عبدالله الدحيلان .. فى مواجهة النص

اللوحات للفنانة: هايدى أحمد عبد الغنى
اللوحات للفنانة: هايدى أحمد عبد الغنى

تنساب قطرات العرق بسلاسة متناهية حتى تصل إلى جانبى خصره، وهناك تتعثر بزوائد متعرجة تحبس تلك السوائل وتترك مهمة امتصاصها للملابس، ما يدفعه للقيام بين فترة وأخرى، وبحركة لا إرادية، بشد ملابسه للأسفل ليفسد على العرق الغزير ذلك المستنقع الكامن بين جلده.

أخذ كثيراً من الوقت حتى استطاع أن يتمالك نفسه ويمسك بهاتفه المحمول، وعلى الفور قام بمسح: أرقام الأصدقاء، الرسائل القصيرة والطويلة، الصور والمقاطع العفوية.

اقرأ أيضاً | د. بهاء الدين فوزى.. ذكر مثقوب

كانت تراوده نفسه منذ العد التنازلى لهذه اللحظة، بضرورة إتلاف هذا الجهاز الذى لم يعد يشعر معه بالألفة والأمان، خاصة بعد أن أخذ يتشكل له على هيئة ثعبان تارة، وعقرب تارة أخرى، مما اضطره  إلى رميه غير مرة، إلا أنه سرعان ما يعود إليه كى يمسح أمراً ما.

أصيب بفرط حركة لم يعتد عليها من قبل، وتبين له ذلك عندما اضطر للجلوس على طرف سريره لبرهة من الزمن، وذلك بعد أن هدَّه التعب جراء قطعه أشواطاً يجهل عددها بين مكتبته ونافذته الوحيدة المُطلة على الطريق. قام من مكانه بهدوء مصطنع وذهب إلى دورة المياه، على رغم من أنه لم يكن بحاجة لقضاء حاجته، إلا أن التعرى الجزئى، والتبول بمحض إرادته، دخل سريعاً إلى قائمة الامتيازات التى يخشى أن يفقدها بعد عدة ساعات.

أمعن النظر فى قطع الرخام الملطخة ببقايا مواد البناء العصية على الإزالة، والتى لم يعتد عليها حتى الآن، فالمدة القصيرة غير كافية للإلمام بتفاصيل مسكنه الجديد. أخذ نظرة كاملة على الجدران من حوله، ثم رفع رأسه للأعلى وراح يحدق فى السقف والمصباح الذى يتوسطه، فرأى السقف يرتفع بشكل متصاعد والجدران بدأت تضيق وتتداعى بعضها لبعض حتى لفظته إلى الخارج وهو يحمل سرواله الداخلى بيد مرتعشة.

لم يبتعد كثيراً، فقدماه لم تسعفاه على المشى، تسمَّر فى مكانه، لم يقو على تصور العيش فى مكان ضيق مبهم بلا ملامح تميزه، وكل ما فيه يحفزك على جز رأسك بأى وسيلة ممكنة. سرح يستذكر القصص التى وقف عليها عن التغييب القسرى فى حيز لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار، وكيف كانت عيناه تذرفان الدمع دون استئذان منه، فيسارع إلى إغلاق الكتاب أو الشاشة فوراً.

ذهل غير مرة من الطاقة التى كانت يحملها البعض فى قلبه لمقاومة هذه الضغوط التى تناقض أسباب الحياة، من العيش معزولا لأشهر، وقد تمتد لسنوات، دون أن ينطق لسانك بغير كلمات الطاعة والخنوع، وعيناك مدفونتان فى الأرض رغماً عنك، وجسدك يتلقى الضربات والركلات والصعق الكهربائى والإيهام بالغرق.. وأى محاولة للعصيان والرفض فهى الشرارة المنتظرة لابتكار أصناف جديدة من التعذيب. سأل نفسه: «هل سأتجاوز الموقف مثلهم؟»، وطأطأ رأسه دون إجابة.

مشاعر خيبة الأمل أخذته إلى النافذة لإلقاء نظرة متكررة على مشهد لم تتغير أركانه: سيارات مختلفة تصطف أمام مبنى العمارة بشكل عشوائى، ويقف حولها رجال بلباس مدنى، ويكثرون من التحدث فى هواتفهم المحمولة، وتظهر عليهم ملامح الترقب والانتظار. «لماذا ينتظرون كل هذا! متى ستحين ساعة الصفر؟».

ذهب إلى غرفته وارتدى ثوباً مهترئاً وقال فى نفسه: «سيمزقونه لا محالة، على ألا أعطيهم فرصة لإهانتى»، ثم قام برش عطره المفضل على كامل جسده بشكل هستيرى، بعدها خلع ساعة يده التى لا تعمل، «لن تتم مصادرتها، بل سيصلحها أحدهم ويتباهى بها بين زملائه عن عمد.. سأحرمهم لذة التشفى بى».

اتجه إلى مكتبته، ووقف بشكل عشوائى أمام أحد الرفوف وأخذ يتحسس الأغلفة بأطراف أصابعه، اتخذ من الرف متكأً يعادل عليه ما اعتراه من اختلال فى توازنه. وقع نظره على طاولة القراءة، وأخذ يرمق مسودة كتابه الذى لم يتمكن من إنجازه منذ أعوام، قام بتقليب أوراقه بحركة عبثية، فيما عيناه لم تفارق العنوان الذى قام بتغييره غير مرة، سعياً منه لتجاوز مزاجية الرقيب، والسماح له ببيع كتابه فى المكتبات المحلية. 

قرر التخلص من مسودة الكتاب، مثلما تخلص من الأرقام والصور، وكل ما من شأنه أن يندم على تركه لاحقاً. ذهب بمسودة الكتاب إلى المطبخ كى يضرم النار فى مجهود سنوات العمر بقدحة شرارة، إلا أنه ما إن دخل المطبخ حتى قام يتصفحها على مهل ويقرأ مقتطفات منها، فلاحظ أن الأسطر أخذت تموج من موقعها، وشيئاً فشيئاً تقفز وتخرج من الكتاب هاربة من النص، فضرب بيده، غير مرة، فى منتصف الصفحة حتى يسيطر عليها ويعيدها إلى مكانها، إلا أنه فشل فى هذه المهمة، واكتشف أن الكلمات قامت بالهروب فعلاً، وتركته يواجه مصيره وحيداً.

فى هذه الأثناء سمع خطوات أقدام عدة تصعد الدرج وتضرب العتبات بقوة، وبصوت عال خرق طبلة أذنه قول أحدهم: «هل رقم الشقة ستة أم سبعة؟».

لم يتمالك نفسه، وراح بحركة خاطفة وأمسك بالقداحة لحرق ما تبقى من الكلمات التى لم تتمكن من الهرب بعد، إلا أن الكلمات كانت أسرع منه، وتشكلت على هيئة حبل وقامت بتطويق رقبته حتى أحكمت قبضتها عليه تماماً، حتى عجز عن دفعها بعيداً عنه. 

وفيما كانت الخطوات تقترب منه، كانت الكلمات تحكم قبضتها على رقبته حتى سقط صريعاً بجوار كتابه الذى لم ير النور.

طرقوا باب شقته بشكل تصاعدى، دون أن يجيب أحد. فُتح باب الشقة المجاور له، وطلب منهم صاحبها، بعبارات الترحيب وحسن الاستقبال، بالدخول إلى المجلس قبل أن تبرد القهوة المُعدة خصيصا لهم، فتوافدوا الواحد تلو الآخر وألسنتهم تثنى على صاحب الدعوة بالشكر والامتنان!