ابن خلدون .. عبقرية وريادة لمؤسس علم الاجتماع

العالم ابن خلدون
العالم ابن خلدون

أَبُو زَيْدٍ وَلِيُّ الدِّيْنِ عَبْدُ الرَّحْمَٰنِ بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الحَسَن بن مُحَمَّد بن جَابِر بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيْم بن عَبْدِ الرَّحْمَٰنِ بن خَلْدُوْن الْحَضْرَمِيُّ الإِشْبِيْلِيُّ الشهير اختصارًا بِـ«ابن خَلْدُون».

وهو عالمٌ من علماء العرب والإسلام برع في علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد والتخطيط العمراني والتاريخ بنى رؤيته الخاصة في قراءة التاريخ، وذلك بتجريده من الخرافات والروايات التي لا تتفق والمنطق؛ ليكون أوّل من طبق المنهج العلمي على الظواهر الاجتماعية.

وامتهن الكتابة في ديوان الرسائل في شبابه وأصبح رسولاً بين الملوك في بلاد المغرب والأندلس قبل أن يهاجر إلى مصر ويُقلد قضاء المالكية على يد السلطان الظاهر سيف الدين برقوق؛ ترك مُراسلة الملوك وانصرف للدراسة والتصنيف وألّف عديد الكُتب كان من أهمها كتاب «العبر وديوان المُبتدأ والخبر في أيام العَرب والعَجم والبَربر وَمَن عاصَرَهُم من ذَوي السُلطان الأكبر» والذي عُرف اختصارًا بـ«تاريخ ابن خلدون». ومقدمة هذا الكتاب الشهيرة بـ«مقدمة ابن خلدون» والتي تعد كتاباً بذاتها.

اقرأ ايضا|في ذكرى رحيل ابن خلدون.. نشر العلم من مصر إلى أشبيلية


 

أعمال بارزة
 

مقدمة ابن خلدون، والعبر وديوان المُبتدأ والخبر في أيام العَرب والعَجم والبَربر وَمَن عاصَرَهُم من ذَوي السُلطان الأكبر.

وولد ابن خلدون في تونس زمن الدوّلة الحفصية، وقضى بها طفولته قبل أن يبدأ تنقله بين المُدن في المغرب العربي وبلاد الأندلس واعتكف وهو بالمغرب للدراسة، وأنهى مقدمته الشهيرة قبل هجرته إلى مصر ومنها توجّهَ لأداء فريضة الحج. دخل وسيطاً لحقن الدماء بين أهالي دمشق وجيوش تيمورلنك فكان ضمن القضاة المُرافقين للسلطان المملوكي الناصر زين الدين فرج، في دمشق نزل بالمدرسة العادلية وأقام بها حتّى أتمّ مهمته.

فيما عدا هاتين الرحلتين لم ينقطع عن مصر وكان مُعلماً في إحدى مدارس المالكية بالقاهرة وهي المدرسة القمحية، وكذلك في المدرسة الظاهرية البرقوقية عقب تأسيسها. خلال دراسته لأحوال الشعوب والمجتمعات اكتشف ابن خلدون علم العمران البشري وهو مُلخص حياة الدوّل وما تصل إليه من ازدهارٍ ثم اضمحلالٍ، ويهدف هذا العلم لدراسة أحوال الناس في أوضاعهم المعيشية والسياسية والدينية والاجتماعية وفق رؤيةٍ علميةٍ وتأريخ صحيح للمجتمعات من خلال إبعاد التأثيرات الخارجية لآراء المؤرخين الشخصية.

ومؤلفات ابن خلدون أثرٌ كبير في الفكر العالمي إذ يُعدُّ أول من درس نشوء وتفكك الدوّل وفق رؤيةٍ كاملة شملت النُظم السياسية والاجتماعية والسياسات الاقتصادية والنقدية إضافة لمستوى التقدم في العُمران المدني، هذه الأفكار جعلت منه شخصيةً مركزيةً في الدراسات المعاصرة له قبل انهيار الحضارة الإسلامية، وشكّل عند العجم منارةً علميةً في العلوم السياسية والاقتصاد فدُرست مؤلفاته وتُرجمت إلى عدّة لغات، وأولُ هذه الدراسات كانت على يد جاكوب خوليو الذي تتبع فكر ابن خلدون وألّف كتابه المعنون رحلات ابن خلدون عام 1636، تُرجم الكتاب إلى اللغات اللاتينية والفرنسية واليونانية، يُعدُّ ابن خلدون أوّل عالمٍ دوّن سيرته الشخصية كاملةً حيث اشتملت أجزاء تاريخه -مؤلفه الأكبر- على تفاصيل حياته كلِّها، وما عاناه أثناء ولادة وموت الممالك في المغرب العربي إضافةً لما رآه أثناء الإقامة في مصر ووساطته مع تيمورلنك ورحلته لأداء فريضة الحج

طفولته

وُلد ابن خلدون في تونس عام 732هـ المُوافقة لسنة 1332م لأُسرةٍ أندلسية كانت نزحت إلى إفريقية في القرن السابع الهجري. يرجع أصلُ ابن خلدون للعرب اليمانية في حضْرَمَوْت ويرجع نسبه لوائلِ بنِ حجر وفق روايةِ ابن حزم الأندلسي وقد ذكر ابن خلدون أن بينه وبين وائلٍ ستةُ آباءٍ، غيرَ أنّ هذه الرواية شكَّ فيها هو نفسه باعتبار أن ستة آباءٍ لا تكفي لقطع ستةِ قرونٍ ونصف، فإذا كان جده الداخل إلى الأندلس عند الفتح فإن أسماءً قد سقطت من نسبه حيث يعتقد أنّ كل قرن فيه ثلاثة آباءٍ، وعليه فإن عددهم يجب أن يكون عشرين.

يرجع ابن خلدون في نسبه إلى بيتٍ من بيوت الرياسة في الأندلس وقد استوطن بها أحد جدوده في عصر الفتح، حيث استقر أولاً بمدينة قرمونة قبل الانتقال لأشبيلية، وظهر بنو خلدون فعلياً في عهد الأمير عبد الله بن محمد الأموي الذي انتشرت الاضطرابات في عهده، وكان بنو خلدون من جملة الثائرين عليه إذ كانوا من كبار عائلات إشبيلية إضافة لبني أمية بن عبد الغفار وعبد الله بن الحجاج وكريب أو كريت.

ولما تشققّت الدوّلةُ في الأندلس وبدأت بالسقوط على يد ملك قشتالة نزح منها الأمير أبو زكريا الحفصي سنة 620هـ المُوافقة لسنة 1223م وقصد إفريقية، وغادر معه بنو خلدون خوفاً من سوء العاقبة إذا سقطت إشبيلية بيد النصارى، وقد نَعَمَ بنو خلدون بالجاه والسعة في الدّولة الحفصية وعاشوا معارك الدّولة مع الخوارج عليها. أمّا والد ابن خلدون فقد زهد بالحياة السياسية والتجأ لحياة الدرس والعلم وبرز في الفقه وعلوم اللّغة ونظم الشِعر وبقي في علمه حتّى وفاته إبان الفناء الكبير أو الطاعون الجارف سنة 749هـ المُوافقة لسنة 1349م حينما كان ابن خلدون في الثامنة عشرة من عمره.

نشأ ابن خلدون على تراث أسرته عريقة العلم؛ فدأب على الدراسة في حِجر أبيه الذي كان معلمه الأول، فقرأ القرآن وحفظه ودرس القراءت السبع والحديث والتفسير والفقه إضافةً للنحو واللّغة مستثمراً أساتذة تونس التي كانت من أبرز مراكز العلوم والآداب في بلاد المغرب. ذكر ابن خلدون أسماء شيوخه في كلِّ علمٍ واهتم بترجمة أعمالهم وتحدث عن بعض الكُتب التي درسها، ويبدو ممّا درسه أنّه تخصص بالفقه المالكي وعلم اللّغة والشعر قبل أن يدخل في الفلسفة والمنطق حتّى بلوغه. وبعدها انتشر الفناء الكبير أو الطاعون الجارف كما يسميه ابن خلدون، وعمّ الوباء ديار الإسلام من سمرقند حتّى المغرب الأقصى، كما انتشر في إيطاليا والبلاد الأوروبية الأُخرى، وقد كابد ابن خلدون الحُزنَ بسبب الوباء إذ فقد معظم معلميه وشيوخه إضافةً لوالديه.

ترحاله

عاش بنو خلدون حياةً مُزدهرةً في ظلِّ الدوّلة الحفصية ووسعوا من نفوذهم، لكن ما إن بلغ ابن خلدون سن الرُّشد حتى ظهرت بوادر انحلال الدولة بعدما عصفت مجموعة من الاضطرابات بإفريقية وتُوِّجت بوباء الطاعون. في ذلك الوقت استُدعي ابن خلدون للعمل في بلاط الحاجب أبو محمد بن تافراجين الوصي على السُلطان أبي إسحاق إبراهيم بن أبي بكر، لكنهُ كان مرتاباً من أحوال الدوّلة في تونس وشاهد انتقال الشيوخ والعلماء إلى المغرب الأقصى للعيش في ظلِّ الدوّلة المرينية القوية والمُنبثقة حديثاً. فخالج الرحيلُ نفسَ ابن خلدون لكن أخاه الأكبر صده، على أن زحف أمير قسنطينة أبو زيد على تونس أوائل سنة 753هـ سهلّ المهمة عليه فانسل من المعسكر المهزوم ناجياً بنفسه.

قضى ابن خلدون وقتاً قصيراً في أيه حيث أقام مع شيوخ بعض المرابطين قبل أن يقصد سبتة وبعدها توجّه إلى قفصة حيث لقيه بعضٌ من فقهاء تونس واجتمعوا معه في محاضرةٍ لأمير قسنطينة، ومنها ارتحل إلى بسكرة وقضى فيها الشتاء، ونزل ضيفاً عند صاحبها يوسف بن مزني.

فاس

 ملك السودان وبها زرافة فكتب في وصفها:

ورقيمةُ الأعطافِ حالية
موّشيةٌ بوشائعِ البردِ
وحشيةُ الأنسابِ ما أنستْ
في فواحش البيداءِ بالقودِ
تسمو بجيدٍ بالغٍ صُعُداً
شرفُ الصروحِ بغيرِ ما جهدِ
طالت روؤس الشامخاتِ به
ولربّما قصرت عن الوهدِ

كانت هذه الفترة ذهبيةً لدى ابن خلدون فقد ذاع صيت شعره واشتُهر للعيان نثره في المغربِ والأندلس، ولقد وصف ابن الخطيب نثره وبلاغته: «خلجُ بلاغةٍ، ورياضُ فنونٍ، ومعادنُ إبداعٍ يفرغ عنه يراعُه الجريء، شبيهة البداءات بالخواتم في نداوة الحروف، وقرب العهد بجريةِ المداد، ونفوذِ أمر القريحة، واسترسالِ الطبع».

ملك السودان وبها زرافة فكتب في وصفها:

ورقيمةُ الأعطافِ حالية
موّشيةٌ بوشائعِ البردِ
وحشيةُ الأنسابِ ما أنستْ
في فواحش البيداءِ بالقودِ
تسمو بجيدٍ بالغٍ صُعُداً
شرفُ الصروحِ بغيرِ ما جهدِ
طالت روؤس الشامخاتِ به
ولربّما قصرت عن الوهدِ

كانت هذه الفترة ذهبيةً لدى ابن خلدون فقد ذاع صيت شعره واشتُهر للعيان نثره في المغربِ والأندلس، ولقد وصف ابن الخطيب نثره وبلاغته: «خلجُ بلاغةٍ، ورياضُ فنونٍ، ومعادنُ إبداعٍ يفرغ عنه يراعُه الجريء، شبيهة البداءات بالخواتم في نداوة الحروف، وقرب العهد بجريةِ المداد، ونفوذِ أمر القريحة، واسترسالِ الطبع».

الأندلس

كان ملكُ الأندلس حينها محمداً بنَ يوسف ابنِ إسماعيل ابن الأحمر النصري الذي أخذ زمام المُلك بعد وفاة أبيه يوسف أبي الحجاج عام 1354م 755هـ ولم يكن قوّي السُلطة فاستبد حاجبه أبو النعيم رضوان بشؤون الدوّلة. كان لسان الدين محمد ابن الخطيب أحد وزراءِ الملك وأشهر كتاب الأندلس وشعرائها. وصل ابن خلدون إلى سبتة بين سنتي 1362 و1363 وهذا يُوافقُ أوائل سنة 764هـ، وبعدها جاز إلى الأندلس وكتب إلى الملك وابن الخطيب بمقدمه وأتاهُ الردّ وهو على أبواب غرناطة، إذ كتب له ابن الخطيب ترحيباً قال فيه:

حللّت حلولَ الغيثِ في البلدِ المحلِ
على الطائرِ الميمونِ والرّحبِ والسهلِ
يميناً بمن تَعُنو الوجوه لوجهه
من الشيخِ والطفلِ المعصبِ
لقد نشأت عندي للقياك غبطةٌ
تنسّي اغتباطي بالشبيبة والأهلِ
ووٌدّي لا يحتاج فيه لشاهدٍ
وتقريري المعلومِ ضربٌ من الجهلِ

وصل ابن خلدون غرناطة في الثامن من ربيع الأول عام 764هـ، فاحتفى به السلطان وأكرمه وجعله بين حاشيته، كما كانّ ابن الخطيب كثيرِ الرعاية والإحسان، وفي العام التالي لوصوله 1363م الموافق لـِ 765هـ أوفده سلطانُ الأندلس إلى ملك قشتالة بيدرو القاسي لإتمامِ الصُلح، فسعى ابن خلدون إلى مكان إقامته في إشبيلية وعند وصوله كرّمه الملكُ وقابله بالترحاب. أثناء مكوثهِ في إشبيلية عاين ابن خلدون رفقة ملك قشتالة ماضيَ أسرته في الأندلس فقد كانت أسرةً ذائعة الصيت وحدّث الملك عن تاريخها. وعرّفه الملك بطبيبٍ يهودي يُدعى إبراهيم ابن زرزر كان ابن خلدون قابله في مجلس السلطان أبي عنان عندما استُدعي لمعالجته. ويقول ابن خلدون إنّ ملك قشتالة عرض عليه البقاء ضمن حاشيته ويستعيد إرث اسرته ويلعب دور النصوح لأتباع السُلطة في قشتالة، لكنه فضّل العودة لغرناطة. أتمّ ابن خلدون مهمته بنجاحٍ وعاد لغرناطة بهديةٍ -ومنها بغلة فارهة- أرسلها ملك قشتالة لملك غرناطة، فارتفع شأنّ ابن خلدون في غرناطة واتسعت أحواله وأهداه السلطان أرضاً خصبةً من قرية إلبيرة، ولما اجتمع الملك وأعوانه من ناظمي الشِعر فيها أنشده ابن خلدون:

حيّ المعاهد كانت قبلُ تحييني
بواكفِ الدمعِ يرويها ويظميني
إنّ الألى نزحتْ داري ودارهمُ
تحملوا القلب في آثارهم دوني
وقفتُ أنشدُ صبراً ضاع بعدهمُ
فيهم وأسألُ رسماً لا يناجيني
أمثلُ الربع من شوقٍ فألثمهُ
وكيف والفكرُ يدنيهِ ويقصيني
وبنهبُ الوجدُ مني كلَّ لؤلؤةٍ
ما زال قلبي عليها غير مأمونِ

بعدها استأذنَ السطانَ باستدعاء أسرته من قسنطينة فأذن له وعاش في رغدٍ مع أسرته. لكنه مالبث أن شعر بامتعاض السلطان منه وخوف ابن الخطيب من منافسته بعدما سعى الحُسّاد والوشاة بينهما، فأدرك عدم صحّةِ البقاء، وفي الوقت نفسه أتته رسالةٌ من صديقه الأمير أبي عبد الله محمد الذي استرد ملك بجاية، فغادر ابن خلدون الأندلس عائداً لبجاية.

نزل ابن خلدون بجاية في منتصف 766هـ، ووصف استقبال أهلِ بجاية له: «فاحتفل السلطان بقدومي، وأركب للقائي، وتهافت أهل البلد عليَّ من كل أوبٍ يمسحون أعطافي، ويقبلون يدي وكان يوماً مشهوداً». وتوّلى ابن خلدون فور وصوله منصب الحجابة وكان السلطان عيّنَ أخاه الأصغر يحيى في منصب الوزير. أثناء فترة الحجابة تلك انكبّ ابن خلدون على التدريس في النهار في جامع القصبة.

كانت الحجابة تقتضي الاستقلال بالدولة والوساطة بين السلطان وأهل ممّلكته، فتفرّد ابن خلدون بشؤون الدوّلة ومضى في التجوّال بين الناس والقبائل يٌعالج الفتن بينهم بحزمٍ ودهاء، وما لبثت الأحوال أن تبدّلت فنشب الخلاف بين سلطان بجاية وابن عمّه السلطان أبي العباس ملك قسنطينة، وكان أبو العباس يطمعُ ببُجاية فأخذ يُثير القبائل عليها، وقد قال ابن خلدون إن سلطان بجاية لم يُحسن مُعاملة أهلها وشدّد عليهم الخناق حتّى تخلوا عنه واعتزموا الخروج عليه، فلمّا وصل ملك قسنطينة بجيشه إلى بجايةٍ بعد أنّ حرّض أهلها قاتل الأمير محمداً وانتصر عليه. وبالرغم من اعتكاف ابن خلدون في القضر حينها إلاّ أنّه استجاب لنصائح الوجهاء فخرج ورّحب بالسلطان أبي العباس وسلّمه بجاية ما أرضى السلطان الجديد فأثبت اين خلدون في منصبه، لكن ابن خلدون استشعر الخوف فانصرف لإحدى القُرى القريبة، ثم فرّ إلى بسكرة بعد قرار أبي العباس بالقبضِ عليه فقبض السلطان على أخيه يحيى ببونة وفتش بيوت العائلة وصادر أموالها.

لا تسألِ الأطلالَ إن لم تروِها
عبراتُ عينك واكفاً ممتاحا
فلقد أخذن على جفونكَ موثقاً
أن لا يرين مع البعادِ شحاحا
إيه عن الحي الجميعِ وربّما
طربَ الفؤادُ لذكرهم فارتاحا
ومنازل للظاعنين استعجمت
حزناً وكانت بالسرورِ فصاحا

بعد أن وطأة الفتنة بين القبائل خشي ابن خلدون على نفسه فاستأذن بالسفر للأندلس، وأذِنَ له أبو حمو وحملّه رسالةً لملكِ غرناطة. قصد ابن خلدون مرسى هنين ليركب البحر منها، لكن الخبر كان وصل لسلطان المغرب الأقصى وفيه أنّ ابن خلدون يحمل ودائعَ لملك غرناطة فأرسل سريّةً من الجند الذين -وبعد رؤيتهم له خالياً من الودائع- أتَوْا به إلى السلطان الذي سأله عن انشقاقه عن بني مرين، ثم اعتقله، لكن ابن خلدون وعده بالمساعدة على فتح بجاية فارتاح السلطان وأطلق يده، عندها قصد ابن خلدون مكاناً في الصحراء واعتكف على القراءة والدرس. ولمّا استولى سلطان المغرب الأقصى على تلمسان سنة 772هـ طلب من ابن خلدون العمل معه واستمالة القبائل لنصرته فقبل، وصار يؤلب القبائل على صديقه بالأمس وكان من أفراد الحملّةِ المُكلّفة بمطاردة أبي حمو، ومالبثوا أنّ وجدوه فخربوا معسكره ودفعوه للهرب. عاد ابن خلدون إلى السلطان فأكرمه وأحسن استقباله وعهد له بمهمةٍ جديدةٍ في تهدئة القبائل غير الراضية به فسعى لهم بالاستمالةِ لكنه لم ينجح.

عند انتشار الثورات في المغرب كان ابن خلدون مُقيماً ببسكرة، ولمّا عهد السلطان للوزير أبي بكر بن غازي بالتعامل مع الثورات، وطلب من ابن خلدون أن يستميل القبائل مرّةً أُخرى قبل وأتمّ المهمة وعاد أدراجه إلى بسكرة، لكن لم يَطل مقامه فيها إذ رأى في نفس أميرها تغيراً ونزوعاً، فقصد السلطان في تلمسان، وما إن بلغ منتصف الطريق حتّى بلغه نبأ وفاة السلطان وتسلُمِ ابنه السعيد سنة 774هـ. يعد علمِه بوفاة السلطان قررّ تغيير الوجهة إلى فاس واخترق الصحراء إليها، لكن قطاع طرقٍ اعترضوا قافلته بتحريضٍ من أبي حمو -الذي عاد واستولى على تلمسان بعد وفاة السلطان- وبصعوبةٍ نجا ابن خلدون وأسرته من الأسر ووصلوا فاس في حالةٍ يُرثى لها، وهناك أكرمهم ابن غازي وبقوا فيها في أحسن مسكن.

بعد سيطرة السلطان أبي العباس أحمد على فاس سنة 776هـ كان ابن خلدون مقيماً في فاس، وقد وُشي به فاعتُقل، لكن سلطان الشمال عبد الرحمن توّسط له ليُفرج عنه، ليُقررّ ابن خلدون بعدها الارتحال للأندلس فقد سًدّت أبواب قصوّر المغرب في وجهه، ويخبرنا أنّه قررّ الارتحال للأندلس بحثاً عن الاستقرار والدرس. في السنة نفسها أي 776هـ ركب البحر للأندلس تاركاً أسرته بفاس وحين لقي في طريقه أبا عبدالله بن زمرك راحلاً إلى فاس رجاه أن يتوّسط له لإلحاق أسرته به، لكن بلاط فاس كان متوّجساً منه وأبى ذلك بعدما نمي لهم أنّه يُحرض الأمير عبد الرحمن عليهم فرفضوا طلبه

لم يستطعِ ابن خلدون البقاء في الأندلس فقد ردّه ملكً غرناطة إلى أفريقيا فور وصوله، وهنا نزل في مرسى هنين حائراً، ورغم علم أبي حمو صاحب تلمسان به إلاّ أنّه تجاهله وتركه شريداً لمَا خاطبه، إلى أن توّسط له محمد بن عريف أحد وجهاء بني عريف، فأذن أبو حمو له بالقدوم إلى تلمسان عام 776هـ الموافقة سنة 1374م. كان ابن خلدون يرغب بالانقطاع عن السياسة والعكوف على الدرس لكن أبا حمو طلب منه مرّةً أُخرى التواصل مع القبائل واستمالتها فتظاهر بالقبول مُرغماً. على أن عزمه على الاعتزال غلب مهمته فغادر تلمسان ونزل عند بني عريف فأكرموه وأحسنوا وفادته وأنزلوه مع أسرته بقلعة سلامة(1) وهناك اعتكف أربعة أعوام وشرع بكتابة مؤلفه المُسمى العبر وديوان المُبتدأ والخبر في أيام العَرب والعَجم والبَربر وَمَن عاصَرَهُم من ذَوي السُلطان الأكبر وكان حينها في عامه الخامس والأربعين.

انتهى ابن خلدون من كتايه مقدمته (وهي في الأصل مقدمة تاريخه آنف الذكر) منتصفَ سنة 779هـ الموافقة سنة 1377م واستغرق فيها خمسة أشهرٍ، ووصف عمله: «وأكلمت المقدمة على هذا النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر حتّى امتحضت زبدتها، وتألفت نتائجها». لم يكن ابن خلدون يقصد التأريخ للخليقة جمعاء، بل هدف لكتابة تاريخ العرب والبربر في المغرب: «وأنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني منه في هذا القطر المغربي إما صريحاً أو مندرجاً في أخباره وتلويحاً، لاختصاص قصدي في التأليف بالمغرب وأحوال أجياله وأممه وذكر ممالكه دون ما سواه من الأقطار لعدم اطلاعي على أحوال المشرق وأممه، وإن الأخبار المتناقلة لا توفي كُنْه ما أريد منه».

ولمّا عزم ابن خلدون على كتابة مؤلفه رأى أنه تنقصه المراجع الضرورية فعزم على الارتحال إلى بلده تونس حيث يستطيع الاستعانة بمواردها الوافرة من العلم، حينها كان السلطان أبو العباس قد استعاد تونس وكان ناقماً على ابن خلدون لما حدث بينهما قبل حوالي عشر سنوات، فأرسل له الأخير يستأذنه بالعودة فقبل السلطان وارتحل ابن خلدون في رجب سنة 780هـ الموافقة 1378م، ومرّ على قسنطينة فاستراح بها في ضيافة الأمير إبراهيم ابن السلطان أبي العباس. ولقيَ السلطان وهو على رأس جيشه لإخماد تمرد بعض النواحي فأرسله إلى تونسَ وأكرمه وأمر بتأمين كافة وسائل الراحة له، وانكبّ ابن خلدونٍ على الدرس حتّى عاد السلطان من حروبه، فقربّه من مجلسه وطلب منه إنجاز مؤلفه. ويتمّ ابن خلدون كتابه، ويرفع النسخة الأولى إلى السلطان أبي العباس سنة 784هـ الموافقة سنة 1382م. ويبتدئها بأبيات مديحٍ منها:

هل غيرُ بابكَ للغريبِ مؤملُ
أو عن جنابك للأماني معدلُ
هي همّةُ بعثت إليك على النوى
عزماً كما شحذ الحسام الصيقل
متبوأ الدّنيا ومنتجعُ المنى
والغيثُ حيث العارض المتهللُ
حيث القصورُ الزاهراتِ منيفةٌ
تعنى بها زهر النجوم وتحفلُ
حيث الخيامُ البيضُ يرفع للعلا
والمكرماتِ طرافها المتهدلُ

 تامةٍ بالأمور خصوصاً متعلقات المملكة»، وهكذا ثبّت ابن خلدون نفسه في المجتمع القاهري وأثار إعجابه، وتمكّن من الاتصال بالسلطان الظاهر برقوق الذي كان وُليَ على مصرَ قبل وصوله بأيامٍ قلائل.

أكرم السلطان ابنَ خلدونٍ وأحسن مثواه: «فأبر مقامي، وآنس الغربة، ووفر الجراية من صدقاته، شأنه مع أهل العلم». بذلك كسب ابن خلدون ما تمناه من الاستقرار والعيش في ظلّ حاكمٍ يؤمن له مصدر رزقه، ومالبث حتّى عُين في التدريس بالمدرسة القمحية(2) وهي من مدارس المالكية، وألقى ابن خلدون في يومه الأول خطاباً بليغاً أمام نُخبةٍ من الأكابر والعلماء المُرسلين من قبل السلطان شهوداً، تحدث في الخطبة عن دور العلماء في شد أزر الدوّلة الإسلامية وعن فضل مصر في نصرة الإسلام. وصف ابن خلدون ذلك المنظر من الوقاء في درسه الأول: «وانفض ذلك المجلس وقد شيعتني العيون بالتجلّة والوقار».

أواخر جمادى الآخرة سنة 786هـ 1384م عُين ابن خلدون قاضياً للمالكية؛ وفي هذا إشارة على تبوؤه مكانةً عاليةً فهذا المنصب من أرفع أربعِ مناصبَ للقضاء في الدوّلة، وبه أيضاً ابتدأ الاستقرار -الذي نشده ابن خلدون من وصوله لمصر- بالاضمحلال وكثرت الخلافات حوله، فخُلع من المنصب أكثر من مرّةٍ ووصف بسخريةٍ، «وأقمت على الاشتغال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذٍ في نزعةٍ من النزعات الملوكية، فعزله واستدعاني للولاية في مجلسه وبين أمرائه، فتفاديت من ذلك، وأبى إلاّ مُضاءَه». بشكلٍ عام فإن ولاية ابن خلدون للقضاء لم تكن حدثاً عادياً؛ فمنصب القضاء وحتّى مناصب التدريس كانت غاية الفقهاء والعلماء المحليين، ويصعب عليهم استحسان شغلها من قبل أجنبيٍّ عنهم، لذلك كثر على ابن خلدون الحساد والطامعين. واستمر التوتر مع وجهاء الدوّلة حتّى قُكّت الرابطة بينهم، وتكاثرت المصائب عليه عندما فُجعَ بزوجته وولده وماله حيث حلّت بهم عاصفة في البحر أثناء قدومهم لمصر بعدما أذن لهم سلطان تونس، ويروي لنا صعوبة الفاجعة عليه: «ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد، وصلوا من المغرب في السفين؛ فأصابها قاصف من الريح، فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود؛ فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج من المنصب».

عُزل ابن خلدون من منصب قاضي المالكية في السابع من جمادى الأولى سنة 787هـ/1358م وانصرف للتدريس والعلم بالمدرسة القمحية ثم ماليث أن عُيّن مُدرساً للفقه المالكي في المدرسية الجديدة التي أنشأها السلطان في حي بين القصرين وسُميت المدرسة الظاهرية البرقوقية، وبقي كذلك إلى أوان موسم الحج عام 789هـ، فأذن له السلطان بالسفر، ودخل مكة في الثاني من ذي الحجة وأدى الفريضة. وعاد إلى القاهرة قاصداً السلطان، فغمره بكرمه وعينه للتدريس بمدرسة صرغمتش(3) بدل المدرسة القديمة، وقد حدثنا ابن خلدون عن درسه الأول إذ تكلم عن الإمام مالك وحياته ونشأته وكيفية انتشار مذهبه: «وانفض ذلك المجلس، وقد لاحظتني بالتجلة والوقار العيونُ، واستشعرت أهليتي للمناصب القلوبُ، وأخلص النجا في ذلك الخاصة والجمهور».

بعدها عمل ابن خلدون في مشيخة نظارة خانقاه بيبرس(4) وتوسعت موارده وزاد نفوذه؛ لكن الاستقرار لم يدم في مصر فمالبثت الفتن أن بدأت وتحركت الجيوش وتبدلّت الممّالك، وقد ذكر ابن خلدون هذه الفتن وشرح أسبابها بعد أن كان شاهداً عليها فتحدث عن نشوء الدوّل وانهيارها، وقد أثرت هذه الأحداث عليه فخُلع من منصبه، ثمّ أعيد إليه بعد عودة الظاهر برقوق للعرش.


واعترضه قطاع طرقٍ فسلبوه ماله إلاّ أنّه وصل القاهرة سالماً في السنة نفسها.

العودة إلى مصر

ما لبث ابن خلدون بعد الوصول للقاهرة حتّى ردوا له منصب القضاء؛ وكان حينها قد بلغ من العُمر أربعة وسبعين عاماً، لكنه ما فتئ يحلم بأن يرقى في المناصب، ويقول في وصف ذلك أحد مؤرخي مصر: «رحمّه الله، ما كان أحبَّه في المنصب». وكانتِ المناصب مكاناً للمعارك بين الخصوم فقد أشاع أعداء ابن خلدون أنّه قضى في حوادث دمشق في سعيهم لإقصائه تماماً، لكنّه استعاد المنصب بعد رجوعه وبقي فيه قُرابة عامٍ قبل أن تودي به الدسائس للعزل في رجب من سنة 804هـ، وولّي على المنصب شمس الدين البساطي والذي عُزل بعد ثلاثة أشهر وأُعيد ابن خلدون إليه في السادس عشر من ذي الحجة قبل أن يُعزل مرّة أُخرى في السابع من ربيع الأول سنة 806هـ ويُعاد البساطي.

لكن ابن خلدون رُدّ لمنصب القاضي للمرة الخامسة في شعبان من سنة 807هـ وعُزل بعد ثلاثة أشهر في 26 من ذي القعدة، وخلفه جمال الدين الأقفهسي الذي استمر في المنصب لثلاثة شهورٍ وخلفه جمال الدين التنسي ثمّ أُعيد البساطي في ربيع الأول سنة 808هـ(5) وعُزل في شعبان من العام نفسه ليعود ابن خلدون للمرّة السادسة لولاية القضاء ويمكث بها أسابيع حتّى وفاته.