قال أبى ….

النائب علاء عابد رئيس لجنة النقل والمواصلات بمجلس النواب
النائب علاء عابد رئيس لجنة النقل والمواصلات بمجلس النواب

يقول الإمام الشافعي:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدى المساويا

يقول أحدهم عن أبيه:

كان أبى إذا دخل غرفتى ووجد المصباح مضاءً وأنا خارجها قال لي: لم لا تطفئه ولم كل هذا الهدر فى الكهرباء؟

وإذا دخل الحمام ووجد الصنبور يقطر ماءً قال بعلو صوته لم لا تُحكم غلقه قبل خروجك ولم كل هذا الهدر فى المياه؟

إلى أن جاء يوم وجدت فيه وظيفة، واستيقظت فى الصباح الباكر ولبست أجمل الثياب وتعطرت وهممت بالخروج فإذا بيدٍ أبى تربّت على كتفى عند الباب، مبتسمًا رغم ذبول عينيه وظهور أعراض المرض جلية على وجهه، وناولنى بعض النقود وقال لى أريدك أن تكون إيجابيًا واثقًا من نفسك ولا تهتز أمام أى سؤال. 

تقبلت النصيحة على مضض وابتسمت وأنا أتأفّف من داخلي، حتى فى هذه اللحظات لا يكف والدى عن النصائح.

خرجت من البيت متوجهًا إلى الشركة، وما أن وصلت ودخلت من البوابة حتى تعجبت كل العجب، فلم يكن هناك حراس عند الباب ولا موظف استقبال سوى لوحات إرشادية تقود إلى مكان المقابلة.

وبمجرد أن دخلت من الباب لاحظت أن مقبض الباب قد خرج من مكانه وأصبح عرضة للكسر إن اصطدم به أحد، فتذكرت نصيحة أبى لى عند خروجى من المنزل بأن أكون إيجابيًا، فقمت على الفور برد مقبض الباب إلى مكانه وأحكمته جيدًا.

ثم تتبعت اللوحات الإرشادية ومررت بحديقة الشركة فوجدت الممرات غارقة بالمياه التى كانت تطفو من أحد الأحواض الذى امتلأ بالماء إلى آخره، فتذكرت تعنيف أبى لى على هدر المياه فقمت بسحب خرطوم المياه من الحوض الممتلئ ووضعته فى حوض آخر مع تقليل ضخ الصنبور حتى لا يمتلئ بسرعة إلى حين عودة البستاني.

ثم دخلت مبنى الشركة متتبعًا اللوحات وخلال صعودى على الدرج لاحظت الكم الهائل من مصابيح الإنارة المضاءة ونحن فى وضح النهار فقمت لا إراديًا بإطفائها خوفًا من صراخ أبى الذى كان يصدح فى أذنى أينما ذهبت. 

إلى أن وصلت إلى الدور العلوى ففوجئت بالعدد الكبير من المتقدمين لهذه الوظيفة .

قمت بتسجيل اسمى فى قائمة المتقدمين وجلست انتظر دورى وأنا أتمعن فى وجوه الحاضرين وملابسهم لدرجة جعلتنى أشعر بالدونية من ملابسى وهيئتى أمام ما رأيته، والبعض يتباهى بشهاداته الحاصل عليها من الجامعات الأمريكية.

ولاحظت أن كل من يدخل المقابلة لا يلبث إلا أن يخرج فى أقل من دقيقة، فقلت فى نفسى إن كان هؤلاء بأناقتهم وشهاداتهم قد رُفضوا فهل سأقبل أنا ؟
فهممت بالانسحاب والخروج من هذه المنافسة الخاسرة بكرامتى قبل أن يقال لى نعتذر منك، فإذا بالموظف ينادى على اسمى للدخول، فقلت لا مناص سأدخل وأمرى إلى الله. 

دخلت غرفة المقابلة وجلست على الكرسى فى مقابل ثلاثة أشخاص نظروا إليّ وابتسموا ابتسامة عريضة ثم قال أحدهم متى تحب أن تتسلّم الوظيفة؟
ذهلت لوهلة وظننت أنهم يسخرون منى أو أنه أحد أسئلة المقابلة ووراء هذا السؤال ما وراءه، فتذكرت نصيحة أبى لى عند خروجى من المنزل بألا أهتز وأن أكون واثقًا من نفسي. فأجبتهم بكل ثقة: بعد أن أجتاز الاختبار بنجاح إن شاء الله.

فقال آخر لقد نجحت فى الامتحان وانتهى الأمر.

فقلت ولكن أحدًا منكم لم يسألنى سؤالًا واحدًا. فقال الثالث نحن ندرك جيدًا أنه من خلال طرح الأسئلة فقط لن نستطيع تقييم مهارات أى من المتقدمين، ولذا قررنا أن يكون تقييمنا للشخص عمليًا، لنكتشف سلوك المتقدم ومدى الإيجابية التى يتمتع بها ومدى حرصه على مقدرات الشركة، فكنت أنت الشخص الوحيد الذى سعى لإصلاح كل عيب تعمدنا وضعه فى طريق كل متقدم، وقد تم توثيق ذلك من خلال كاميرات مراقبة وضعت فى كل أروقة الشركة.

هنا نتوقف أمام دور الأسرة، سيان كان أبا أو أمّا، فغرس الإيجابية يُنشئ جيلاً واعياً فاهماً مدركاً لدوره فى الحياة بعيداً عن السلبية واللامبالاة، والاتكال على غيره.

وذكر القرآن أن المسؤولية الإيجابية فرض وأمر وثواب وعقاب، فقال تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى).