ابن حنبل.. إمام في «محنة»

ابن حنبل
ابن حنبل

■ كتب: حسن حافظ

◄ تعرض للتعذيب في حضرة الخليفة المعتصم وكتب بثباته فصلا من تاريخ المسلمين
◄ احتفاء مختلف الفقهاء والمحدثين به لأنه أنقذ العقيدة من محاولات التحريف

في زمن المحنة عندما قرر الخليفة العباسي المأمون عبد الله بن هارون الرشيد إجبار الناس على اعتناق مذهب المعتزلة، وجعله المذهب الرسمى للخلافة الإسلامية، أثار الأمر زوبعة، فالقرار صدر بامتحان الفقهاء ومن يقول برأى المعتزلة بأن القرآن مخلوق، يعفى من العذاب المهين، ويحتفظ بمنصبه العلمى، أما من يعترض فهو فى العذاب مقيم، وسرت الفتنة فى المجتمع العباسى فى النصف الأول من القرن الثالث الهجرى، فالجميع فى ترقب وخوف من سيف الخليفة وسوطه، فلجأ البعض إلى التقية يقول بلسانه ما لا يصدقه قلبه، ويخضع البعض لرهبة الخلافة فيذعن ويقر برأيها، إلا حفنة من الرجال رفضوا الخضوع وتمسكوا بحرية الرأى والاعتقاد، كان فى مقدمتهم أحمد بن حنبل.

يعد ابن حنبل (164- 241 هجريا/ 780- 855 ميلاديا)، من علماء الحديث الكبار فى عصره، وأحد المبرزين فى فن الجرح والتعديل، أى العلم المعنى بالتأكد من صدق رواة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبر التمحيص فى أحوالهم وتتلمذهم على يد من ينقلون عنهم الأحاديث النبوية، فضلا عن ذلك ترك لنا كتابه فى الأحاديث النبوية، والذى يعرف باسم «مسند أحمد بن حنبل».

ونشط ابن حنبل فى مدينة بغداد عاصمة الخلافة العباسية فى أوج مجدها، لكن المدينة كانت تعانى من تبعات الحرب الأهلية بين الأمين والمأمون والتى انتهت بانتصار الأخير، وإعلانه خليفة على المسلمين، وحاول المأمون (حكم 198- 218 هجريا/ 813- 833 ميلاديا)، أن يوجد صيغة ما يحكم بها كل أراضى الخلافة العباسية ويصبغ عليها الوحدة حتى ولو بشكل قسرى، لذا فكر فى أن يستغل مذهب المعتزلة الكلامى لكى يجبر مختلف الفرق والمذاهب الإسلامية على اعتناقه، وهو أمر يتعارض مع حرية الاجتهاد المكفولة فى الإسلام، لكن تلك الرغبة أشعلت فتنة امتد لهيبها من بغداد إلى مختلف الأمصار الإسلامية، عرفت باسمها الأشهر (محنة خلق القرآن).

◄ اقرأ أيضًا | محمد بن إدريس الشافعي.. ثالث الأئمة الأربعة ومؤسس علم أصول الفقه

وقد تعرض الكثير من الفقهاء والمؤرخين لموضع محنة أو فتنة خلق القرآن، أمثال الطبرى وابن الجوزى وابن الأثير وابن كثير والذهبى وغيرهم، لكن يظل أهم كتاب هنا هو (المحنة) الذى روى فيه أحمد بن حنبل ما جرى له أيام الامتحان، وقد رواها عنه ولده صالح بن أحمد بن حنبل. كما أصبح موضوع الفتنة ومحاولة تحليل أسبابها وفهم دوافعها ركنا أساسيا فى الدراسات الحديثة سواء من المستشرقين أو العرب، ونذكر هنا بعض هذه الدراسات: (أحمد بن حنبل والمحنة) لولتر م. باتون، و(المثقفون فى الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد) لمحمد عابد الجابرى، و(المحنة: بحث فى جدلية الدينى والسياسى فى الإسلام) لفهمى جدعان.

◄ بداية المحنة
أمر الخليفة العباسى المأمون بامتحان الفقهاء فمن يقول بخلق القرآن على رأى المعتزلة فيبقى على منصب القضاء أو يترك فى مجاله التعليمى، لكن من يتمسك بالقول إن القرآن كلام الله قديم كما هو رأى أهل الحديث، فيعزل من منصبه ويمتحن فى أفكاره، ومع الإجراءات التى بدأت فى 218 هجريا/ 833 ميلاديا، رضخ بعض الفقهاء أمام تهديد السلطة لكن حفنة من الفقهاء وعلماء الحديث اعترضوا على هذا الأمر ورفضوا التخلى عمّا يرونه صوابا.

كان ابن حنبل أحد هؤلاء، إذ لم يكن وحده فأخذ نفس الموقف المحدث أحمد بن نصر الخزاعى، ويوسف بن يحيى البويطى المصرى، وكلاهما مات تحت التعذيب أيام المحنة، فالخليفة المأمون أمر باستدعاء الفقهاء والمحدثين الرافضين للقول بخلق القرآن إلى معسكره فى طرسوس لكى يمتحنهم، لكنه مات قبل أن يصلوا إلى مكانه، فتولى عملية امتحان الفقهاء كل من الخليفة المعتصم بالله (حكم 218- 227 هجريًا/ 833-842 ميلاديًا)، وابنه الخليفة الواثق بالله (حكم 227- 232 هجريًا/ 842- 847م)، ولم يكن الخليفة المعتصم إلا أميًا لا شأن له إلا إدارة الدولة وأمور الجندية، لذا نفذ وصية أخيه المأمون فى استمرار امتحان الفقهاء فى عقائدهم، وترك الأمر لقاضيه أحمد بن أبى دؤاد، الذى امتحن أحمد بن حنبل ومن معه.

وحمل ابن حنبل إلى حضرة الخليفة المعتصم وهو مكبل بالأصفاد، ويقول ابن حنبل نفسه عن هذا المشهد: «فلم أستطع أن أمشى بها فربطتها فى التكة وحملتها بيدى، ثم جاءونى بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهى من ثقل القيود، وليس معى أحد يمسكنى، فسلم الله حتى جئنا دار الخلافة فأدخلت فى بيت، وأغلق علىّ، وليس عندى سراج فأردت الوضوء فمددت يدى فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت أصلى، ولا أعرف القبلة فلما أصبحت إذا أنا على القبلة، ولله الحمد»، وجرى امتحان ابن حنبل أمام الخليفة العباسى وقد أثقله الحديد، ورغم حالته الجسمانية إلا أنه ثبت لمناظرات طويلة مع أنصار القول بخلق القرآن، واستمرت المحنة لثلاثة أيام متواصلة، كل يوم يحمل ابن حنبل فى الأصفاد إلى حضرة الخليفة ومن معه من فقهاء السوء ليمتحنوه وهو يرد عليهم ويصر على موقفه لا يغيره، بل إن الخليفة المعتصم تدخل لترغيب ابن حنبل فى تغيير موقفه قائلا: «يا أحمد، أجبنى إلى هذا حتى أجعلك من خاصتى ، وممن يطأ بساطى. فأقول: يا أمير المؤمنين، يأتونى بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها».

◄ تحت تعذيب
وأمام موقف ابن حنبل الصلب، انتقلوا إلى سلاح الترهيب بعد فشل سلاح الترغيب، فقال نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم للخليفة العباسى: «يا أمير المؤمنين، ليس من تدبير الخلافة أن تخلى سبيله ويغلب خليفتين»، فعند ذلك حمى واشتد غضبه، وأمر بمعاقبة ابن حنبل بالجلد، ويقول الأخير عن هذا الموقف الجلل: «فأخذت وسحبت وخلعت وجىء بالعقابين والسياط، وأنا أنظر، وكان معى شعر من شعر النبى صلى الله عليه وسلم مصرور فى ثوبى فجردونى منه، وصرت بين العقابين، فقلت: يا أمير المؤمنين، الله الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث) وتلوت الحديث ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم). فبِمَ تستحل دمى، ولم آت شيئا من هذا، يا أمير المؤمنين اذكر وقوفك بين يدى الله كوقوفى بين يديك».

لم تفلح كلمات ابن حنبل فى إقناع الخليفة المعتصم الذى أمر بضرب ابن حنبل بالسياط، ويقول للجلاد: «شد، قطع الله يدك»، لكى يجعل ضربة السياط أقوى على جسد ابن حنبل، ومن شدة التعذيب فقد الوعى ويقول عن نفسه بحسب ما ينقل المؤرخون: «وذهب عقلى مرارًا»، لكن التعذيب لم يؤد لنتيجة، بل على العكس عندما أحس الخليفة أن ابن حنبل قد يموت تحت التعذيب، قرر أن يوقف الضرب بالسياط وأن يطلق سراح أحمد بن حنبل، فلما رجع إلى بيته جاءه المطبب فقطع لحما ميتا من جسده من أثر الضرب بالسياط.

◄ نهاية الفتنة
استمرت الفتنة فى أيام الخليفة الواثق بن المعتصم، لكن الغمة زالت مع تولى المتوكل على الله الخلافة العباسية (حكم 232- 247 هجريًا/ 847- 861 ميلاديًا)، فلم يكن على نفس موقف والده وأخيه، بل قرر وقف امتحان الفقهاء بمقولة خلق القرآن، معلنا بذلك انتصار أحمد بن حنبل، الذى حظى بمكانة رفيعة غير متنازع عليها بين مختلف الفقهاء والمحدثين فى عصره وفى العصور التالية لموقفه البطولى فى الدفاع عن العقيدة وحرية الاعتقاد، يقول محمد أبو زهرة فى كتابه (ابن حنبل: حياته وعصره- آراؤه وفقهه): «وفى الحق إن أحمد قد ابتلى، فأحسن البلاء، وصقلت نفسه، وفتن بالشديدة والكريهة، فخرج منها كما يخرج الذهب من الكير، وقد نقى وطهر من كل فلز غريب عنه، واختبر أحمد بالدنيا وزينتها فصدف عنها… اختبر أحمد بالضراء والسراء فلم تخنع الضراء قلبه، ولم تفتن السراء عقله، اختبره خلفاء أربعة، فخرج من الاختبار رجلًا صالحًا».

كتب أحمد بن حنبل اسمه بحروف من نور فى سجل أصحاب الفضيلة والاحترام، فالرجل ثبت على مواقفه فى وقت فضل البعض بريق الدنيا، وخاف البعض الآخر من سوط السلطان، ثبت فى موقف كانت العقيدة على وشك التغيير فى نفوس الناس، لو أطاع السلطان لكنّا الآن نؤمن بأفكار مختلفة، لكنه تحمل وصبر من أجل الله ورسوله، من أجل كلمة حق، من أجل ما يعتقد صوابه وصحته، فمن أجل ذلك كله حصد إجماع علماء الأمة واعترافهم بالجميل والامتنان لما فعله بثباته فى وجه سلطان الخلافة فى عز قوتها وجبروتها.