ممدوح فرّاج النّابى .. إدوارد سعيد في مواجهة الآلهة الزائفة

إدوارد سعيد
إدوارد سعيد

يُعدُّ إدوارد سعيد (1935 - 2003) المثقف العالمى والنهضوى، والثائر والمناضل، ذو النزعة الإنسانية، حالة استثنائية فى الثقافة العربية؛ فهو من أهم المفكرين الذين غيّروا نمط التفكير فى نص القرن الأخير، وهذا على أكثر من مستوى، أولا على مستوى التنظير النقدي، برقشه النظرية وخلخلة أصولها، وكذلك بتتبُع ارتحالاتها، وهو ما أسفر عن استحداثه النظرية الطباقية فى قراءة الأعمال الأدبيّة، والنقد الدنيوي، وقبلهما بتسليط الضوء على الاستشراق، وتقديم جهد لافت فى قراءة المشروعات الاستشراقية وكشْف أغْراضِها، وسعيه الحثيث إلى تصحيح الصورة التنميطية (والمغلوطة) التى رسمتها المخيّلة الغربية عن الشرق، وهو ما تبلّور فى كتاباته النقدية؛ بدءًا بأطروحته الأكاديميّة عن جوزيف كونراد المعنونة بـ«جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية» (1966)، و«بدايات: القصد والمنهج» (1974)، و«العالم والنص والناقد» (1983)، و«الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق» (1978)، و«الثقافة والمقاومة» (1993)، و«صور المثقف» (1994) و«تأملات من المنفى ومقالات أخرى» (2000) إلخ من أعمال.‬‬‬‬

أو ما تضمنته كتاباته الفكرية مثل: «تغطية الإسلام» (1981)، و«نهاية عملية السلام» (2000)، و«الإنسانية ونقد الديموقراطية» (2004)، و«من أوسلو إلى العراق وخريطة الطريق» (2004). وقد سعى إدوارد فى جميع كتبه إلى إضفاء بصمته ورؤيته، وتأكيده على إضفاء الوظائف السياسية والثقافية للكتابة.

وثانيا بما فعله للقضية الفلسطينيّة، فكان مدافعًا شرسًا عنها، ومن ثمّ صار خير ممثّل لها فى الأوساط الغربيّة، سواء بالكتابة عنها أو بشروعه فى الحفاظ على الذاكّرة الفلسطينيّة من الاندثار بعمل أرشيف يحتوى على الآلاف من الصّور الفلسطينية منذ عام 1948، وكذلك بالدفاع عنها فى الصحافة الغربية والمحافل الدولية، والتخطيط السياسى وتحمُّله لسهام النقد والهدم التى وُجهت إليه من قبل الأصدقاء قبل الأعداء، فهو على حدّ وصف «نوبار هوفسبيان وبيتر باينارت»: «لم يتوقف إدوارد سعيد عن خوض معركة على عدة جبهات، وظل يتحدى احتكار إسرائيل، لتمثيل الفلسطينيين».

اقرأ أيضاً | كفاح المقريزى.. الصراع على المناصب

إلى جانب هذا كان مفكّرًا من طرار رفيع، ضرب أروع الأمثلة بنموذج المثقف الفاعل لا المنعزل فى برجه العاجى، واعيًّا لمفهوم المثقف الذى يُعنى «بالحرية والمعرفة»، بصفته – كما يقول تلميذه تمثى برنن – «الضمير الاجتماعى فى المجتمع، ومُشخِّص أمراضه، وواضع أجندته»، فأسهم بشكل غير مباشر إلى نقل العلوم الإنسانيّة من الجامعة إلى مركز الخريطة السياسية.

كما تعدّدت الأدوار التى قام بها، والتى جعلت منه نموذجا للشخصية الكوزوموبوليتانية فى رحابتها وتعددها وانفتاحها على الآخر بمختلف توجهاته وعرقه، وأيديولوجياته، على نحو ما كانت هويته الحقيقية متعدّدة بين ثقافات وعرقيات مختلفة، وإحساس المنفِيّ الذى طارده منذ طفولته، كل هذا جعل شخصية سعيد المترعة، ذات تركيبة معقدة بعض الشيء، وفى الوقت ذاته ثرية، إلا أنها صعبة القولبة أو التدجين ووضعها تحت إطار عنوان واحد؛ فهو المناضل المحارب، وهو الناقد الحصيف، وهو صاحب النظرية، وهو الإنسانى وهو الموسيقى، ولكَ أن تضع ما تشاء من الألقاب التى تتسم بها الشخصية التى هى نِتاج عوامل كثيرة، ليس أهمها المنفَى (أو الارتحال) الذى عبّر عنها مرارًا وتكرارًا بمشهد الحقيبة الجاهزة للسفر، فى مذكرات «خارج المكان”.

منعطف فى نهر

إن شئنا الدقة يمكن القول إن حياة إدوارد سعيد بالمعنى البسيط (من خلال سيرته: «خارج المكان» (1999)، وسيرة تلميذه الغيرية: «إدوارد سعيد: أماكن الفكر» (2022)) تؤكد المعنى الفعليّ للنضال بكافة مستوياته، الحقيقى والمجازي؛ فهو منذ ولادته فى حالة «تنقّل دائم» (ارتحال) جعلت حياته كأنها «منعطف فى نهر» (لو استعارنا عنوان رواية: ف.س. نايبول) يعيش فى منطقة وسطى «فلا هو منسجم مع وضعه الجديد، ولا هو متحرّر من وضعه القديم تحرّرًا تامًا»، وصولاً إلى معركته الأخيرة مع المرض، هذا الوضع جعله يعيش فى عراك مستميت يصل إلى حدّ النضال الدائم «من أجل تبلوّر شخصيته الحقيقية، ومن أجل الحفاظ على استقلاليتها من كل الظروف المحيطة به»، ولتأكيد معنى النضال يجب النظر إلى اقتطاعات من سيرته الذاتية أو مذكراته التى كتبها بعنوان «خارج المكان» (1999)، فى تأكيد لحالة الصّراع الدائم والمقلق الذى عاشه بسبب اضطراب وتنازع الهويات لديه.

فإدوارد سعيد الذى عاش فى القاهرة ثمّ ارتحلّ إلى القدس، وبعدها إلى أمريكا، وحمل جنسيتها، ودَرس (ثمّ درّس) فى أعرق جامعاتها كان مُخلصًا لهويته الفلسطينيّة، وفى ذات الوقت لم يتبرأ من جنسيته الأمريكيّة، قد يبدو بهذا الوضع إشكاليًّا، لكن المتأمّل لمسيرته يتأكد أن حمله للجنسيّة الأمريكيّة لم يكن معوّقًا بأى معنى من المعانى لدفاعه عن القضية، أو حتى جاء على حساب القضية ذاتها.

فلئن كان للاغتراب أو المنفَى إيجابيات (حسب تصوّره) حيث «يرى المغترب فيه كلّ ثقافة من ثقافاته من الداخل والخارج معًا، مما يسمح له بتفحصها بنظرة نقديّة»، فإنه على الجانب المقابل كان بمثابة العامل المهم فى تشكيل هُوية إدوارد سعيد المزدوجة (أو بالأحرى المضطربة)؛ فالاغتراب أو المنفَى جعل من إدوارد سعيد كما يقول محمد شاهين: «يتحقّق من كلّ شيء فى حياته، من جهة كونها تتعلّق بتوازنه النفسى، ومن جهة تعلّم الكيفية التى يكون فيها دقيقًا فى البحث، وأمينًا فى التعرّف على الحقيقة، وهو ما انعكس على كتاباته العلميّة والأكاديميّة وسواها؛ إذْ استطاع السيطرة على أهوائه وعواطفه، وعزلها عن مهام ومتطلبات البحث والدراسة واتبع منهجًا يعتمد على تحليل الوقائع والأفكار، بعيدًا عن الذاتيّة، وعن التأثير الانفعالى، وبناءً على هذا فَهِم الهُوية بوصفها «بناءً ثقافيًّا، وتعبّر عن إرادة القوة»، فإدوادر سعيد لا ينفى انقطاع المرء وانعزلاه عن وطنه لكونه منفيًّا.



الهُوية المزدوجة

هذه الخصيصة كان لها نتائجها الإيجابيّة فى تشكيل التكوين الفكريّ لسعيد ذاته، فلم يجعل إشكال الهُوية ومفارقاتها منه رجلاً منزويًّا، بمعنى أنه لم يتملّكه التفكير الفلسفى التأمُّلى الذى يتعالى على المشاكل اليوميّة والحياتيّة، ويغرق فى إشكاليات الوجود ومسائله، فهو بكل وضوح يمكن وصفه بالمثقف الدنيويّ الذى لم يتعالَ على مشاكل واقعه، الذى يؤمن بمهمة المثقف الإنسانية والحضارية، ومن هنا نرى إدوارد سعيد يقحم ذاته فى معترك الحياة السياسيّة، والصّراع الفلسطينى الصهيونى، منحازًا لإيمان المثقف العالمى للحقّ، والوقوف مع المظلوم، وهو ما نراه بصورة واضحة فى رسالته المفتوحة التى يوجّهها إلى زملائه المثقفين اليهود، فيدعوهم بكل صراحة ووضوح إلى اتخاذ موقف مُناهض لإساءة إسرائيل معاملة الفلسطينيين، وهى الرسالة التى كتبها إدوارد عام 1989.

وجوه إدوارد سعيد مُتعدّدة، تجمع بين الناقد والمفكّر والسياسى والموسيقى وغيرها، ولكنها جميعًا يؤطرها عنوان واحد إدوارد سعيد المثقف العالمى، بكل ما يحمله مفهوم المثقف الحرّ من تبعات وإلزامات وواجبات، وهو ما جعله بكتاباته وأفكاره وسيرته محورًا للدراسات العالمية والعربية، فكتاباته على تنوّعها تتداخل فى حقول معرفية مختلفة تجمع بين العلوم الاجتماعية والإنسانية والسياسية والفنون على اختلافها.



على الرغم من مرور أكثر من عقدين على رحيل إدوارد سعيد، إلا أنه يطل علينا (فى الأصل لا نحتاج إلى مناسبة لذلك) وبالأحرى أفكاره وأطروحاته ضمن كتاب جديد من إعداد وتحرير محمد شاهين بعنوان «إدوارد سعيد: رسالة مفتوحة غير منشورة، ومقالات أخرى» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2023، الكتاب يحتوى على مقالات نُشرت لإدوارد سعيد فى دوريات مختلفة، وبعضها يُنشر لأول مرة، الرابط المشترك بين جميع المقالات لا يكمُن فى اسم إدوراد سعيد (وإن كان هذا وحده يكفي)، وإنما فى صفة إدوارد سعيد؛ فالرابط المهيمن هو طبيعة المثقف العالمى، المنشغل دومًا بقضايا التحرّر والاستقلال، ويدين سياسات الإمبريالية والإقصاء والاستلاب، وفى الوقت ذاته يُنادى بأعلى صوته، موجهًا النداءات تلو الأخرى لأحرار العالم أيًّا كانت جنسياتهم وأيديولوجياتهم بألا يقفوا مكتوفى الأيدى أمام وحشية (أو بربرية) الاستعمار وظُلمه الذى يحيق بالشعوب الضعيفة المُستلبة الإرادة والأرض والقرار، كما يقوم بدور المثقف المُبصّر بسياسات القمع سواء القمع السياسى أو القمع الفكرى على الأفراد والجماعات، وما تتعرض له الحرية الأكاديميّة من انتهاكات جراء تدخلات السياسة وسلطة المال فى رسم سياساتها.

مقالات الكتاب متنوّعة ما بين النقد الأدبى والفكر السياسى، الجزء الأكبر منها يشتغل على القضية الفلسطينيّة، بدءًا بالرسالة المفتوحة التى يوجهها إلى اليهود الأمريكيين، للوقوف مع الحق الفلسطينى، ومنع توغل الألية الصهيونية. حضور القضية الفلسطينية بارزٌ فى أكثر من مقالة سواء بصيغة مباشرة وفقًا للعنوان الخارجى أو وفقًا لسياق المقالة ذاته، كما فى مقالات «رسالة مفتوحة غير منشورة موجهة إلى المثقفين الأمريكيين اليهود، والهوية السلطة الحرية، المتسلط والرحالة، فى محاولة لإبراز حالة استلاب الهوية الفلسطينية ومحاولة تغييرها بهوية جديدة إسرائيلية، وحاضرة أيضًا فى «الأصول الفكرية للإمبريالية والصهيونية»، وتجربة الاستلاب، فلسطين شذرات اقتلاع معلن»، وأخيرًا «اليسار الأمريكى والقضية الفلسطينية".



تكشف هذه المقالات عن نزعة إنسانية غير محدودة عند إدوارد سعيد تغلّف كتاباته، ففى كل القضايا التى يناقشها لا يتخلّى عن طبيعته الإنسانية فى النظر إلى الأشياء، بما فى ذلك وهو يعالج أدق الأمور علميّة وتخصصًا. ومن جانب آخر تعكس المقالات بشكل وبآخر اهتمامات إدوارد سعيد المتنوّعة؛ فهو تارة الثائر المناضل والمثقف المدافع عن القضية الفلسطينية، كما فى الرسالة المفتوحة، وكذلك فى المقالة الخاصة باليسار الأمريكى والقضية الفلسطينية، وتارة أخرى المثقف الحرّ الذى يدافع عن حرية الأكاديمية وما يجب أن تكون عليه، مستنكرًا أوضاع الحريات فى الجامعات الأمريكية ونظيرتها الجامعات العربية بعد الاستقلال مع الفارق، والإكراهات التى تمارَس من قبل السلطات لمحاولة عزل الجامعة عن خارجها، أو تدجين مفكريها واستغلالهم للترويج لقضايا معينة.

وتارة ثالثة يظهر الناقد أو الباحث المتحرّى المدقّق فى جينيالوجيا المصطلحات، على نحو بحثه عن الأصول الفكرية المشتركة للإمبريالية والصهيونية، والذى ينتهى فيه إلى أن أصولها «تسبق هرتزل واستيطان فلسطين فى ثمانينات القرن التاسع عشر»، ومن ناحية ثانية أن «الصهيونية والإمبريالية تستفيد كل منهما من الأخرى»، فإلى جانب كونهما يقعان فى المركز من الثقافة الغربية الفكرية والسياسية، هما «حقيقتان من إرادة سياسية وعلمية للسيطرة على شعوب العالم الثالث التى توصف بأنها ملوّنة وغير أوروبية»، وبذلك يكون تاريخ الإمبريالية تاريخ أسبق من التاريخ المتعارف عليه فى الأدبيات السياسية، فهو- كما يقول - «يرتبط بشكل أوضح بتاريخ الاستخدامات الصحيحة وغير الصحيحة للعلم الحديث، وبالأحرى تشكيل العلم الحديث وتشويهه»، فمرتكزاتها بالترتيب: الفلسفة ثم الاقتصاد والتوسعات، والأصل الحقيقى للإمبريالية هو التصنيف المنظم، المرتبط بعلوم الأنثربولوجيا والأحياء واللسانيات والتاريخ، وهو التصنيف الذى سيتسع ويصنّف البشر إلى ثقافات متحضرة وأخرى رجعية غير متحضرة، ثم تصنيفات الإقصاء والاستعلاء إلى البيض المتقدمين (المنتجين) والسود الأدنى مرتبة (المبذرين).



ويشير سعيد إلى تطابق الفكر الصهيونى مع الإمبريالى، حيث اقتبس أوائل الصهاينة من بيئاتهم الأوروبية شكل الفكر الإمبريالى وفلسفته ولغته وأسلوبه المتعلق بالشرق، وهو ما نتج عنه دعم الرأسمالية الصهيونية للمشاريع الاستعمارية، وفى مرحلة لاحقه باقتفاء آثاره فى التوجه إلى الأراضى الخالية أو غير المتحضرة، حتى ولو بها سكان، وفى المقابل يثمّن إدوارد سعيد وسائل المقاومة ضدّ الإمبريالية بكافة أشكالها فيقول إن «الكفاح ضدّ الإمبريالية والتمييز العرقى كفاح حضارى».

هذه الاهتمامات تشير إلى طبيعة المثقف العضوى المهموم بقضايا وطنه، والمشتبك بها، فنراه يقرأ الواقع قراءة واعية بكل سياقاته السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية؛ أى قراءة صحيحة، بغية الوصول إلى النتائج، فالأحكام التى يقطعها فى كثير من القضايا ليست عشوائية، وإنما هى نتاج إحصاءات دقيقة ومعايشة لواقع بكل إشكالياته وأزماته وصراعاته، مدعمة بمقارنات بين عوالم وأيديولوجيات مختلفة، ومن ثمّ تأتى أحكامه بصيغة أقرب إلى الجزم، على الرغم من أنه دائمًا يُصّدرها بالزعم والظن. وهذه الصفات هى سمات الباحث الأكاديمى الذى يجب أن يُحتذى، فهو لا يتوقف عند رأى واحد، بل الرأى والرأى النقيض، يقلبهما معًا، ويفنّد كل رأى على حدة بالأدلة والحجج والشواهد.

فى الكتاب إشارات إلى أن فكرة الاستشراق التى طرحها إدوارد سعيد فى كتابه العلامة «الاستشراق» (1978)، كانت أسبق من صدور الكتاب بفترة كبيرة؛ حيث جاءت كتابته كأصداء لفضيحة ووترجيت، وقد اعتمد اعتماد كليًّا على ما فى الأرشيفات من وثائق. وكانت رسالة سعيد واضحة: «نحن نعرف أساليبكم”. الفكرة مرّرها إدوارد سعيد عام 1972 فى مقالة «التمنّع والتجنّب والتعرف» والتى نشرت مترجمة فى مجلة مواقف البيروتية عام 1972، وفيها يتناول سعيد «هشاشة واقع الثقافة العربية إزاء الاعتداء الأجنبى، وكيفية وقوف المثقفين عاجزين عن تقديم البديل»، ويأخذ سعيد عليهم «تجنّبهم الخوض فى معرفة الذات العاجزة، وتمنعهم عن تقديم البديل”.

وفى المقابل أدرك سعيد أن الغرب ينظر إلى منجزاته الثقافية بوصفها مقدّسة، تكتسب فوقيتها من قوتها التنويرية الكهنوتية، بينما اعتبر منجزات العرب دونيّة قابلة للاستهلاك.  فقد أراد الغرب النظر إلى العرب كشيء للاستهلاك، حيث جعل الغرب من العرب مادة تستهلكها الثقافة العدائية النهمة؟

فى إحدى الحوارات المرفقة بالكتاب يحكى إدوارد سعيد عن علاقته بمرض غامض من أنواع اللوكيميا فى عام 1991، وكيف أنه استغلّ فترة المرض فى كتابة مذكراته، فيقول: «استخدمت وقت الصباح للكتابة ولمتابعة ذكرياتى لإعادة خلق زمن كنت قد فقدته، وأفقده أكثر وأكثر كل يوم، وكنوع من وضع تصوّر لشكل الكتاب حاولت أن أستدعى الأماكن التى تغيرت بلا عودة فى حياتى فى مصر وفلسطين ولبنان».



وفى ذات المقابلة لا يوافق إدوارد سعيد على اعتبار «الصمت فضيلة» كما هو شائع فى المثل الشعبى، لأنه يتصل بصمت «إياغو» فى مسرحية  «عطيل»، ولا صمت «هاملت» الذى ينهى حياته بعبارة «البقية صمت»، فالأهم من الصمت فى نظر سعيد هو «تحدى الصمت»، والمثال الدال على ذلك هو تأمّل «بروست» الذى جعل همّه «البحث عن الزمن المفقود» وتقصّى أبعاد الذاكرة  كى لا يضيع إلى الأبد فى متاهات الصمت، وبحثَ فى الكيفية التى توقظ الصمت من سباته الأبدى.

سردية الاستلاب
ضمن مقالات الكتاب يُقدّم لنا شاهين وثيقة جديدة من الوثائق التى تكشف وعى سعيد المبكّر بأحوال الأمة العربية، وبيان العلاقة الهشّة التى تميزت بها المواجهة بين الشرق العربى والغرب الأوروبى، والأمريكي. فالرسالة من الممكن قراءتها فى سياق غير السياق الذى كتبت من أجله (عام 1982) أى قراءتها فى ضوء الأحداث الحالية، والحرب الغشيمة الدائرة الآن فى غزة، وبيان حالات الاستجداءات التى لم تُسفر عن شيء، والسبب - كما قال سعيد (سابقًا وما زال) -  ماثل فى «غياب التكافؤ بين الطرفين، أحدهما قوى والآخر ضعيف، أحدهما بلا هوية مُحدّدة، والآخر يحمل هوية الهيمنة، أحدهما لا يعرف كيف يتعامل مع خصمه، والآخر يعامل الضحية بنمطية واضحة له دون أن يكون كذلك للضحية نفسها وهكذا». 

كما يعرض لأهم قضية يتعرض لها الشعب الفلسطينى، منذ أن نصَب الاحتلال خيمته فى عام 1948، ألا وهى قضية الاستلاب؛ أى استلاب الأرض من أصحابها الأصليين، وهى القضية التى عرضها فيلم «الذاكرة الخصبة» لميشيل خليفى الذى هو واقع عليه فعل الاستلاب ذاته؛ فهو مواطن فلسطينى يحمل جواز سفر إسرائيلى، ويعيش فى بروكسل مُبعدًا، حالة الاستلاب التى يشعرُ بها الفلسطينى الموجود فى أرضه، هى حالة مقززة، ومع الأسف يومية بامتياز على نحو ما عبّر الفيلم الذى لا يكتفى بتسليط الضوء على هذه المعاناة اليومية وإنما يبدو كصرخة تسعى لوقف عجلة الاستعمار (وسياسة الاستلاب) الإسرائيلى، فالواقع يقول إن الفلسطينيين منذ وعد بلفور 1948، وخسائر النكسة 1967، مرورًا بدمار بيروت وصور وصيدا ومذابح صبرا وشاتيلا 1982 (ويمكن أن نفتح القوس وصولا إلى حرب 7 أكتوبر 2023)، والفلسيطينيون كلّ يوم يخسرون أو يفقدون أرضًا، فى مقابل تملُّك غيرهم (مَن سلبهم الأرض) لهذه الأرض، ومن ثم على الرغم من واقعية فلسطين فثمة بعد آخر لهذا الفقدان، بعد مجاله الأيديولوجيا والخيال والإسقاط والفن، بمعنى فلسطين المكان الذى يكتب عنه، يحلم من أجله.

يؤمن إدوارد سعيد بأن ثمة «طريقة أخرى للسرد»، هذه الطريقة يتخذها منهجيّة فى سرديته للاستلاب، هذه السردية لا تأتى كنوع من التأريخ لمعاناة أجيال من الفلسطينيين قاومت الطرد والرقابة والاستيلاء على الأرض والاعتقال والتعذيب والموت وفقط، وإنما يستعرض عبرها لمواقف الخذلان لأصحاب الحق وميزان العدالة المائل، فالعالم يُصفق لقبول إسرائيل بلجنة تقصى حقائق لما حدث فى مذابح صبرا وشاتيلا، فالعالم يغض الطرف عن الانتهاكات التى تفعلها إسرائيل بوصفها المعتدى، ويهلل لأى فعل بسيط، وكيف أن اللوبى الصهيونى عبر الإعلام يستطيع الترويج لحدث صغير على أنه تعبير عن «روح إسرائيل»، فى مقابل يتمّ تصوير الفلسطينيين على أنهم «مجموعة لا تتميّز بشيء محدّد، سوى أنها تعارض إسرائيل بشكل لا تاريخى، وبشكل مجرد تمامًا”.

بل يذهب إلى إبراز ترددات صورة فلسطين فى المرويات الغربية، لمحاولة فهم رغبات الاستلاب التى مورست قديمًا، وما زالت؛ ففلسطين فى الأدبيات الغربية (مسرحيات شكسبير) هى قبلة الحجاج المسيحيين وليس موطن الفلسطينيين، وهناك من تعمّد تغييب كامل للمواطنين الأصلانيين (جورج إليوت)، ومع نفى الخيال لوجود السكان الأصليين، إلا أن وجود السكان الأصليين كما يقول إدوارد سعيد ظل قائمًا. وهناك مَن نظر إلى فلسطين باعتبارها فكرة جغرافية مستقلة تمامًا عن شعبها وجغرافيته، وصولاً إلى وعد بلفور الذى لم يضع فى الحسبان أصحاب الأرض، بل اعتبرهم مجرد مخلوقات دُنيا، وهو ما طبقته فعلا الحركة الصهيونية التى رفعت شعارًا لها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» فى تجاهل تام للسكان الأصليين.

رسالة مفتوحة

فى الرسالة المفتوحة التى وجهها سعيد إلى المثقفين الأمريكيين اليهود، دعاهم إلى اتخاذ موقف مناهض لإساءة إسرائيل معاملة الفلسطينين. كُتبت الرسالة عام 1989 ولكنه لم ينشرها خشيه اشتعال الموقف. تأمُّل الرسالة المفتوحة يكشف عن دلالات عديدة، أولها تمثّل إدوارد سعيد الإنسان كواحد من أبناء الشعب الفلسطينى الواقع عليه المأساة، فهو رغم بُعده المكانى وحمله للجنسية الأمريكية، إلا أنه لم ينفصل عن أرومته، فهو واحد من هؤلاء الذى يعيشون مأساة الحرب وواقع عليهم فعل التشريد والمصادرة واللجوء، فحسب ما عرّف نفسه فى نص الرسالة «فأنا شأنى شأن معظم أبناء شعبى، لست من الضفة الغربية أو غزة. فقد ولدت فى القدس الغربية فى بيت تملكه العائلة، وتحتله الآن عائلة (أو عائلات) يهودية أوروبية، وولدت والدتى فى الناصرة، وترعرعت فيها وفى صفد، وهما مدينتان غدتا مدينتين إسرائيلتين منذ سنة 1948، وقد عشت حياة منعمّة إلى حد بعيد، ولكن كل فرد من أفراد عائلتى، سواء من طرف الأم أو الأب، تحوّل إلى لاجئ، وتأثر فى كثير من الحالات بشكل مدمّر بفقدان ممتلكاته، وهويته الوطنية، وحقوقه السياسية نتيحة لتدمير المجتمع الفلسطينى فى سنة 1948”.  

فتذكيره ببتجربته الشخصية، وحالة اللجوء التى تعرضت لها أسرته منذ قيام الدولة المزعومة، تأكيد أن الفعل مؤذٍ، ووقعه مؤلم حتى لمن حصل على جنسية أخرى، لدرجة أنه يرى أن استعمال اليهود لكلمة وطن، لها وقعها القاتل على مسامع الفلسطينيين، ويوجه خطابه إلى النخبة قائلا عليكم أن تدركوا عُمق الجُرح المباشر الذى تسببه رؤية بيتنا وهو يتحول إلى بيت شخص آخر، مع استمرار تزايد أعداد القتلى الفلسطينيين على مدى أعوام كثيرة دون توقف.
وتارة ثانية بوصفه المثقف الممتثل لمفهوم المثقف الحقيقى الذى يُعنَى بـ«المعرفة والحرية» على نحو ما نظّر له فى كتابه المهم «صور المثقف»، فإدوارد سعيد يشير إلى أنه لا يملك أى تفويض للكلام نيابة عن أحد باستثناء نفسى «حسب عبارته»، وهو ما يعنى أنه يعبّر عن إدوارد سعيد المثقف المحمّل بأيديولوجيا مناهضة للاحتلال ومدافعة عن القضية الفلسطينية، وثانيًّا شجاعة إدوارد سعيد فى اتخاذ موقف مضاد لما يحدث، على الرغم من علمه تبعات جسارته ومواجهته، والأهم أنه توجه إلى النخبة، فى تأكيد مهم إلى دور المثقف الحقيقى، وهو الدور الذى سيخفُت أثره لاحقًا، ويصبح مجرد متفرج ضمن مقاعد المتفرجين.

يبدو إدوارد سعيد عنيفًا فى خطابه، وهو ينتقد الصورة النمطية التى تكّرست للعربى من بعد 1967 فى الخطاب السياسى والثقافى الأوروبى والأمريكى على أننا «لسنا سوى عرب لا ملامح لهم، قتلة، أعداء، عرب خاضعين لسلسة كاملة من التشويهات الأوتوماتيكية التى تتكرر بلا توقف تشويهات مجافاة العقل، والتعصب، وكراهية البشر، والبربرية الخالصة» فى مقابل ما توصف به اسرائيل من ليبرالية وديموقراطية واستنارة.

كما ينتقد حملات دعم أمريكا لإسرائيل سواء بالسلاح والمال والمساندة، ومواقفها المخزية بالفيتو فى الأمم المتحدة، وكذلك ينتقد تعلّم السياسيين الأمريكيين فن تجاهل الحقيقة، كما ينتقد الصمت الطوعى الذى يفرضه المثقفون على أنفسهم، فى مقابل حالة التناقض بإظهارهم قدرات نقدية بالغة الرهافة فى حالات تتصل ببلاد أخري. فى رسالته التى حملت نبرة غاضبة يفنّد كافة الإدعاءات الباطلة ضدّ المقاومة والشعب الأعزل، بل يفضح الساسة الكبار ومواقفهم المخزية فى عمليات الدعم اللامحدود، فى مقابل المنع والحجب لأصوات الحقيقة، ومن ثمّ يوجه اللوم والإدانة بصريح العبارة لهذه السلوكيات، فيقول «لا أعفيكم أنتم من مسؤولياتكم ومواقفكم»، فى إشارة للمثقفين المتخاذلين أو الصامتين وهو ما يُفسّر رفضه للصمت، ويعتبره خذلانًا. يكرّر إدوارد سعيد عبارة «معاقبة شعب» فى رسالته كتأكيد على فعل الإبادة الذى تقوم به إسرائيل دون ردّ فعل يماثل فعل الإبادة الذى يعنى الاقتلاع والاجتثاث والطرد وهى المفاهيم التى كانت أصيلة فى فكر ما بعد الاستعمار. 

الحرية الأكاديمية والسلطة

فى المقالة المعنونه بـ «الهوية السلطة الحرية: المتسلط والرحالة»، وفى أصلها هى المحاضرة التى ألقاها فى جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك فى 22 أيار 1991، أمام جمع من طلاب جامعة كيب تاون فى جنوب أفريقيا، نجده يؤكد على أهمية دور المثقف الفاعل، عبر صورة الأكاديمى وومارسته، وعلاقة الحرية بالبحث العلمى، فيقول فى صيغة أقرب إلى الجزم إن النقاش فى الحرية الأكاديمية يتفاوت من مجتمع وآخر، وأنه يتبدى فى أشكال شديدة الاختلاف، وأحد هذه الأشكال فى الجامعات الأمريكية ما يتعلّق بطبيعة المنهج التعليمي. يحاول سعيد أن يضع الجامعة فى سياق الضغوطات التى تُمارس عليها بفعل السياسة، وهو ما يَحِدّ من حريتها بشكل كبير على نحو ما يشير إليه عبر الأمثلة المباشرة (وغير المباشرة) التى يضربها لبيان فداحة الضغوطات التى تمارس ضد حرية البحث الأكاديمى، وإن كان يُشدّد على أن هذه العوائق يجب ألا تمنع من البحث عن الحرية الأكاديمية، حيث تغدو أكثر أهمية وإلحاحًا وأشد تطلبًا للتحليل الدقيق والمتأمل على حد قوله.

ولكى يكون أكثر واقعيّة ينزع القشرة عن المناخ الذى عاشه فى الجامعة فى الولايات المتحدة الأمريكية، فيقارن بين سياقين؛ الأول عندما كان طالبًا فى الولايات المتحدة الأمريكية حيث يعيش ويدرس، والثانى فى الجامعات الوطنية فى العالم العربى حيث مسقط رأسه.

فى السياق الأول كان ثمة تسليم بانعزال الجامعة عن العالم الذى يقع خارج أسوارها، لكن جاءت تجربة الحرب الفيتنامية وما أحدثته من تواصل كثيف بين الأكاديمية ومؤسسات الحكومة والسلطة، لتقول إن الحجاب (بين العالمين: الداخلى والخارجي) قد اُنتهك، ولم يعد من المسلّم بأن علماء السياسة أو علماء الاجتماع قد كانوا مجرد منظرين أشبه بالحكماء أو أنهم كانوا محض باحثين محايدين، فلقد (كما يقول): «اكتُشف أن الكثير منهم يعملون - سرًّا أحيانًا وجهارًا أحيانًا أخرى - فى خدمة وزارة الخارجية الأمريكية أو وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أو البنتاغون فى قضايا من نوع العصيان المضاد أو «البحث القاتل".

انكسار فكرة انعزال الجامعة عن واقعها، كان له ردود أفعال معاكسة ومتساوية، لدرجة أن وصِفت الجامعة بأنها ذراع الحكومة، وأنها لا تعكس إلا مصالح الشركات ومؤسسات السيطرة، ومن ثم يجب أن تتحول بكليتها «إلى مكان يتعلم فيه الطلاب كيف يصيرون مصلحين أو ثوريين»، وصارت كلمة السر الجديدة العلاقة بالراهن. فكرة الانعزال راحت تتبدد تمامًا مع دخول مواد تعليمية جديدة على نحو الدراسات المتعلقة بالنساء والأقليات وآثار الحرب والعنصرية والقمع الجنسى، فبدأ كما يقول إدوارد سعيد «إن ثمة دنيوية جديدة فى الجامعة نفت عنها الانعزال النسبي".

وقد اُتّخذ شعار“الحرية الأكاديمية» كدليل على عودة الجامعة إلى نمط من الحياد تجاه عالم الحياة اليومية وإلى إقامة مسافة بينها وبين ذلك العالم. وفى السياق ذاته يدافع إدوارد سعيد عن الحرية الأكاديمية، وينتقد الإكراهات التى طالت هذا الشعار سواء بالمبالغات والتشويهات، وقد وصلت إلى تصوير الأكاديمية الأمريكية -خلال الثمانينات - بأنها فى قبضة مؤامرة ماركسية ثورية، أو من قبيل أن المواد التعليمية الجديدة التى تمّ إدخالها فى المنهاج التعليمى القديم، قد سببت انحدارًا فى المستويات العريقة التى تمتعت بها الجامعة، وقد أكد الزاعمون أنها انحدرت ضحية الضغوط السياسية الخارجية.


وفى المقابل أن الرافضين لفكرة المواد التعليمية الجديدة، التى تعنى بانخراط الجامعة فى الواقع، كانوا بمطالبتهم بالعودة إلى المنهاج التقليدى والأفكار والقيم المستمَدة بشكل حصرى من تيار المفكرين الأوروبيين السائد: «أفلاطون، أرسطو، سوفوكليس، ديكارت، مونتانى، شكسبير، باكون، لوك، إلخ...» يعنى عزل (أو ابتعاد) الجامعة عن الحياة اليومية، ويضرب مثلاً بنموذج فجّ ممثلاً فى «آلان بلوم» صاحب كتاب «انغلاق العقل الأمريكي» الذى دعا فيه إلى مبدأ الانتخاب والانتقاء فى التعليم، إذ أيّد بكل صراحة حقّ الجامعة فى تعليم نُخبة صغيرة راشدة ومهيّأة بعناية، بدلاً من تعليم أعداد ضخمة من الفقراء والمحرومين. وعلى النقيض تمامًا يرفض إدوارد سعيد أن يكون المفهوم من «الحرية الأكاديمية» هذا المعنى السلبي؛ فالحرية لا يمكن أن تكون إجازة تتيح للمرء (على نحو ما عبر ماثيو أرنولد فى سياق مختلف) بأن يفعل ما يشاء ويرغب. الغريب أن مثل هؤلاء الذى يريدون استغلال الحرية الأكاديمية فى الاستبعاد والمنع، لا يجدون «أى صعوبة فى قبول المال من الشركات والمؤسسات الموجودة خارج الجامعة، وتتبنّى آراءهم الشديدة المحافظة".

جدلية القومية والأمن القومى

بالنسبة للجامعات فى العالم العربى فحسب وصفه «تحكم هذه الجامعات الكبيرة العامة فى كثيرة من البلدان العربية، حكومات غير دينية وإن كان بعضها (كالسعودية) يُسيّر من قبل حكومات غير دينية ذات تفويض ديني". هذه الجامعات باستثناءات قليلة، ليست جامعات قومية (من وجهة نظر سعيد) فحسب، بل هى مؤسسات سياسية كذلك.

ويعدد الأسباب التى يجعله يقول هذا الرأى، بدءًا بخضوع العالم العربى لفترات طويلة تحت الحكم الكولونيالى (الشرقى والغربي)، فيعكس تجربته الشخصية عندما تعلّم فى المدارس البريطانية وكيف أن المناهج التعليمية التى أُجبر على دراستها جعلته أكثر التصاقًا بالموروث الغربى أكثر من معرفته للمورث الشرقى، ومن ثمّ عندما حدث الاستقلال الوطنى للشعوب العربية بسبب النضالات المعادية للاستعمار، كان التعليم من بين الميادين الأولى التى تغيرت، فالرغبة العارمة فى استرداد الأرض التربوية التى كانت لسنوات طويلة محتلة من قبل الحُكّام الأجانب فى العالم العربى، بسبب ما فرضه الأجانب من آليات لاحترام القواعد والقيم البعيدة عن الهُوية العربيّة أكثر من القيم والقواعد الخاصة بالتقاليد الشرقية. وكان الغرض هو تكريس تفوق الآخر (أو الحضارة) الغربى، فى مقابل إظهار دونية الحضارات الأخرى، بل عززوا فى نفوس الطلاب وفق هذه القواعد كما يقول سعيد وفقًا لتلقيه لها فى المدارس البريطانية، الشعور بالخجل من حضارتنا. 

ويفتخر إدوارد سعيد بنتائج التربية القومية المستندة إلى الأعراف العربية، فيقول بكل وضوح «إنه سوف يكون من الخطأ أو العبث أن يوحى بأن التربية القومية المستندة إلى الأعراف العربية هى فى حد ذاتها تافهة أو فقيرة»، بل بمزيد من الفخر يقول «إن التقليد العربى (الإسلامي) لهو واحد من الإسهامات الثقافية العظيمة التى قُدمت للإنسانية»، ويؤكد بقوله: «إن فى جامعتى فاس والأزهر القديمتين، بالإضافة إلى المدارس المختلفة المنتشرة فى العالم العربى «تجربة تربوية غنية قد قُدمت لأجيال لا تُحصى من التلاميذ". ومع هذا الثناء إلا أنه لا يخفى تحفظًا بأن الجامعات الوطنية فى الدول العربية المستقلة حديثًا قد اعتبرت (بغض النظر عن كون مثل هذا الاعتبار صوابًا أو خطأ) امتدادات لدولة الأمن القومى الجديد، وهو ما يؤكد عنده مسلمة «أن جميع المجتمعات تُضفى امتيازًا ملحوظًا على الجامعة والمدرسة بوصفهما بوتقتيْن تتشكل فيهما الهُوية الوطنية".

تعتبر فكرة التدجين واحدة من العقبات التى تحُول دون الحرية الأكاديمية، فعلى مستوى الجامعات العربية يرى إدوارد سعيد أن التربية الحقيقية فى العالم العربى غالبًا ما كانت منقوصة، ففى الماضى كان الشبان العرب ضحية لعملية الغسيل الفكرى التى عمدت إليها الأيديولوجيا الغربية فى المدارس الأجنبية بفرض القواعد والشروط الغربيّة التى تبعدهم عن العادات والتقاليد الشرقية، وبعد الاستقلال عاد تشكيل عقولهم بفعل الحزب الحاكم الذى أضحى بسبب الحرب الباردة والصراع العربى الإسرائيلى حزب الأمن القومى، إضافة إلى أن التعيين فى الجامعة تعيينات حكومية، مرتبطة بالولاء السياسى لا التفوق الثقافى، وهو ما آل إلى انعدام الخيال، وينتهى إدوارد سعيد وفقًا لهذه العوامل إضافة إلى انعدام الديموقراطية وغياب حرية الصحافة الحرة، والقمع السياسى هجرة العقول اللامعة والموهبين إلى الغرب، وغيرها من عوامل؛ ينتهى إلى القول بأن مفهوم الحرية الأكاديمية بكامله قد انحدر انحدارًا كبيرًا خلال العقود الثلاثة الماضية، ولم يعد ممكنًا أن يكون المرء حرًّا فى الجامعة إلا إذا تجنّب تجنُّبًا تامًا كل ما يثير الشُّبْهة أو الاهتمام غير المرحّب به. فقصرُ ممارسة الخطاب الثقافى على الامتثال لأيديولوجيا سياسية مقررة سلفًا، لهو إلغاء للفكر برمته.

ومع أن إدوارد سعيد ينتقد وضعية الحرية الأكاديمية فى الجامعات الأمريكية، إلا أنه عندما يقارنها بالحريات فى الجامعات العربية، فإنه يرى أن الوضع مختلف تمامًا، بل يقول إن الإيحاء بأن ثمة أوجه شَبه واضحة بين الاثنتين يؤدى إلى تشويه صورة كل منهما.

ومع هذا فإدوارد سعيد يعوّل كثيرًا على الظروف الاجتماعية والثقافية وبالأحرى الهوية القومية لكل مجتمع كآلية تحدّد مشكلة هذه الحرية. ومعرفة الهوية القويمة التى هى بالطبع تختلف من دولة إلى أخرى، إلا أنه يعزى إليها فى أجزاء مختلفة من العالم الغربى والأفريقى والآسيوى والإسلامى، إلى المسألة السياسية التى تُعنى بكيفية حُكم هذا المجتمع متى حدد تعريف الهوية. وبما إن العلاقة بين الهوية القومية والهويات الأخرى فى ظل النزاع الحضارى العالمى، سوف تنعكس فى المؤسسات الأكاديمية، هنا يتساءل إدوارد سعيد: كيف يتمّ هذا الانعكاس؟ فيقول بكل شك إن كل حضارة تُخبر عن ذاتها، وكل حضارة تؤكد، بالطبع تفوقها على الحضارات الأخرى، وبصفة عامة فلا حضارة توجد فى معزل عن الحضارات الأخرى. ومع هذه التأكيدات على المسلمات، إلا أن إدوارد سعيد يتحفظ من تأثير السلطة، فيقول إن دراسة ثقافة أى فرد تُحتم النظر إلى ما تمّ نقله من الحضارات الأخرى والتقاليد الأخرى والمجموعات القومية الأخرى، والخشية تكمن فى أن الحرية الأكاديمية الحقيقية سوف تواجه خطرًا كبيرًا لو حملت السلطة المسبغة على الثقافة القومية الخاصة سلطة إدامة العداوة بين الحضارات. ففى مقابل تمتع أبناء اليهود بالحرية الكاملة فى الذهاب إلى المدارس والجامعات، فإنه يمنع أبناء الفلسطينيين بقرار سياسى مريع، وهنا يكرر انتقاده إلى المثقفين والأكاديميين الغربيين الذين لم يتدخلوا لتخفيف وطأة القرار.

يستنكر إدوارد سعيد عمليات إنكار الهوية الفلسطينية لا تتمّ على يد كولونياليين جدد، بقدر ما هى صادرة عن أحفاد شعب هم اليهود، فالضحية - فى مفارقة مدهشة - صار جلادًا، السؤال الأهم الذى يطرحه، ليس لماذا تفعل إسرائيل ما تفعله مع الشعب الفلسطيني؟ بقدر ما هو يحلّق فى الخيال، باعتبار ما سيكون، حيث سينال الشعب حق تقرير مصيره، وامتلاك دولته المستقلة، عندئذ يتساءل: أى نوع من السلطة؟ أى نوع من القواعد الإنسانية؟ أى نوع من الهوية سوف يسمح لهم بأن يقودهم وأن يرشد بحثهم وأن يملى عليهم الأنماط التربوية؟

صراع الهويات يعكسه إدوارد سعيد على واقع الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى، فالوحشية التى تمارسها الألية الصهيونية غرضها تثبيت هوية وطنية جديدة هى الإسرائيلية، والتثبيت يعنى غياب هوية وطنية متعارضة وقومية موجودة قبلا وهى الفلسطينية، وما يزيد الوضع إيلامًا هو أن هذه الممارسات تتم باسم الأخلاقية الغربية والتوراتية / الإنجيلية المدعومة بتراث عريق من الحكمة والتطور والخبرة التقنية، وهو ما يعزز من معنى الاستلاب والاقتلاع كألية تلجأ إليها الإمبريالية، لمحاولة طمس هوية شعب، وإحلال هوية بديلة.

ينتهى إدوارد سعيد إلى أن معنى الحرية الأكاديمية لا يمكن أن يختزل ببساطة إلى تبجيل سلطة الهوية القومية التى لم تخضع للفحص، وإلى تبجيل ثقافتها. فالحياة الثقافية (وهو يقصد العلوم الاجتماعية والإنسانيات) هى فى جوهرها حرية أن تكون نقدية: إن النقد هو الحياة الثقافية عينها؛ ورغم أن الفضاء الأكاديمى جزء كبير من هذه الحياة، إلا أن روحها روح ثقافية ونقدية، لا تبجيلية ووطنية".

إدوارد سعيد مثقف كبير، وهو المعنى الذى لا يدركه من ينعتون أنفسهم بلفظ مثقف، فكلمة مثقف لها تبعات كبيرة على نحو ما وضح سعيد نفسه فى صور المثقف، لا أذهب إلى ما قاله سارتر عن المثقف الملتزم، بل أشير إلى سعيد وهو ما تمثله فعلاً وقولاً. وهذا ما أجمله فى نهاية رسالته قائلا: » يبدو لى أذن أن الطريق أمامنا قد اتضحت معالمها، فإما أن نحارب من أجل العدل والحقيقة وحق النقد الصادق، أو أن نتخلى عن صفة المثقفين»، وهو ما يتوافق مع مفهوم سعيد للمثقف الذى يُميّزه «مواجهة السلطة بالحقيقة» والانتصار للضعفاء والمضطهدين من لا حول لهم ولا قوة ولا صوت، فيضطلع بالتعبير عنهم وتمثيلهم. المثقف عند سعيد معارض بامتياز يختار طريق مواجهة الطغاة والمنتصرين، فظل متشبثًا كما يقول تودوروف بقناعته بأن السؤال الأساسى الذى يجب طرحه على المثقف اليوم هو «سؤال العذاب الإنسانى».