررت وزارة الداخلية والمحافظة رفض التصريح بالاحتفال خوفا من أن يرتكب عناصر الإخوان أعمال عنف.
من الواضح أن خبرات صاحب المذكرات وقتها لم تكن تتيح له اكتشاف مدى خسة وانحطاط هذه الجماعة ومرشدها " لحسن ظنى بالناس فقد تصديت لإقناع المسئولين بالموافقة على إقامة الاحتفال لأهمية المناسبة عند أفراد الجماعة (..) واعتمدت على ماقدمه لى قادة الإخوان بالإسماعيلية من تعهدات ووعود بأن الأحتفال سيقتصر على تلاوة القرآن الكريم وإلقاء بعض الكلمات وتقرر إقامة الاحتفال وأصبحت المسئول شخصيًا فى حالة الإخلال بالأمن العام " قدم المرشد وقادة الجماعة كافة الوعود للضابط حسن طلعت بأن احتفالهم لن يخرج على ما أعلنوه عن تلاوة القرآن الكريم والكلمات.
يسرد اللواء حسن طلعت دهشته وصدمته مما فعلته الجماعة الفاشية وأنها لا تعرف أى سلمية فى تحركاتها ولا تحفظ أى وعود "أخذت جموع الإخوان تنهال على المدينة مستخدمين كافة وسائل النقل ولم يأت المساء حتى كان بالمدينة عدة آلاف من أفراد الجماعة القادمين من مختلف أنحاء البلاد وهو الأمر الذى لم أكن أتوقعه أو أحسب له حسابا وبدأ الاحتفال باصطفاف أفراد الجماعة فى طابور عرض تقودهم سيارة جيب بها ميكرفون تتبعها فرقة موسيقية نحاسية وتحرك الطابور مخترقا شوارع المدينة ضاربين باتفاقنا عرض الحائط " .
بالتأكيد كانت الجماعة الفاشية تقوم باستعراض قوة وقتها ولم يجد صاحب المذكرات إلا البحث عن حسن البنا وصهره عبدالله الصولى رئيس شعبة الإخوان فى الإسماعيلية لكى يتراجعوا عن هذا الاستعراض العسكرى الذى ينبئ بوقوع أعمال عنف ولكن البنا وصهره اختفيا تمامًا.
لم تكن قوات الشرطة المتواجدة مع الضابط حسن طلعت تتجاوز 15 جنديًا فى مواجهة الآلاف بالإضافة لضابط المباحث الجنائية وأدرك وقتها أن الإخوان بهذا الحشد يريدون الصدام وإشاعة الرعب فى المدينة ليتأكد الجميع من قوتهم.
" قررنا عند ذلك التصدى للمسيرة مهما كلفنا الأمر وعدم السماح لها بالمرور من النفق ــ نفق السكك الحديدية ــ وكان موقفنا لابأس به (..) وعندما حاولت طلائع المسيرة الاقتراب من مدخل النفق أطلقنا عدة أعيرة نارية فى الهواء وكم كانت دهشتنا عندما ارتد الطابور على أدراجه راجعًا الى السرادق طاويًا أعلامه مخرسًا أبواقه وعند ذلك ظهر حسن البنا وعبدالله الصولى وذكرا لى أن ماحدث كان بغير علمهما ومخالفا لأوامرهما".
تكشف هذه الواقعة أن منهج الفاشية الإخوانية لا يتغير فى الخداع والكذب وعلى رأس المخادعين والكذابين مرشدهم وأن اللغة الوحيدة التى تخرسهم هى لغة القوة .
نأتى لواقعة أخرى على درجة كبيرة من الأهمية فى نفس المدينة الإسماعيلية عندما التقى صاحب المذكرات بمحمود عبد المجيد طالب كلية الطب البيطرى قبل إعدامه والذى اغتال النقراشى باشا رئيس الوزراء ووزير الداخليةعقب حل الجماعة فى 1948 نتيجة للاغتيالات والتفجيرات التى قامت بها الفاشية الإخوانية.
"فقد ضبط الذى أطلق النار عليه وأتضح أنه طالب بكلية الطب البيطرى يدعى محمود عبد المجيد والتزم الصمت أثناء التحقيقات وأنكر صلته بقيادة الجماعة إلى أن أصدر حسن البنا بيانًا فى الصحف استنكر فيه تلك الجريمة وقال إن الذين ارتكبوها ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين عندئذ غضب محمود عبد المجيد واعترف وقدم تفصيلا مطولا لطريقة تجنيده ومبايعته المرشد العام على السمع والطاعة, وكيف اجتمع بمفتى الإخوان الشيخ سيد سابق الذى أفتى أن قتل النقراشى حلال وأنه فى حكم المرتد" وثبت فى التحقيق أيضا أن أحد أفراد الجماعة كان مكلفًا بقتل الجانى محمود عبد المجيد ليموت ومعه سره.
يقدم هنا صاحب المذكرات شهادة هامة عن ضحايا الجماعة الفاشية الذين خدعوا بمنهجها الإجرامى وساروا فى طريق الإرهاب " وقد شاهدت محمود عبد المجيد قبل إعدامه عندما حضر الى الإسماعيلية تحت الحراسة للإرشاد عن بقعة بصحراء عين غصين بالإسماعيلية كان يتدرب بها على استخدام الأسلحة المختلفة وقد صاحبته حوالى الساعتين ونحن نتجول فى الصحراء على الأقدام بحثًا عن المكان الذى كان يقصده فوجدته شابًا وديعًا يفيض ندمًا وأسفا على ما جنت يداه فامتلأ قلبى همًا وحزنًا على هذا الشاب الذى كان يمكن أن يكون عدة لمصر وقد حكم على شركائه بالأشغال الشاقة المؤبدة. وعندما قامت ثورة 23 يوليو أخلت سبيلهم ليبدأوا صفحة جديدة فى خدمة بلادهم وقد التقيت بأحد هؤلاء الشركاء بعد أن أتم دراسته وشغل منصبًا كبيرًا فى أحدى شركات القطاع العام وهو الأستاذ محمود كامل وقد قص على كيف كانت سيطرة حسن البنا عليهم طاغية وكيف شحن نفوسهم بالإقناع بأن الجريمة التى سيقدمون على ارتكابها هى جهاد فى سبيل الله يرقى بهم إلى مرتبة الشهداء من صحابة النبى وأنهم قبل أن ينطلقوا إلى مواقعهم كانوا يقبلون بعضهم البعض مودعين ومتواعدين على اللقاء فى الجنة " .
تؤكد هذه الشهادة الهامة تطابق منهج الفاشية الإخوانية فى التجنيد والإجرام مع كافة التظيمات الإرهابية الأخرى وعلى رأسها داعش الفارق الوحيد أن الفاشية الإخوانية هى الأصل الذى أنتج كل التنظيمات الإرهابية.
فى نفس الوقت تشير هذه الشهادة إلى أمر هام ، أن ثورة 23 يوليو لم تتخذ فى البداية أى موقف عدائى تجاه عناصر الجماعة الفاشية بل أفرجت عن البعض منهم من الذين اشتركوا فى جرائم الفاشية وأعطتهم فرصة ليستعيدوا حياتهم ولكن الجماعة الفاشية هى من حاربت الثورة والدولة وأرادت أن تكون سلطة الحكم لها بكافة الوسائل العنيفة والإرهابية .
مازالت المذكرات تحوى تفاصيل متعددة حول تصاعد هذا الصراع مع الفاشية الإخوانية بعد قيام ثورة 23 يوليو وغيرها من الموضوعات شديدة الأهمية لنطل على هذه الفترة التاريخية من نافذة نادرة فى إطلالتها .. لكن إلى مساحة أخرى .