ياسر عبدالحافظ ..تجارة النهايات

ياسر عبدالحافظ
ياسر عبدالحافظ

200 يوم مرت على هذه الحرب وكل يوم إضافى فيها كأنه تأكيد آخر على مشهد نهاية ترسمه قوات الاحتلال، فهل تكفى الكلمات والأشعار والاحتجاجات حول العالم لإيقافه أم المطلوب أن يستمر إلى أن ينضم إليه كل المؤمنين بـ«المخلص»!

فيما كنت أقلب فى قنوات التليفزيون أتابع ما يجرى فى غزة استوقفنى، على قناة حديثة البث، مشهد غير مألوف : رجل يرتدى الأسود، يغطى شعر رأسه بطاقية تكاد تخفى عينيه وتنسدل من على جانبيها خصلات شعره. يقف على منبر فى منتصف قاعة، وحول المنبر مجموعة من فتيات وشباب جالسين تحته وأبصارهم شاخصة إليه كما لو أنهم منومون!




يتحدث إليهم بالإنجليزية وثمة ترجمة إلى العربية بصوت آخر يعلو على صوته. إنجليزيته الواثقة يكسرها بين الحين والآخر بكلمات عربية يلقى بها السلام على آل البيت والمهديين. يلفت النظر خلفه على الحائط بورتريه مرسوم على الطريقة الشائعة فى بعض التصورات عن آل البيت والأولياء، قبل أن يتبين لى فيما بعد أنه تصور ملائكى ساذج للرجل ذاته الواقف على المنبر، تصوره بوجه ناعم وشعر حريرى طويل وعلى العكس من ملابسه السوداء التى يظهر بها على الدوام فإنه فى لوحته يرتدى الأبيض، وبعد متابعة لفترة للقناة يتبين أن اللوحات الأخرى التى تجاور لوحته هى لبعض أتباعه من الشباب والفتيات، وكلها تنتمى إلى مدرسة واحدة ومفهوم واحد يسعى لإبراز اختلاف المجموعة عن غيرها من البشر.

على الرغم من أن القناة (اسمها «ظهر المهدى») ذات محتوى دينى إلا أنه كان مختلفًا بالكامل عن أى محتوى آخر شاهدته من قبل، ومع أن الفكرة ليست جديدة من نوعها: التبشير بظهور المهدي، إلا أن المفاهيم بدت غير اعتيادية، وحتى مع وضع تصور عن أنه يقف خلفها جماعة متطرفة وجدت طريقها إلى البث التليفزيونى عبر التواجد فى لندن والبث من هناك، إلا أنه كان شكلًا مغايرًا من التطرف، فالعاملون فى القناة لا رسالة عندهم إلا تكرار أن المسلمين جميعهم خارجون عن شرع الله لأنهم لا يتبعون الرجل الواقف على المنبر الذى يعتبرونه مرسلًا من السماء ليس للمسلمين فقط، بل ولغيرهم من يهود ومسيحيين وملاحدة...، والتحذير يقال بصيغة لا لبس فيها: العالم أجمع عليه توقع عذاب قريب لن ينجو منه إلا من اتبع هذا الذى يصور نفسه ملاكًا.

رسول جديد بمواصفات عصرية، خطابه متماسك إلى حد بعيد، يجبر المشاهد على الاستماع إليه لبعض الوقت، على الأقل لمعرفة قصته، من هذا الذى يحمل اسمًا عربيًا ويتحدث بلغة أجنبية ويقسم أن الله أرسله ليسقط عن الناس فروضًا ويبدل فى غيرها ويحثهم على اتباع أوامره ونواهيه لأن هذا هو الدين الحقيقي.. الطاعة المطلقة للرسول باعتبار أنه يتحدث بلسان الله.

من اللافت اليوم هذا الانتشار الملحوظ لخطابات إسلامية فى الغرب، ثمة من يقول إن الإسلام يجد قبولًا أكبر فى هذا الزمن، إنه أصبح قوة مؤثرة فى بلدان عدة، لكن حتى لو صح ذلك فدراسة بعض أنماط هذه الخطابات يقول بإنه ليس انتشارًا لدين واحد هو ما نعرفه هنا فى منطقتنا، ليس النسخة التقليدية من الإسلام السنى أو الشيعي، بل أمر آخر مخالف لا يبدو أنه يعتمد على مناهج ثابتة ومعتبرة معترف بها بإجماع العلماء بل يعيد قراءة التراث المتاح له ليخرج بالنتائج التى حددها سلفًا، والمثير أنه يستخدم فى هذا الدجل طرق التفكير العلمية والمنطقية ليضع رؤاه وأحكامه من دون انتظار لتعاليم وإرشادات المراكز المألوفة فى دولة عربية وإسلامية.

هناك الكثير من الدراسات الأجنبية عن الوجود الإسلامى فى الغرب، أماكن الانتشار، التوجهات الرئيسية، مستقبله فى ظل صراع يتزايد يومًا بعد الآخر مع تنامى الشعور بأن الثقافة الغربية سواء المسيحية التقليدية، أو اللا دينية باتت مهددة. لكن أى دراسة من تلك لن تكون قادرة أبدًا على توقع أى مفهوم إسلامى من بين تلك المفاهيم المتعددة سيفرض وجوده، هل يكون الأمر رهنًا بقائد، أو شخص يدعى أنه رسول مثل هذا الذى يطلب من الناس أن يتبعوه، وأنهم إن استخدموا عقولهم فقد كفروا.

يستند مدعى النبوة هذا إلى مفاهيم إسلامية غنوصية، ومفاهيم يهودية، وأخرى مسيحية، ويمزج هذا كله بالجانب الخرافى من الثقافة الغربية، ذلك الذى لا يعترف بالرواية الرسمية للواقع ولا يقبل سقوط فاعلية الأسطورة عنه، يقول بتناسخ الأرواح، وبأن الشيطان خالق العالم المادي، وبوجود أرباب آخرين وإن كانوا أقل درجة من الله. 

يبدو الأمر هزليًا، خاصة عندما يتضح ومع الكثير من البحث والتدقيق أن ثمة شبهات واسعة تدور حول المجموعة والنبى المزعوم وخاصة فيما يتعلق بالأموال، ففى جانب من القصة يتضح أن ثمة تجارة رائجة تدر أرباحًا هائلة أساسها عقيدة المخلص، الشخص الذى يتم التبشير بأنه سيقيم دولة العدل على الأرض، هذا الذي، وعلى مدى عقود طويلة، تكونت روايته وترسخت وأصبح له رجال يتحدثون باسمه، يدعون التواصل معه ويبشرون بمقدمه، فكرة موجودة طوال الوقت لها أتباعها، ثمة بلاد حولنا يتمحور وجودها حول هذه الفكرة، آيات الله هؤلاء لا يمكن الاعتراض على أوامرهم لأنها آتية من قلب أسطورة المخلص، والصراع الأساسى فى الثقافة الإسلامية، والمستمر إلى لحظتنا الحالية، هو بالأساس حول الرغبة فى إسقاط فكرة المخلص تلك، والمتحدثين باسمه، والوكلاء الذين يملون علينا تعاليمه. هى ذاتها المعركة التى خاضها الغرب لينجح فى تحجيم الفكرة فى إطارها التراثى ويوقف سيطرتها على مجريات الحياة.

ليست القناة المشار إليها سوى واحدة من علامات عديدة تتزايد بشكل متسارع على انتشار هذا النوع من التفكير، على أننا فى زمن النهايات، ومن دون أن يقتصر الأمر على الإسلام، فالفكرة ليست مقصورة عليه بل تجد مصادرها المتنوعة من اليهودية والمسيحية وكذلك من الديانات غير السماوية، فضلًا عن النبوءات الشهيرة. قبلًا كانت تجرى على ألسنة العرافين والمنجمين والسحرة، وعادة لا تجد استجابة إلا عند عقل لم يتعلم مقاومتها عبر قواعد التفكير العلمية والمنطقية والإيمان التام بالحرية الفردية باعتبارها وسيلة الخلاص.

التاريخ البشرى حافل بلحظات كهذه، تمر علينا بطيئة وثقيلة، يسود فيها الاحساس باقتراب النهاية، لكن المغاير هذه المرة أن فكرة النهاية يبدو كما لو أنها تتغذى على رغبة جماعية فى التخلص من قصتنا الإنسانية بأكملها، ليس لأن رقعة الحروب أكبر، بل لأن طاقة الحقد والغضب وراءها أعلى ولأنها بلا هدف إلا التدمير ذاته.

لم أتمكن فيما أنتقل من قناة مدعى المهداوية إلى حرب غزة مجددا، من تفادى الربط بين هذا وذاك، لا يمكن رؤية حرب إسرائيل على غزة إلا  ضمن تجارة النهايات الرائجة فى عصرنا، كل خرافات الميثولوجيا الدينية يتم بعثها، والتصميم الإسرائيلى على مواصلة الحرب، وعلى القتل والتدمير لا يمكن رؤيته إلا من خلال سيطرة رؤى دينية مغرقة فى أصوليتها وتسليمها بعقيدة المخلص، ذلك الذى لن يأتى إلا فوق مشهد خراب لينقذنا منه. وكأن السؤال دومًا.. كم حربًا نحتاج إلى خوضها قبل الإيمان بأننا لسنا فى حاجة إلى مخلص ليكتشف هذا العالم البائس إنسانيته المفقودة!

200 يوم مرت على هذه الحرب وكل يوم إضافى فيها كأنه تأكيد آخر على مشهد نهاية ترسمه قوات الاحتلال، فهل تكفى الكلمات والأشعار والاحتجاجات حول العالم لإيقافه أم المطلوب أن يستمر إلى أن ينضم إليه كل المؤمنين بـ«المخلص»!