عن الكتابة والترجمة

الكلمة هنا والمعنى هناك: تأملات موريس بلانشو

 موريس بلانشو
موريس بلانشو

أحمد الزناتي

طالعت بضع صفحات من هذا الكتاب وقلت فى نفسي: على الإنسان أن يذكّر نفسه بقدْر نفسه من حين إلى آخر، وأن يرفع الراية البيضاء بلا خجلٍ لو صادف جبلًا عاليًا وزيّن له غروره أن يتجاوزه أو أن يتحايل عليه، ليس لأن المؤلف رُزِق بعقليْن أو ثلاثة على عكس بنى البشر، وإنما لأن الإخلاص للأدب سرّ ومشقة لا يقوى عليها الجميع. تداعت الأفكار السابقة إلى ذهنى وأنا أتصفح كتابًا متَرجمًا مهمًا للكاتب والناقد والفيلسوف الفرنسى الشهير موريس بلانشو يحمل عنوان Friendship، والكتاب مؤلف من تسع وعشرين مقالة قصيرة (أو بالأحرى تسع وعشرين قطعة نثرية). عُرف عن بلانشو ميله الشديد للعزلة. وهو على كل حال شخصية يلفّها الغموض، متوارية عن الأنظار، نادر الظهور فى الإعلام، يُقال إنه لم يُــرَ طوال آخر عقدين من حياته إلا لمامًا فى جولات المشى الطويلة، ربما كان يواصل تحليل قلعة السيد «كا» منذ أن بدأ قراءتها فى شبابه سنة 1945 على حد كلامه فى مقالته عن كافكا.

عنده شذرة غريبة طالعتُها قبل سنوات فى كتابه الفاجعة (ت: عز الدين الشنتوف، توبقال 2018) تقول: «يجب حفظ العبارات التى كتبها أوفيد عن نرسيس (أودَت به عيناه، إذ رأى نفسه فى الله، لأن مَن يرَ الله يمُتْ). تذكّرتُ الآية القرآنية التى تصف حال نبى الله موسى بعد أن تجلّى الله للجبل وخرَّ موسى صعِقًا، ولما أفاق (من الموت المؤقت؟) تاب إليه. فأيقنت من وقتها أن بلانشو عَظْمة ثقيلة؛ عين هنا، وعين هناك. 

يخلو العمل من مقدمة أو تمهيد يقدم فيه أفكاره، والأرجح عندى أنها مقالات كُتبت على مدار فترات زمنية متفرقة، واختار مترجمها إلى الإنجليزية هذا العنوان كيفما اتفق. لكن الكتاب، على تعقيد لغته، ممتع (وهذه هى السمة الأبرز)، حيث يتكلّم عن فكرة ميلاد الفن، عصر الموسوعات، الترجمة، الحُلم والكتابة، كافكا وبرود، كلمات كافكا الأخيرة، والصداقة وعناوين أخرى. ونظرًا لضيق المقام هنا سأتكلّم عن مقالتين لافتتين، وهما: الحُلم والكتابة والترجمة. 

يروج بلانشو لفكرة الكتابة بوصفها وسيلة لاكتشاف الذات والتعبير عن الوجود، ولكنه فى الوقت نفسه، يرى أن اللغة قاصرة اليد، محدودة القدرات فى التعبير عن التجربة الإنسانية. فى اقتباس لافت عن اللغة والكتابة يقول: «يبدو أن قِوام الأدب هو محاولة الكلام فى لحظة يعجز فيها اللسان عن الكلام». 



وبحسب ابن رشيق القيرواني: «اللفظ جسم روحه المعنى»، الأرواح = المعانى وفق ذلك غير مرئية، والألفاظ هى المرئية، أو بتعبير فيتجينشتاين الكلمة هنا والمعنى هناك؛ ويسرى ذلك على الأدب والترجمة على حد سواء كما سنرى.

يجعل الاستكشاف الدائم لحدود اللغة والصمت أعمالَ بلانشو مرآةً تعكس أعماق العزلة الإنسانية ومعناها، وبين النُطق والصمت برزخ فيه قبر العقل وفيه قبور الأشياء على حد تعبير النفّري. وهذه الفكرة تتجلى فى أسلوبه الأدبى الذى يميل إلى طمس الوضوح، وإلى ترك مساحة واسعة لتفسيرات متعددة (= تأويلات متعددة = ترجمات متعددة)، وهذا ما زيَّن لى فكرة اختيار المقالتين السابقتين لتسليط الضوء عليهما.

لو استعرنا تعبير بورخيس فالكتابة حُلم موجّـه؛ هذه أيضًا وجهة نظر بلانشو، لكنه يرى الحُلم إغواءً (وفى ترجمتى تحريضًا مغويًا) على ممارسة الكتابة. لنقرأ الفقرات التالية:
«لنحلُم «نلاحظ ابتداءً أن الرجل لم يقل لنتكلّم/لنناقش» بصلة القرابة المفترضة بين الحُلم والكتابة، ولا أقول بين الحُلم والكلام. من المؤكد أن من يستيقظ تعتريه رغبة غريبة الأطوار فى الحديث عن نفسه، فتراه يفزع إلى البحث عن مستمتع صباحى يشاطره العجائب التى رآها فى منامه، لكنه ربما  يتفاجأ قليلاً بأن هذا المستمع ليس مسكونًا بالعجائب مثله.

ثمة أحلام استثنائية سوداوية كئيبة، وأخرى قاتلة، ولكننا فى أغلب الأحيان نفرح بأحلامنا، ونمتليء بالزهو الساذج اللائق بالمؤلفين. يملؤنا يقين من أننا أنشأنا أعمالًا أصيلة فى أحلامنا، ومع ذلك يتعيّن على المرء أن يسأل نفسه: ما إذا كان مثل هذا العمل يريد حقًا إلى أن يُذاع على رءوس الأشهاد، وما إذا كان كل عمل يريد أن يكون مكشوفًا حتى وهو يحجب نفسه.

فى العصور السومرية القديمة، كان المرء يُنصَح بأن يعيد حَكيْ أحلامه واستحضارها أمام الناس، وكان الغرض من وراء ذلك إطلاق القوى السحرية الكامنة فى الأحلام بأسرع وقت ممكن. ولا شك أن إعادة قصِّ الأحلام هى أفضل وسيلة للهروب من عواقبها الوخيمة. أو ربما يقرر المرء نقش العلامات المميّزة لحُلمه فوق لوح من الطين ثم يقذفه فى الماء؛ لوح الطين هنا رمز الكتابة، والماء رمز الجمهور.

ومع ذلك أرى أن حكمة العقيدة الإسلامية تبدو أكثر موثوقية فى نظري، إذ يُنصَح الحالم بتوخى الحرص والعناية فيمن يأتمنه على أحلامه، بل ويعهد إليه بالمحافظة على سره «وكأن الحُلم سرّ!»، بدلًا من إفشائه فى اللحظة الخطأ: عليك أن تروى حُلمكَ خُفية تمامًا كما وُهِب لك «وكأن الحُلم منة سماوية» ، ولا تروينّ على أحد أضغاث أحلامك.

الحُلم هو إغواء بممارسة الكتابة، ربما لأن الكتابة مرتبطة بحالة اليقظة المحايدة التى يحاول ليلُ النائم أن يخمدها، لكن ليل الأحلام يوقظ، ولا يكفُّ عن إيقاظنا دون توقف، إذ يحاول المحافظة على كينونتنا فى حالة تشبه الوجود، وإن لم تكن وجودًا حقيقيًا. ولذلك فإن الكتابة وهى تستعير من الليل صِفتَى الغموض والالتباس، وتأخذ من النوم القدرة على المحاكاة والتقليد عن أصل لا وجود له، أقول إن الكتابة ترفض كل الطرق المؤدية إلى النوم، وترفض انتفاء الوعي، وترفض بهجة الإنسان بالنعاس؛ لأن الحُلم – فى رفضه النوم [فى الأرجح يقصد بلانشو  بالنوم هنا  - فى تأويلى -  معانى الرُقاد والراحة وغياب الوعي] هو مزيد من اليقظة فى قلب الليل المدلهم، الحُلم هو وضوح، وحضوره لا يغيب، الحُلم أسير، ولذلك فهو آسِر [تعبير مذهل!]. 

ويتابع بلانشو:
«يقول كافكا: ولولا ليالى الأرق الرهيبة لما كتبت حرفًا، ويقول ل.ف. سيلين: عدد ما يُطبع من روايات كل يوم يفوق عدد ما يُقذف فى الأرحام كل ليلة، ولولا الأرق ما سطرت حرفًا،  ويقول رينيه شار بطريقة بعيدة بعض الشيء عن فن القصص: يتغذى الشعر على الأرق الدائم... وحتى عندما ننام لا يسمح لنا النومُ بالنوم، نظلُّ معلقين بين الوجود واللا وجود، وهو ما يذكّرنا بقول هولدرلين: «فى هذه الحالة بين الوجود واللا وجود، يغدو الجائز حقيقيًا، ويغدو المثالى حقيقيًا، وفى التقليد الحر للفن يكون الحُلم فظيعًا، رهيبًا ولكنه ذو نفحة سماوية. إننا نروى أحلامنا انطلاقًا من حاجة غامضة؛ وهى أن نجعلها أكثر واقعية من خلال معايشتها مع إنسان آخر». 

لغة بلانشو غامضة ومتحجرة على حد وصف مُترجم «كتابة الفاجعة»، والسبب  أنها تحاول قول ما لا يقال، تتوسل بلغة الحُلم المشفرة المدلهمة وتحويلها إلى ألفاظ. يتكلّم بلانشو عن الحُلم والكتابة وكأنما يقصد شيئًا واحدًا كما رأينا آنفًا. 

والحقيقة أننى سأكتفى بهاتين الفقرتين من مقالة بلانشو، لأننى والله شخصيًا تهتُ وشردت كثيرًا فى أثناء نقل الكلام إلى العربية. ترجمة بلانشو محتاجة إلى ترجمة، ولا أقصد نقل الألفاظ، بل أقصد ترجمةً  تُعيـر لسانها للنص الأصلي، وهذا ما سيجرّنى إلى مقالة بلانشو الثانية عن الترجمة. 

كَتَب مارتن هايدجر ذات مرة: «كل ترجمة هى فى حد ذاتها تأويل، التأويل هو إنجاز الترجمة التى ما زالت صامتة، التأويل والترجمة يشكلان شيئًا واحدًا». بينما يذهب الناقد والمفكر الأمريكى الراحل جورج شتاينر فى كتابه ما بعد بابل: «أن نفهم معناه أن نترجم»، أى أن فعل الترجمة حاضر فى كل فعل قراءة (سواء قراءة عوليس أم قراءة بوست فيسبوكى أبدَعَه روائى ومحنك سياسي). فى كل مرة تقرأ شيئًا فأنت تترجم لعقلكَ ما وراء المكتوب، وهو ما يؤكّده فالتر بينيامين فى مقالته التأسيسية مهمة المترجم، إذ يقول (نقلًا عن ترجمة أحمد حسان): «إن كل ترجمة هى طريقة مؤقتة للتوافق مع أجنبية اللغات». 

لنقرأ الفقرات التالية من كلام بلانشو عن الترجمة:
«هل نعرف حقًا الدَيْن الذى نحمله فى أعناقنا إلى المترجمين، بل وإلى الترجمة؟ الحقيقة أننا لا نعرف ذلك حق المعرفة. وحتى عندما نُبدى الامتنان ناحية الرجال الذين يخوضون ببسالة غمار حلّ اللغز، الذى هو مهمة المترجم، وحتى عندما نوجّـه إليهم التحية من بعيد لبعيد بوصفهم أصحاب الفضل الواقفين فى الظلّ على ثقافتنا، يظل شعورنا بالامتنان والاعتراف صامتًا، لا يخلو من الازدراء. أودّ تذكير القارئ بأن الترجمة لبثت فترة طويلة مَطلب يجرّ البلاء على صاحبه فى ثقافات بعينها. فبعض الثقافات لم تكن ترغب فى ترجمة أية نصوص إلى لغتها، وبعضها الآخر لم يكن يرغب فى ترجمة نصوصها إلى أية لغات أخرى.

المترجم مذنب باقتراف معصية عظيمة. فالمترجم هو عدو الله، الذى يسعى إلى إعادة تشييد برج بابل [....]. ومن سخرية القدر أن العقاب السماوى الذى حلَّ على البشر هو  تشتيت شملهم عبر بلبلة ألسنتهم. كان يُعتقد قديمًا أنَّه إمكانية العودة إلى لغة بَدْئية، فاللغة العليا هى كل ما يحتاج إليه المرء من أجل أن ينطق بالحق.ولم يفرِّط فالتر بينيامين فى حُلمه نحو تحقيق هذه الأمنية، حيث ذهب إلى أن اللغات كافة تضع نصب أعينها الحقيقة نفسها، وإنْ ذهبت كل لغة منها فى طريق مختلف. عندما أقول Brot [مفردة ألمانية = خُبز]، وأقول كلمة ألم pain، فإننى أقصد الشيء نفسه ولكن بطريقة مختلفة [هل يقصد بلانشو ما نقوله بالبلدي: إن أكل العيش مرّ، من باب ربط الحصول على لقمة العيش بالمعاناة؟]. كل لغة فى حد ذاتها غير مكتملة. وفى فعل الترجمة لا نكتفى باستبدال طريقة مكان أخرى، لكننا عوضًا عن ذلك نجعل من الإيماءة الخجلى لغةً عليا، من شأنها تحقيق الانسجام…..»

وفى فقرة لاحقة يقول  بلانشو:
«والمترجم كاتب ذو أصالة فريدة [للقارئ أن يراجع مقدمات كُتب د. محمد عنانى ليقرأ الرأى نفسه] لاسيما وأنه لا يدعى حقًا فى شيء. هو السيّد السرى المتصرف فى اختلاف اللغات، ليس بغرض محو الاختلاف بين اللغات، وإنما بغرض استعمال هذا الاختلاف لإيقاظ لغته الخاصة، وذلك من خلال التغييرات العنيفة أو الماكرة التى يدخلها على الأصل. والمسألة هنا ليست مسألة محاكاة البتة. وقد صدق فالتر بينيامين عندما قال: «إذا أراد المرء للترجمة أن تكون مجرد محاكاة للنص الأصلي، فلا مجال هنا للحديث عن ترجمة أدبية ممكنة». بعد هذه الفقرة أقول فالتر بينيامين رجل بيفهم، وبلانشو بيفهم قطعًا لأنه نقل عنه هذا الرأي. 

ويضيف بلانشو:
«إنها مسألة الكشف عن الهوية على أساس الاختلاف. والعمل الفنى لا يكتسب عُمرًا مديدًا وشـرف الترجمة إلا إذا اشتمل على هذا الاختلاف بدرجة تجعله واضحًا للعيان. والنص الأصلى متحرّك، وليس ساكنًا أبدًا. كل ترجمة غير ممكنة إلا بسبب هذه الحركة وهذه الحياة.

نعم المترجم إنسان غريب، إنسان مشحون بالنوستالجيا. يستشهد بنيامين – والكلام على لسان بلانشو - بالاقتباس المدهش التالى من نظرية رودولف بانفيتش  حيث يقول: «إن ترجماتنا، حتى أبرعها، تنطلق من مبدأ مغلوط، لأنها تسعى إلى ألمَنَة [=إضفاء الطابع الألماني] على اللغة السنسكريتية والإغريقية والإنجليزية بدلاً من جعل اللغة السنسكريتية والإغريقية والإنجليزية تُنطق بلسان ألمانى».

بمناسبة كلام بلانشو السابق ولفظة النوستالجيا بالمعنى العاطفى المباشر، أذكر فى سنة التخرّج 2001 أتيحت لى فرصة إلقاء قصيدة مُترجمة لجونتر جراس الفائز الطازج بنوبل، ألقيتُ الترجمة فى أحد المنتديات الثقافية أمام الفنان المصرى الراحل أحمد خميس وكان يجيد الألمانية، نالت الترجمة استحسان الجميع وشدّ الراحل على يدىّ، لأننى ترجمت أحد أبياتها بجُملة (لا تبحر فى ذاكرتك قط)، مُستلهمًا شطرة لصلاح عبد الصبور من ديوانه الإبحار فى الذاكرة، وقال لى الفنان: «ربما استعار جونتر جراس هذا التعبير لو سمع ترجمة هذه الفقرة يا ولد!»، وأحمد خميس هو مؤلف قصيدة الروابى الخضر، التى لحنها وغناها عبد الوهاب.

ضاعت الترجمة إلى الأبد، لأن فتاة نصف ألمانية/نصف مصرية، بارعة الجمال، كحيلة العينين، حضرت اللقاء، وطلبتْ منى نَصَّ القصيدة المُترجمة، فنزعتُ النسخة الوحيدة من دفترى ذاهلًا وأعطيتها إياها ولم أرها ثانية (لا القصيدة ولا الفتاة). 

ثم يلفت نظرى أن اللغة الفنية (=التقنية) تُستخدم أحيانًا – ربما بدافع فطرى لا شعورى متجذر فى النفس الإنسانية على طريقة يونج- صورًا بلاغية عذبة، المفردات موجودة أمامنا طول الوقت، نقرأها ونمر عليها مرور الكرام، لكن شيئًا فشيئًا نكتشف أنها لا تخلو من شاعرية واضحة، مثلاً حيث يُقال فى كتالوج تقني:  توصيل البطارية (بالينبوع).

أقول ولِم الينبوع، وليس مصدر التيار؟ أو القلب الحديدى أو وردة حديد، أو جداول الحقيقة (وهل ثمة جداول الوهم؟)، أو مثلًا دوار قفص سنجابي، وهو جزء داخل المحركات الكهربية، سألت نفسي: من أين جاءت الاستعارة؟  أكيد من الغرب لأن بلادنا خالية من السناجب، مع أن المرحوم محمد رشدى غنى فى عدوية: «يا أم العيون السنجابي»، والله أعلم أين رأى الأبنودى أعين السناجب، أو زاوية الوجـه، فهمت بعدما سألت أصدقاء مهندسين (مع أننى كنت علمي) أن المقصود هو  زاوية الطَوْر (الفرق الجبرى بين زاوية الجهد وزاوية التيار الكهربي)، وجاءت فى بالى تداعيات مفردات الطَّوْر/ الطُّور/الوجـه/جبل سيناء ورفع الجبل على الملاعين فى تأويلات هايدجرية جادمارية مفرطة لا تخص أحدًا غيري. وهو ما ينطبق على الترجمة الفورية وترجمة المؤتمرات، إذ يضطر المرء أحيانًا إلى عبارات تعير لسانها للأصل (فى نطاق محدود للغاية طبعًا) لإبراز قصد المتكلّم وغايته، لأن اللغة متحرّكة كما نتعلم من فالتر بينيامين وبلانشو.

ومن كلام بلانشو وَوفق تجربتى البسيطة أقول: إن اللغة  خُلقت شاعرية وقصصية، ولا أدل على ذلك من أن الكتب السماوية كافة تتوسل بالقَصص لإيصال رسالة الله، لأن الله يعلم أن الإنسان سَيَلين جلدُه، وسيصير أكثر تقبلًا للمقاصد السماوية لو قرأها مصوغة على هيئة قصة. ومهما أغرقت النصوص فى برودتها ورصانتها، فهى لا تخلو من لمسة جمالية. تعلّمت ذلك من بيتر هاندكه، وهو المترجم القدير، عندما أشار فى  «أسكن فى برج عاجي» إلى ولعه بقراءة بالنصوص القانونية. 

ومن قراءاتى أقول: إن العديد من كبار الكُتاب والشعراء (ريلكه، باول تسيلان، بودلير، هاندكه، بول أوستر وغيرهم) ترجموا أعمال كُتاب وشعراء آخرين (آخر كتب الراحل بول أوستر غير القصصية عن الشاعر الأميركى ستيفن كرين)، وبالنسبة لأغلبهم أثّرتْ الترجمة فى تجربتهم الأدبية/الشعرية، الطريف أن عددًا منهم اعتقد أن من حقّه التصرف بحرية، والتحلّل من قيود الترجمة فى نقل النص الأصلي، فصنعوا من الترجمات أعمالًا إبداعية جديدة. قرأتُ مرة أن ريلكه شوّه (وفق تعبير ناقد) قصائد الشاعرة الفرنسية «لويزا لابى Louise Labbe»، منتجًا -وهو يترجمها-صياغات شعرية جديدة لا علاقة لها بالأصل، وكان فالتر بنيامين يستشيره ويأخذ برأيه فى ترجمة بودلير إلى الألمانية.
 فتشتُ... وفتشتُ كثيرًا، لكنى لم أعثر على ردود ريلكه قط.