الحلمنتيشي| «كروانُ الفن وبلبلهُ.. مش لاقي حد يؤكلهُ»

د. عوض الغباري
د. عوض الغباري

لم يكن الشعر الحلمنتيشي الذى لا يكتبه سوى قلة من الشعراء فى مصر بمثابة لون يثير الضحك والفكاهة كهدف فى ذاته؛ بل هو وسيلة للنقد الاجتماعى والتنبيه لمحاولة الإصلاح، تلك هي وجهة نظر الشاعر الحلمنتيشى محمد دسوقى قبيصى، ابن مدينة أبوتيج، بمحافظة أسيوط، فهو شعر له جمهوره الخاص الذى يعشق سماعه ومتعته فى كل أمسية منذ أن صدح به شفيق المصرى وتغنى به بيرم التونسى وأحياه شوقى أبوناجى ومصطفى رجب وياسر قطامش.

ووفق الشاعر محمد قبيصي، فإن القصيدة الحلمنتيشية لم تقتصر على محافل الأدب فحسب؛ بل امتدت للدراما السينمائية فنجد المعجزة فيروز تنشد فى فيلم «دهب» الذى أنتج عام 1953 أول قصيدة حلمنتيشية مغناة بصحبة أنور وجدى لبيرم التونسى فى معارضته لقصيدة «مضناك جفاه مرقده، وبكاه ورحم عوّده»، قائلة:

كروانُ الفنِ وبلبلهُ ... مش لاقي حد يؤكلهُ
ويغنى على من يجهلهُ ... ده يشتمهُ وده يزغدهُ
الناسُ بلاشاً تسمعهُ ... وكفاهُ الفنُ يشبعهُ
ويعزّ الفنَ ويرفعهُ ... والفنُ يشيلُه ويهبدهُ
لست أدرى
ونجد إسماعيل ياسين يعيد التجربة فى فيلم (إسماعيل يس فى السجن) والذى أنتج عام 1960 فى اسكتش قيس وليلى للشاعر فتحى قورة معارضا أمير الشعراء أحمد شوقى قائلا:
من البارد الآتى.. أقيس أرى ماذا وقوفك فى ساعة متأخرة.

وكذلك عارض إيليا أبو ماضى فى قصيدة «لست أدرى» فى فيلم «حظك هذا الأسبوع» فقال:

«لست أدرى كيف ضيعت نصيبى؟

واتلهى قلبى على عين حبيبى!
كان هذا اليوم كاللبن الحليب
ولماذا صار طرشى..؟!
لست أدرى!

وكذلك قصيدة أيظن لنجاة الصغيرة إذ يقول:

أيظن أنى كورة بين رجليه، 
هل جئت أشنق،
أم جئت عشان سواد عينيه،
أنا لا أفكر فى الممات وإنما، 
حظى المقندل اللى جابنى إليه

لذا نجد أن الشعر الحلمنتيشى ليس فنا وليدا ولا لونا مبتدعا، بل كتابة راسخة أصيلة تهدف للنقد الاجتماعى والتنفيس عن الهموم؛ فأصبح من اهتمامات رجل الشارع البسيط الذى يزحف خلفه راغبا سماعه.

فلسفة الفكاهة
ويؤكد الدكتور عوض الغبارى، أستاذ النقد الأدبى بكلية الآداب جامعة القاهرة، أن للشعر العامى الفكاهى تأثيره البهيج فى النفوس، خاصة الشعر الحلمنتيشى الذى يمزج بين الفصحى والعامية بأسلوب ساخر مثير للضحك؛ إذ يعمد إلى المفارقة بين الجد والهزل، وهذه سمة أصيلة للأدب الساخر، كما أن للشعر الفكاهى إلى جانب إمتاعه هدفا إصلاحيا اجتماعيا.

ويوضح د. الغبارى أن للفكاهة فلسفتها، فهى ليست للضحك فقط، وإنما هى وسيلة وغاية للتوازن النفسى، وحاجة الإنسان إلى الفكاهة تنفيسا له عن الهم والغم، وما أجدر المصريين بذلك اللون من الفكاهة التى تعد سلاحا للمواجهة ضد قوى الظلم والاستعمار الذى كان وبالا على مصر والمصريين قديما وحديثا؛ كما أن الفكاهة من السمات المميزة للمصريين الذين يرضون بما قسمه الله لهم فى صبر جميل على ضيق العيش الذى يخففون من غلوائه بالنكتة والضحك والسخرية من الأوضاع الصعبة التى تدعو إلى التشاؤم واليأس والإحباط. لكن المصريين يتغلبون على ذلك بروحهم المرحة التى توازن بين الجد والهزل.

◄ اقرأ أيضًا | الحلمنتيشي| ياسر ياسين لابن قطامش: «هاتِ ما عندك هات.. كنافةً ومكسرات»

والشاعر «ياسر قطامش» يتناول فلسفة الضحك فى تقديمه لأحد دواوينه بعنوان: «العلاج بالضحك»، قائلا: «الحمد لله الذى جعل من الضحك والمرح والتفاؤل علاجا للنفوس، وتفريجا للهموم، وانشراحا للصدور» وهو شاعر يعتز بذاته شاعرا حملنتيشيا ضاحكا مضحكا ساخرا، يؤدى دوره الجميل على مسرح الحياة بتلقائية وبساطة، وحب للحياة، وإمتاع المتلقى بشعره المرح المُفرِح. ويخلص «ياسر قطامش» إلى أن العلاج بالضحك هو (شهادة الضمان) لكل «زعلان وحزنان وقرفان وغضبان وطهقان وزهقان».
ويستشهد على ذلك بقصيدته بعنوان: (لامية الشاعر الحلمنتيشى) التى يقول منها: 

فكاهة القول تشفينى من الملل
والضحك فيه الغذا كاللحم فى الحلل
قُم وابتسم فلماذا أنت فى قرف
واضحك ففى الضحك منجاة من العلل

ويعتبر «ياسر قطامش» سليل الشعراء الكبار مثل بيرم التونسى وصلاح جاهين وفؤاد حداد وغيرهم.

ويشير د. الغبارى إلى أن الشعر الفكاهى ينشط فى شهر رمضان، وقد تغنى «ياسر قطامش» بكثير من الشعر فيها حتى أطلق عليه «ياسر قطايف».. يقول مرحبا بشهر الصوم:

رمضان جاء فمرحبا رمضان
وأحب فيك كنافة وقطائفا
والله إنى صائم فرحان
لو أن حشوهما هو الإيمان

ويحن قطامش إلى فانوس زمان قائلا:
ما أجمل فانوسى اللعبة
بالشمعة ليس به لمبة

ويتناول شاعرنا آداب الصوم، وينحى باللائمة على ما ساد من سلبيات لا تتفق مع روحانية الصيام.

ويلهج الشاعر بدعاء ليلة القدر، ويذكر صلاة التراويح، وأغنية العيد التى يقول فيها، مذكراً بأغنية أم كلثوم الشهيرة:
لقد طابت ليالينا
وغنَّت أم كلثومٍ
(يا ليلة العيد آنستينا
وأفطرنا وحلِّينا
لتطربنا وتشجينا
وجددتى الأمل فينا).