محمد السيد عيد.. أوديب في الطائرة ولعبة الزمن

أوديب فى الطائرة ولعبة الزمن
أوديب فى الطائرة ولعبة الزمن

أسطورة أوديب من أكثر الأساطير شهرة فى التاريخ الإنساني. تناولها الكتاب من مختلف الثقافات، وكتبوا عنها عشرات المسرحيات، وفى أدبنا المصرى هناك أربعة نصوص مسرحية على الأقل تعالج هذه الأسطورة، لتوفيق الحكيم، وعلى أحمد باكثير، وعلى سالم، وفوزى فهمي. ودخل المضمار أخيراً الكاتب محمد سلماوى، لكنه لم يدخل بنص مسرحي، بل بنص روائي، هو «أوديب فى الطائرة». وقبل أن نتعرف على نص سلماوى لا بد لنا أن نقف أمام الأسطورة القديمة لنعرف كيف تعامل معها سلماوى.

(1)
تروى الأسطورة اليونانية أن الملك لايوس، ملك طيبة اليونانية، فى العصور القديمة، تزوج امرأة تسمى جوكاستا. حملت المرأة من زوجها، وكان من عادة اليونانيين أن يذهبوا إلى معبد دلفى ليسألوا الآلهة عن مصير أبنائهم، وذهب لايوس كما هى العادة ليسأل عن طفله القادم، فأخبرته الكاهنة أن الطفل الذى سيرزق به مكتوب عليه أن يقتل أباه ويتزوج أمه. إنزعج لايوس وزوجته من النبوءة، لكن كان من الصعب عليهما أن يقتلا ولدهما ليتفاديا المصير المفجع الذى قدرته الآلهة على ولدهما قبل أن يولد، وتوصلا لقرار محدد: بدلاً من أن يقتلا ولدهما سيسلمانه لأحد الرعاة ليقتله هو.

سلما الولد للراعي، لكن الراعى لم يطاوعه قلبه، فعلق الطفل من قدمه فى شجرة ومضي، وهكذا صار الطفل صاحب عاهة فى رجله، وكلمة أوديب فى اللغة اليونانية تدل على هذا المعني.

اقرأ أيضا | قنوات مدريد وأفلاج الإمارات.. كيف اهتمت الحضارة الإسلامية بالماء؟

شاهد أحد الرعاة الولد معلقاً فى الشجرة، فأخذه إلى بوليباس ملك كورنثة وزوجته ميروب، لأنهما لا ينجبان، ففرحا به، واتخذاه ولداً.

حين صار أوديب شاباً فتياً عرف أنه مكتوب عليه أن يقتل أباه ويتزوج أمه. شعر أوديب بالخوف من مصيره، ولأنه يحب بوليباس وميروب فقد ترك المدينة وابتعد هارباً.

خلال طريقه قابل فى أحد الممرات الجبلية الضيقة ركباً لرجل. تنازع مع كبير الركب حول أولوية المرور، فما كان من أوديب إلا أن ضرب الرجل فقتله، ثم تركه ومضي، دون أن يدرك أن هذا الرجل هو والده، وهكذا تحقق الجزء الأول من النبوءة.

وصل أوديب إلى أسوار طيبة، وجد المدينة فى وضع سيء للغاية، إذ وقف أمامها وحش مفترس، راح يلقى لغزاً على كل من يقابله، فإذا لم يستطع الشخص حل اللغز قام الوحش بافتراسه. 

كانت مدينة طيبة بلا ملك، فقد خرج الملك فى رحلة ولم يعد، وعلم أهل المدينة أنه قُتل، لكنهم لم يعلموا من قتله على وجه التحديد، وأمام هذا الوضع قرر أهل المدينة أن من يقتل الوحش سيولونه ملكاً عليهم، ويزوجونه الملكة.


واجه أوديب الوحش. سأله الوحش: ما هو الكائن الذى يسير فى الصبح على أربع، وفى الظهيرة على اثنتين، وفى المساء على ثلاث؟ أجابه أوديب: إنه الإنسان. فالإنسان فى طفولته يحبو على يديه ورجليه، وفى شبابه يسير على اثنتين، وفى شيخوخته يعتمد على عصا بجوار قدميه. ولما حل أوديب اللغز ألقى الوحش بنفسه من قمة الجبل وانتهت قصته مع المدينة.

دخل أوديب المدينة. فوجيء بأن أهلها يولونه الحكم عليهم، ويزوجونه الملكة التى فقدت زوجها، وهكذا تحقق الجزء الثانى من نبوءة الآلهة. وهكذا أكدت الأسطورة أن الإنسان لا يمكن أن يهرب من قدره.

عاش أوديب هانئا فى مملكته، أنجب من زوجته ولدين وبنتين. ثم أصابت المدينة لعنة، فالنساء لم يعدن يحملن، والزروع لم تعد تنبت، وعانت المدينة مر المعاناة. سأل أوديب عن سر ما يحدث فأبلغوه أن اللعنة لن ترفع عن المدينة إلا إذا عرفوا المتسبب فيها وعاقبوه. أقسم أوديب إنه لو عرفه فسيعاقبه أقسى عقوبة. وتذمر الشعب بسبب اللعنة التى لم يكن سبباً لها.

تتكشف المسألة شيئاً فشيئاً. يأتى الراعى الذى سلم أوديب طفلاً لملك كورنثة ليخبره بأن الملك بوليباس قد مات وصار هو «أوديب» ملك كورنثة. رغم إحساس أوديب بأن اللعنة قد كذبت بموت والده إلا أنه خشى العودة إلى كورنثة، خوفاً من أن يتحقق الجزء الخاص بالزواج من أمه. وحين صارح الراعى بهذا أخبره الراعى بأن بوليباس ليس والده وميروب ليست والدته، وأنه وجده فى طفولته معلقاً فى شجرة فذهب إليهما به، فقاما بتبنيه. ولا يلبث أن يأتى الراعى الذى أخذ أوديب من والديه عند ولادته وعلقه فى الشجرة، ويخبر أوديب بأن جوكاستا سلمته له طفلاً ليتخلص منه، لولا أن قلبه رق فلم يقتله. ثم يتبين أن الرجل الذى قتله ذات يوم فى الممر الجبلى لم يكن سوى والده. حينئذ يعرف هو وجوكاستا معاً سبب اللعنة. فيقوم أوديب بفقء عينيه، ويخرج من طيبة، أما أمه فتقتل نفسها. وهكذا تكتمل الفاجعة بوقوع الشقاء لمن لا يستحقه.

هذا موجز أحداث الأسطورة التى عالجها سلماوى فى روايته، وسنرى فيما يلى كيف تعامل معها. 

(2)
أراد سلماوى أن يجعل من أوديب شخصية معاصرة، فجمع فى روايته بين الزمنين: القديم والمعاصر. وصور أوديب فى صورة حاكم معاصر يتنقل بالطائرة، ويستخدم المخترعات التكنولوجية الحديثة.
 

وربط بين تذمر أهل طيبة القدامى بسبب اللعنة وثورة «ما» فى العصر الحديث، قد تكون هى الثورة المصرية فى 2011. وأضاف إلى الشخصيات الأسطورية شخصيات معاصرة من الثوار الرافضين للأوضاع المتردية فى ظل حكم أوديب وطغيانه، كما تعمد التأكيد على أن اسم المملكة التى يحكمها أوديب هو «طيبة»، والمعروف أن عاصمة مصر فى العصور القديمة كانت تسمى طيبة أيضاً، ثم انسحبت التسمية على مصر كلها. ومن باب المزيد من الربط وصفها فى أحد المواضع بأنها «أم البلاد»، مما يذكرنا بنشيدنا القومي:

مصر يا أم البلاد  أنت غايتى والمراد
ويذكرنا بقولنا الشائع: مصر أم الدنيا.
 بهذه الحيل الفنية صار من الممكن الربط بين الرواية وأبطالها وأحداثها وبين مصر المعاصرة، لكن هذا لا يمنع الآخرين من أن يروا غير هذا. 

وكى يتم المزج بين الزمنين بشكل جيد فقد أخذ سلماوى من الزمن القديم بعض مفرداته الأساسية، مثل: الشخصيات الأسطورية، الآلهة، بعض الأساطير القديمة، اسم مدينة اسبرطة التى تعادى طيبة، وغير ذلك. كما أخذ من العصر الحاضر بعض المخترعات، والشخصيات، والأحداث، والتعبيرات: الطائرة، التليفون المحمول، الفتنة الطائفية، الوحدة الوطنية، السينما، المهرجانات السينمائية، الكاميرات، الاستديوهات، جورج بوش رئيس الولايات المتحدة، مايكل مور، المخرج السينمائى الشهير الذى قدم فيلما تسجيليا فضح فيه الحرب الأمريكية على العراق، وغيرها.

والزمن الحاضر فى روايتنا قصير جداً. يبدأ مع رفض أوديب النزول من الطائرة إلى السجن، وينتهى بنزوله وذهابه للسجن مستسلماً. أما الزمن الأكبر الذى نجده فى الرواية فهو الفلاش باك. 

(3)
يبدأ الحدث بتقديم أوديب للقارىء، ومن خلال حوار سريع معه نعرف أنه حكم عليه بالسجن، وتم نقله بالطائرة لتنفيذ الحكم، إلا أنه يرفض النزول، لأن هذا لا يتناسب مع تاريخه وما قدمه لطيبة:

«أنا القائد الذى حمله الشعب على الأعناق وهتف باسمه. هل نسيتم أين كانت طيبة، وماذا كانت حالكم؟ لقد توليت العرش بعد مقتل لايوس والبلد على شفا حرب أهلية تهدد بفنائها، قُتل ملككم وانقسمتم على أنفسكم، عبدة بوسيبون يقتلون عبدة أورانوس، وعبدة أورانوس يحرقون معابد بوسيبون.....لولا حكمتى وحكمى الرشيد ما أُنقذت البلاد من مصيرها المحتوم..... هل نسيتم الانتصار فى الحرب على اسبرطة؟ لقد جلبت لكم النصربعد سنوات الهوان. كانت ضربتى القاضية هى التى حققت النصر لقواتنا» (1)


سلماوى فى هذا المقتطف يشير –بصورة غير مباشرة- إلى الصلة بين أوديب وحاكم مصرى معاصر، ويؤكد معاصرة الحدث فى روايته بالحديث عن الخلاف بين أتباع بوسيبون وأتباع أورانوس (يمكن أن تفهم على أنها إشارة للفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين)، أما اسبرطة التى يذكرها فمن الممكن أن تكون معادلاً موضوعياً لإسرائيل.

هذه المبررات هى التى جعلت أوديب يقاوم، ويرفض السجن، وسنرى عما قليل كيف أنه كان يرى أن ما حدث (الثورة وقول الآلهة بأنه هو المسؤول عن اللعنة) مجرد مؤامرة. 

ويدخل سلماوى كثيراً من التعديلات على أحداث الأسطورة، ويشكك فى كثير من أحداثها. ومن ذلك: 
حَذْف شخصيتى بوليباس وميروب اللذين تبنيا أوديب. 
القول بأن تريزياس هو الذى أعطى الطفل للراعي، وأن الراعى هو الذى رباه، لكنه لم ينشئه نشأة الرعاة، بل نشأّه نشأة الفرسان الأبطال.
أنكر أوديب فكرة قتله للوحش، وجعلها من صنع المحيطين به الذين أرادوا إيهام الشعب ببطولته، كما غير حكاية المواجهة التى حدثت بينه وبين والده فى أحد المضايق الجبلية. 
لم تقتل جوكاستا نفسها كما حدث فى الأصل، بل ماتت من الحزن، وعلم أوديب بخبر موتها حين أبلغه الحراس فشكك فى الأمر واتهمهم بقتلها.
لم يفقأ أوديب عينيه بل عوقب بالسجن.
لم يتنازل أوديب عن عرشه بعد أن عرف أنه سبب البلاء، بل تنازل عن العرش حين أخبره كريون، رئيس الجيش، وتوبياس، رئيس مجلس الشيوخ، بأن مطلب المتظاهرين الوحيد هو تخليه عن الحكم. 
يشكك أوديب فى كل ما يصدر عن تريزياس وكريون، ويرى أنه مؤامرة.
•يشكك الكاتب فى صدق النبوءة نفسها. فكريون يقول لكبير الكهنة، كأنه يوجهه، قبل أن يدخلا المعبد ليتلقيا النبوءة: «عليك يا كبير الكهنة أن تزن كلماتك داخل المعبد بميزان الذهب، فاللحظات ستكتب تاريخ طيبة وتحدد مصائر أبنائها» (3)
وحين يخبرون أوديب بأن الآلهة قالت إنه المتسبب فى اللعنة التى حلت بالمدينة يتساءل الكاتب على لسان بطله: 
«تلك النبوءة التى نقلوها إليه، والتى لم يكن قادراً على تصديقها. هل نطقت باسمه حقاً، أم كانت تلك مؤامرة دنيئة من كريون وبمساعدة رئيس مجلس الشيوخ من أجل اغتصاب العرش؟!» (4)
ولعل السر وراء هذه التغييرات كلها أن كاتبنا أراد زعزعة فكرة أن أوديب ضحية للقدر، الذى فرض عليه أن يقتل أباه ويتزوج أمه، وأن يوصل إلينا فكرة جديدة، هى أن الأمر كله مجرد لعبة سياسية. 
وسط هذه الأحداث نرى ثنائياً لم يرد له ذكر فى الأسطورة، أقصد ثنائى هيباتيا وبترو. وهما يمثلان الحاضر، ويقدمان نموذجاً للشباب المتعلم الذى يعانى من قسوة الظروف، ويتبنى الثورة لأنه ضاق بالطغيان، والبطالة، والفساد. ويحيط بهما لوكاس، صديق بترو، وخطيبته تيا، ورجل مسن كان ثائراً فى الزمن السابق، ولقى العذاب من أجل موقفه، وانتهى به الأمر صاحب استديو للأعمال السينمائية والتلفزيونية. 
وتسير الأحداث فى روايتنا فى خطين متوازيين، هما الماضى التراثى والحاضر الحي.
إننا طوال الرواية فى جدل بين الماضى والحاضر، كأن الكاتب يريد أن يقول لنا أن ما نعيشه فى هذا العصر يتكرر فى كل العصور. المهم أننا لا نستطيع أن نجزم عند انتهاء الرواية: هل كنا أمام قصة أوديب الذى خط القدر مصيره، أم أمام لعبة سياسية خططها كريون وتريسياس وأتباعهما؟ وقد نجح سلماوى فى نسج أحداث روايته ليصل بنا إلى هذه النقطة.

(4)
الشخصيات فى روايتنا ثلاثة أنواع:
شخصيات تراثية حقيقية: وهى أوديب، جوكاستا، كريون، تريسياس، بنتا أوديب من جوكاستا، والكاهن الأكبر.
شخصيات شبه تراثية: وهي، ديتر، رئيس أركان الجيوش، وتوبياس، رئيس مجلس الشيوخ، وميناندر، رئيس حرس القصر.
شخصيات معاصرة: هى هيباتيا، بترو، لوكاس، تيا، ليون. 
الشخصيات شبه التراثية شخصيات بلا أبعاد، تأتى لضرورة تصوير بعض الأحداث، لذلك لن نتوقف أمامها. ونبدأ بالحديث عن الشخصيات التراثية مباشرة، وأولها أوديب. 
أوديب فى الأسطورة رجل محكوم عليه باللعنة قبل أن يولد. لم يرتكب ذنباً بشكل إرادى، بل سعى جاهداً لتجنب القدر، لكنه فى سعيه للهرب من قدره يحقق مشيئة الآلهة. وهذا ما جعل آرسطو يعتبره بطلاً تراجيدياً نموذجياً، حيث إن البطل التراجيدى هو رجل نبيل، يصاب بالشقاء وهو لا يستحق هذا الشقاء. أما فى روايتنا فالأمر مختلف، وقد بيننا كيف اجتهد الكاتب للتشكيك فى الأجزاء الأسطورية المتعلقة بأوديب. لكن النقطة الأساسية التى يلتقى فيها كاتبنا مع التراث هى دكتاتورية أوديب وطغيانه. يقول تريسياس بعد مواجهته لأوديب فى روايتنا:
«يا ملوك الاستبداد! القوة زائلة والمُلك لا يدوم! يا ساكنى القصور، لا يأخذكم غرور السلطة، فعقاب الآلهة آتٍ لا محالة». 

(5)
ولعله من الضرورى أن نشير إلى أن سلماوى يبرز فى روايته أن الملك حين يتحول إلى طاغية، ويتسبب فى تذمر جماهيرى واسع، أو ثورة ضد النظام، يتحرك بعض المحيطين به للتخلص منه بالقتل، أو الخلع. بيّن هذا عند الحديث عن الملك لايوس، الذى سبق أوديب فى حكم طيبة، فرغم أنه أحرز نصراً عسكرياً مهما إلا أنه «بعد أن مضت نشوة الانتصار، وساد جو من التناحر والاقتتال بين مختلف فئات الشعب، خاصة بين عنصرى الأمة؛ البوسيبون والأورانوس، حتى كادت طيبة تسقط فى آتون الحرب الأهلية..... فما كان منه إلا أن ألقى القبض على جميع معارضيه وألقاهم فى السجون، فازداد التوتر وساد الاضطراب، وفى ذروة الأزمة اغتيل لايوس».

هذا الكلام يؤكد أن اتهام أوديب بأنه المتسبب فى اللعنة ليس حقيقياً، بل هو لعبة سياسية، لعبها معه أقرب رجاله، كما لعبوها من قبل مع لايوس.
الشخصية الثانية فى روايتنا هى كريون، وهو على خلاف مع أوديب فى الأصل التراثى والنص المعاصر. يقول عنه كاتبنا: «كريون رئيس الجيوش، وهو شقيق جوكاستا مما قد يجعله أكثر حرصاً على إنقاذهم، وإن كان أوديب لا يثق فيه كثيراً» وبالفعل يصير الرجلان ضدين، ويسعى كريون للتخلص من صهره، وهو الذى يذهب إلى معبد دلفى ليطلب النبوءة، وفى الرواية مواجهة بينه وبين أوديب. يقول أوديب له خلالها:
«بل هى مؤامرة للاستيلاء على الحكم. الأمر اتضح الآن وضوح الشمس. لقد كنت تطمع فى العرش منذ زمن».
وبعد موت جوكاستا يأخذ كريون البنتين لتعيشا معه، وحين يعلم أوديب بذلك يصيح:
«هل أخذ كريون كل شيء؟ أخذ مُلكي، وأخذ زوجتي، وأخذ ابنتيّ! أين عدل السماء؟» 
ولا يصور سلماوى كريون أثناء تآمره، بل يقدم لنا رأى أوديب فيه خلال الأحداث، وكأنه يريد أن يجعلنا نشك فى حقيقة أفعال هذا الرجل، هل هى مؤامرة سياسية، أم هى تحقيق للنبوءة؟

وتريسياس فى الأسطورة القديمة هو العراف الأعمى الذى ينطق بصوت الآلهة، أما فى روايتنا فالكاتب يشكك فيه كما يشكك فى كريون. وخلال المشاهد السريعة التى نراه فيها نراه شجاعاً لا يهتز أمام أوديب. كما نراه بين الثوار يبشر بالثورة. وقد ذكرنا أن كاتبنا أعطاه دوراً مغايراً عما جاء فى الأسطورة.

وتريسياس هو الذى ينهى الرواية مع أوديب، ويقنعه بأنه لا بد أن يعاقب، ويسجن، لأنه سبب اللعنة، لكن حتى فى هذه اللحظة يعترض أوديب. يقول له: هل المطلوب منى التكفير عما قدرته الأقدار؟ هل عليّ أن أقبل عقاباً على ما دبرته الآلهة؟
ولا تلعب جوكاستا دوراً كبيراً فى روايتنا، ونراها فى مشاهد محدودة تقوم بدور الزوجة الحنون، حتى حين يقول أوديب لبنتيه إنه لم يقتل الوحش تعترض، لأنها تريد زوجها بطلاً، ثم يأتى موتها خبراً عارضاً فى حوار مع أوديب ويشكك أوديب فى أنها ماتت ميتة طبيعية، ويرى أنهم قتلوها.
ودور البنتين باهت، فهما لا يظهران سوى فى مشهد واحد يبين فيه أوديب لهما أنه لم يقتل وحوشاً. ثم يأتى ذكرهما فى النهاية حين نعرف أنهما ذهبتا لتعيشا مع خالهما. ولعله من المهم أن نذكر أن الأصل الأسطورى جعل لأوديب ولدين وبنتين، لكن سلماوى لم يذكر الولدين.

أما الشخصيات المعاصرة فأهمها بترو، ورغم أنه خريح معهد السينما إلا أنه لا يعمل فى مجال تخصصه الذى يملأ عليه دنياه وأحلامه المستقبلية، ويعانى من البطالة، ثم يضطر لأن يعمل مندوب مبيعات، وسائق أوبر، لهذه الأسباب لم يكن مستغرباً أن ينضم للثوار، وقد بيننا علاقته مع هيباتيا وغيرها من الشخصيات فلا داعى للتكرار.

وهيباتيا بنت تحب بإخلاص. ثائرة مثل بقية الشباب. حين يقودون حبيبها للسجن يلقى لها بالكاميرا التى صور بها أحداث الثورة، فتحتفظ بها، وتواصل دوره، فتصور له المشاهد التى حدثت خلال وجوده فى السجن، وتنتظره حتى يخرج، ليكملا معاً المسيرة التى تنتهى بالزواج.

أما لوكاس وتيا فدورهما محدود، لكنه يذكرنا بحدث حقيقى رأيناه أثناء ثورة 2011 فى الميدان، حيث قام شاب وفتاة بالحضور إلى الميدان بثياب الزفاف، وقام الثوار بزفافهما، فسجل سلماوى هذه اللقطة من خلالهما.

ورغم أن ليون شخصية عابرة إلا أنها واضحة المعالم، فقد كان ثائراً فى شبابه، وقبض عليه، وألقى فى السجن، فطلبت منه حبيبته الطلاق، فطلقها، وبعد خروجه من السجن ترك السياسة، وقنع بافتتاح استوديو للخدمات السينمائية والتلفزيونية، وصار الاستديو أكبر استوديو فى طيبة، وحين شبت الثورة اشتعلت الجذوة القديمة فى نفسه مرة أخرى، ونزل ليون الميدان، وأحاط المحبين بعطفه، وراسل أحد مهرجانات السينما الشهيرة بخصوص فيلم بترو ليتحقق حلمه بالمشاركة فى مهرجان عالمي.

وما يهمنا أن سلماوى استطاع من خلال هذه الشخصيات التراثية والمعاصرة أن يعبر عن وجهة نظره.
كانت الأفعال الماضية هى المسيطرة على روايتنا، من خلال الراوى العليم بكل شيء. لكن رغم هذا قدم لنا سلماوى بعض المواقف فى صورة مشاهد مسرحية، تعتمد على الحوار، والمشاهد المسرحية بطبيعتها تجسد حاضراً نراه بأعيننا. وليس هذا غريباً على سلماوى فهو كاتب مسرحى مشهود له. هذا التنوع بين السرد والحوار جعل الرواية أكثر حيوية. 
وأخيراً:
هذا نص روائى جيد. استطاع سلماوى من خلاله التعبير عن اللحظة الراهنة، دون الوقوع فى براثن المباشرة، إذ اتخذ من التراث قناعاً يقول من ورائه ما يريد.