محمود الوردانى ..هكذا تكلمت جُلبيرى « 5»

محمود الوردانى
محمود الوردانى

فى الجزء الأخير من السيرة الحافلة، تتوقف مؤقتا الرحلات التى استمرت سنوات وراء إسماعيل، وهو ينتقل من سجن إلى آخر، ومن حفلات تعذيب فى المعتقلات، إلى محاكمات صورية، ويمضى مع عدة مئات من اليساريين خمس سنوات فى معسكر اعتقال المحاريق.

 بعد كل ذلك تمضى سنوات أخرى مع اسماعيل أيضا بعد أن اختاره السادات وزيرا للتخطيط فى عدة حكومات، من بينها الحكومة التى اندلعت خلال توليها حرب أكتوبر، فنشاهد معها حفلات الاستقبال الرسمية ومرافقة الضيوف من الرؤساء فى بعثات الشرف، والمناسبات الرسمية التى يحضرها السادات الذى تولى الرئاسة، وأطاح بطاقم الحكم بكامله وألقى بهم فى السجن، ثم اختار اسماعيل صبرى عبد الله وبعد ذلك فؤاد مرسى لإضفاء صبغة حمراء على حُكمه، ومالبث أن تخلص من فؤاد مرسى عند أول فرصة، بينما يتحين إسماعيل الفرصة للإفلات من سجن الوزارة، لأنه يدرك أن الأمور لاتستقيم، وأنه ليس معّيّنا إلا بسبب الصبغة الحمراء، حتى لوفعل المستحيل هو وفؤاد مرسى لإنقاذ مايمكن إنقاذه، ويخرج فى نهاية الأمر بإرادته، بعد أن قدّم للسادات بناءً على طلبه مذكرة بشأن التخلص من المنابر وتحويلها إلى أحزاب، وهو مانفّذه السادات حرفيا بعد خروج اسماعيل، ولم يشر إلى دوره مطلقا.

ويعود العاشقان- جُلبيرى واسماعيل - للحياة التى اختاراها بعد خروج الأخير من سجن الوزارة، وتنجح فى اصطحابه فى جولات الشراء، ويستمتعان بحياتهما ويسافران هنا وهناك بعيدا عن البعثات الرسمية، ويعودان للقاءات الأصدقاء والحياة الاجتماعية للمثقفين والسياسيين المتقاعدين.. والكاتبة فى كل ذلك تملك عينا لاقطة مدهشة.. عين الشاعرة والأديبة وعززتها مذكراتها الشخصية التى سبق لها أن سجّلتها.

لايفوتها أن تلحظ بوادر التغييرات التى ازدادت وتائرها سريعا: الأغنياء يتوحشون والفقراء يزدادون فقرا، ونتائج حرب أكتوبر تتغير ونكاد نفقد انتصارا دفع ثمنه الشهداء من الجنود والضباط.. انتفاضة 18 و19 يناير 1977، والتفاصيل الدقيقة لشاهد عيان رأى الناس وهم يقتحمون ويحطمون الرموز الرسمية مثل مقرات الحزب الوطنى ودور الصحف وتُداس صورة السادات بالأقدام ويهرب الأخير إلى أسوان.

سيرة الكاتبة هى بالضبط سيرة بلادنا وسجلّها وأيامها من خلال عين أتيح لها أن تشهد وتعيش بانوراما حافلة على مدى مايقرب من ستة عقود. لايفوتها بالطبع الزيارة المشئومة للقدس والانصياع لسياسات الولايات المتحدة. الانفتاح الاقتصادى على البحرى. الانقلاب على كل الجوانب الإيجابية للناصرية.

تروى أيضا ماشاهدته من مقاومة المثقفين الذين أسسوا لجنة الدفاع عن الثقافة المصرية لعرقلة قطار التطبيع مع العدو الإسرائيلى وإدانة المتورطين، لكن تفكيك البلاد يستمر والانفتاح يصبح ساحة للنهب والفساد والقمع.

وفى سبتمبر 1981 ألقى السادات بنحو 1500 مثقف وكاتب وأستاذ جامعى وسياسى من كل التيارات والاتجاهات فى السجن، وسمّى مايفعله على سبيل التدليل«تحفظ». وكان من بين من تم التحفظ عليهم فى سجن طُرة إسماعيل، ف  عادت جٌلبيرى- حسب تعبيرها- لارتداء زيها القديم، زى زوجة المحبوس، وراحت تتردد مرة أخرى على مكاتب وزارة الداخلية وتفشل فى الحصول على زيارة، وبعد شهر تقريبا اغتيل السادات فى العرض العسكرى، وبعد شهور قليلة أفرج عن إسماعيل وغيره من الرموز كما هو معروف.

 وأخيرا لايملك الواحد إلا أن يتقدم بخالص العرفان والمحبة لكل ذلك الفيض الذى غمرت به جُلبيرى قارئها فى سيرة بلغ عدد صفحاتها ما يزيد على 800 صفحة من القطع الكبير.