أبتسم لأكون أقوى: مغامرة الصدق في أدب اليافعين

صورة موضوعية
صورة موضوعية

مصطفى الشيمي

في رواية «أبتسم لأكون أقوى» (رواية لليافعين- دار الشروق) المرشحة للقائمة القصيرة لجائزة اتصالات لكتاب الطفل، والقائمة الطويلة لجائزة الملتقى العربى لناشرى الأطفال، تقدم شيرين سامى كتابة يمكن وصفها بأنها مغامرة سردية جريئة فى أدب اليافعين لأسباب عديدة. فأدب اليافعين أدب إشكالى بطبيعته وحافل بالجدل الأخلاقى، وترجع إشكاليته ببساطة، كما يحددها آلان ألكسندر ميلن، إلى أنه أدب يزعم أنه معبر عن اليافعين لكنه مكتوب من قبل الكبار، وبذلك تبقى فكرة التعبير عن اليافع مجرد ادعاء، فكثيرًا ما يكتب البالغون نصوصًا موجهة لليافعين وللأطفال بعين «الحنين إلى الطفولة» حيث يستدعى أدباء الطفل أو اليافع الذى كانوا عليه، وهو استدعاء متخيل بالضرورة ويقع أثر سكينة الذاكرة، لو صدق وعبر عن الطفل أو اليافع، فهو يعبر عن الطفولة فى عصر آخر، فالطفولة مفهوم ثقافى متغير كما يرصد فيليب آرييس فى كتابه «قرون من الطفولة».

ومن إشكاليات ذلك الأدب أيضًا، أنه أدب سلطوى وحافل بالوصاية الأخلاقية والطابع الدعائى حد أن الأنظمة الشمولية استعملته كما فعل نظام موسيلينى لغرس بذور الفاشية كما رصدت كيمبرلى رينولدز فى كتابها «أدب الأطفال مقدمة قصيرة جدًا»، وهو ما يؤكده أيضًا بيتر هنت حين يقول «من المستحيل ألا تكون كتب الأطفال تعليمية أو مؤثرة بشكل أو بآخر، كما أنها لا تخلو من انعكاس أيدولوجى ما أو تخفى فى طياتها هدفًا وعظيًا»، وإن كان من الممكن الجدل بأن ذلك ينطبق على كتب الأطفال وأى كتاب آخر، لكنه يتجلى أكثر فى أدب الأطفال واليافعين.

ويرجع ذلك ببساطة إلى أنه أدب محكوم بقبضة قوية من المؤسسات (دور النشر، مؤسسات الطفل، الجوائز الأدبية، المكتبات، أولياء الأمور، المعلمون)، وهذه المؤسسات تعمل بوصفها «حراس البوابات» التى تقوم بواجبها وتصفية ما يجب أن يكون عليه هذا الأدب وما لا يجب أن يكونه فى ضوء مفهوم الهيمنة الثقافية لأنطونيو غرامشي.

ليس غريبًا إذًا أن يعلن الكثير من أدباء اليافعين فى الوطن العربى عن ضرورة وجود مساحة حرية أكبر فى الكتابة اليافعين، والشكوى من أدباء اليافعين من غياب أو قلة تناول العلاقات الرومانسية فى أدب اليافعين العربي، شكوى تكشف عن سلطة تلك المؤسسات على كاتب اليافعين، كأنه ينتظر الضوء الأخضر للكتابة! رغم أن الميل للجنس الآخر جانب أساسى فى النمو النفسى والمعرفى لليافعين فى تلك المرحلة العمرية، لكن الأدب المحافظ يتجاهل ذلك الجانب ولو على حساب الصدق الفنى.

لكن هذا ما لا تفعله رواية «ابتسم لأكون أقوى»، إذ تعلى من قيمة الصدق الفنى فى تناولها ورسمها لواقع اليافعين. فى رواية واقعية، يمكن وصفها بالواقعية المفرطة، إذ لا تسعى لتزييف الواقع أو تقديم صورة طوباوية عن الحياة. تقدم حياة اليافعين الصادقة «شعرت بأننى مدنس بالكامل.. صور وفيديوهات بذيئة وسجائر»، دون أن تعبر من مصفاة السلطة، دون أن يسعى السرد لتنقية كلمات ألسنتهم القذرة، فهكذا يحادث البطل صاحبه بصدق «فى أحلامك يا زبالة»، وهكذا تدور الكلمات فى رأسه بسخرية لاذعة حين يسأله رجل بالغ إن كان يسمح له أن يعطله عن النوم «طبعًا، لا أسمح أيها البغيض ذو الشارب الأحمق»، ومع ذلك يغمغم بأدب «تفضل».

دون أن يقوّمَ السرد سلوك اليافع أو يهذبه، ولا يعاقبه على الذلات والهفوات، لأنه يخلق أجواء عالمه العامة عبر التقاط كل هذه التفاصيل الصغيرة، حتى عبر التقاط علاقات البطل الرومانسية الفاشلة بفتاة أغواها أحد أصدقائه وانتشلها منه، وحتى فى التقاط بثور المراهقة التى تعود إلى وجه البطل أو يراها فى وجه صديقه الغبى الذى يقشرها فيأتى إلى المدرسة بوجه دام كل صباح، وحتى فى التقاط علاقته المتوترة بوالديه اللذين ينقدهما البطل بقوة «كان طموحى أن أبعد عنهما، عن أبى الملتصق بالكنبة طوال اليوم دون أن يوجه لى سوى نقد أو طلب، وأمى المتحولة، التى تفاجئنى بالصراخ بعد الغناء، والبكاء بعد كركرة الضحك.. أمى التى تحمل فى قلبها دائمًا قنبلة مستعدة للانفجار. طالما تمنيت ألا أشبه أيا منهما»، رغم أن والديه عاديان، وبيته عادى مثل بيوتنا، والبطل نفسه عادي، لذلك يشبه أى يافع آخر، فى أى مكان. وهكذا، عبر التقاط السرد لتلك التفاصيل الصغيرة تتحدد الأجواء وتتجلى المشاعر والعاطفة فى الهالة التى تغلف العالم. 

يسرد لنا البطل العادى آسر حكايته بالراوى المتكلم، ليست لحظة وقوع الحدث، بل فى سن الحادية والعشرين، أى بعد وقوع الأحداث بخمسة أعوام. يجيب الراوى على سؤال: لماذا اختار أن يقص علينا الحكاية فى ذلك العمر تحديدًا؟ باحتمالات غير يقينية، حتى تخفى الضرورة الفنية التى استند عليها السرد، النظرة التأملية وإمكانية إعادة قراءة ونقد الأحداث والخبرات التى عاشها المرء، والقدرة على التلاعب بالزمن بالذاكرة الترميمية، بتشظئ الحكاية وتداخل حكايات شخصيات أخرى قبل ظهورها فى مسرح الأحداث، وتسرد بالراوى الغائب.

مسرح الأحداث هو مسرح حقيقي، فى أحد برامج اكتشاف المواهب التى تجذب المراهقين والشباب هذه الأيام، حيث يقف الأبطال على خشبة المسرح وأسفل هالة الضوء لتقديم العروض. خشبة المسرح، بطبيعة الحال، تمثل تجسيدًا للواقع، لكنه ليس الواقع الحقيقى نفسه، وقد يوجد الواقع الحقيقى فى الكواليس بأكثر  مما يتجسد على المسرح، بعيدًا عن الضوء، وفى الظل، حيث يحاول بطل الرواية آسر انتزاع القناع الذى يرتديه، وانتزاع اقنعة المحيطين به والراغبين فى استغلاله، فبدلًا من أن يقدم العرض الفنى الذى جاء لأجله، يحاول آخرون استعماله كعروس الماريونت، لتقديم صورة مشوهة عن نفسه. ولقد جاء فى الأصل لاكتشاف حقيقته.  

لكن هذا البطل العادى الباحث عن نفسه، كأى يافع آخر، لا يشبه أى يافع آخر أيضًا، فلديه حكايته الخاصة والتراجيدية، ثمة جانب مأساوى فى حياة آسر بعدما تسبب فى إشعال حريق بالمنزل بعقب سيجارة مختلسة، فأحرق على أثرها نصف وجه أخته الحبيبة الصغيرة «دليلة» التى تمثل له كل شىء فى المنزل وكل معانى الأمان أيضًا «أصاب بالرعب عندما أجد نفسى وحيدًا فى البيت أو الشارع، دليلة هى اطمئنانى الذى يحمل الونس وأمان الاتصال بالحياة، هى هاتفى المحمول». لكن هذه المحبة البالغة تتحول إلى اللعنة التى تطارده بعد الحادثة. 

الجانب المأساوى المتعلق بآسر يكسبه تعاطف القاريء؛ إنه بطل تراجيدي، مدفوع بخطيئته فى الأحداث ورغبته فى التطهير. لقد سقط سقطة عظيمة، لكنه سقط بجهالة؛ فكم من مراهق آخر يدخن السجائر خلسة ولا يشعل الحرائق. لو كان يعرف؛ ما ارتكب هذا الخطأ الصغير، كأوديب، أو بطل تراجيدى آخر، يقف ضده قوى القدر الغيبية. لكن سقوطه فى التجربة هو بداية الأحداث التى تتعقد أكثر، بينما يتعرف على طبيعة الواقع أكثر. يمكن لخطأ صغير أن يدمر حياة بأكملها، كما تقدر القشة الصغيرة على قسم ظهر البعير أحيانًا.

يجد آسر نفسه فى صراع جديد، فى رحلته للتصالح مع نفسه، فى رحلته للرقص على خشبة المسرح رقصته التى يحبها وتحبها أخته دليلة، أو أن يتحول إلى ذلك المهرج أو عروس الماريونت ويلعب الدور الذى لم يختاره لنفسه، بل قُدر عليه. 

تتعقد تراجيدية هذا البطل أكثر فى رحلته للتحرر من أخطائه ومن نظرة الآخرين له، حين يجد نفسه مجبورًا أيضًا على لعب دور لم يختره لنفسه، وحين يحاول الثورة على ذلك الدور وأن يكون الشخص الذى يريده، يجد نفسه مجبرًا أيضًا على أحد الاختيارين. إما أن يكون ذلك المهرج وعروس الماريونت الذى يحركه أحد مسئولى البرنامج أو يكون نفسه كما يريد. إن باع نفسه وجد علاجًا مجانيًا للحروق التى تسبب بها لأخته دليلة، وإن قدم رقصته المفضلة وكان نفسه ولعب الدور الذى اختاره لنفسه، ستعيش دليلة بتلك الحروق طوال حياتها.

لا يتعلق الأمر برفاهية أن يكون الإنسان نفسه فى الحياة، بل بالضغوط التى يفرضها الواقع على الإنسان؛ حيث يصبح الاختيار معضلة. يسأل البطل «كل هذا مقابل أن أكون مهرجًا!»، تنتابه مشاعر الألم والخذلان والضياع وهو يرى هذا الجزء القبيح من العالم. أى الاختيارين هو الخير؟ ما الخير؟ ما الشر؟ ثمة مقابل جيد دومًا يجده المرء حين يبيع نفسه؛ لكن ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟! وماذا ينتفع أيضًا لو اشترى نفسه بروح دليلة! وهكذا يجد البطل نفسه واقفًا على الحبل كالمهرج، والحياة الواقعية تلهو به كيفما شائت، وهكذا تجسد رواية «ابتسم لأكون أقوى» مأساة أن تقع فى هذا الواقع المربك المعقد، ومأساة كل يافع بينما ينضج.