قنوات مدريد وأفلاج الإمارات.. كيف اهتمت الحضارة الإسلامية بالماء؟

الماء فى الحضارة الإسلامية
الماء فى الحضارة الإسلامية

المتتبع لآثار الحضارة الإسلامية فى المشرق والمغرب، يجد اهتماما يصل حد الولع بالماء، أرجع البعض سببه إلى إدراك العرب المبكر أن الماء سر الحياة، ولذلك اهتموا بالحصول عليه بشتى الطرق من حفر لآبار وتشييد للقنوات والسدود وغيرها، وأضاف البعض فى تفسيره إلى رغبتهم فى محاكاة الجنة السماوية ومائها المتدفق أنهارا فى قلب حدائق تسر الناظرين.

 وتعد «نافورة السباع» فى بهو السباع، أشهر أجنحة قصر الحمراء فى غرناطة، من أبرز الجنان الأرضية التى تتجلى فيها محبة الماء وبراعة مهندسى الحضارة الإسلامية، وخير شاهد على دقة التصميم الذى يضمن جريان الماء بلا انقطاع فى القنوات والنوافير.

وتتكون نافورة السباع من حوض مرمرى مستدير ضخم، يحمله اثنا عشر أسداً، اصطفت بشكل دائرى تقذف بالماء من أفواهها وتنساب فى قنوات، قيل إنها كانت بمثابة ساعة مائية حيث تتدفق المياه من أفواه أسودها كل ساعة وبالتوالى أسداً بعد أسد، وعندما توقف تدفق الماء منها حديثا، استلزم لجنة من الخبراء وعلماء الفيزياء والميكانيكا والهندسة قضاء ثلاث سنوات فى دراسة النافورة ليعرفوا سر عدم تدفق الماء. 

اقرأ أيضاً |  فيروز كراوية .. رقصة الارتقاء الصوفى بين زمنين

قنوات مدريد وفخارها
ولم تكن «غرناطة» الشاهد الوحيد على اهتمام الحضارة الإسلامية بالماء، بل امتد الأمر إلى أماكن ومدن أخرى، وهذا ما اهتمت به محاور كتاب «الماء فى الحضارة الإسلامية»، الذى صدر مؤخرا للدكتور خالد عزب، عالم الآثار المختص بفقه العمران، ضمن سلسلة «كتاب المجلة العربية».

يذكر الكتاب ما قدمته الحضارة الإسلامية فى قضايا المياه، ويعدد كيف اهتم المسلمون بتوصيل المياه من مصادرها البعيدة إلى المدن باستخدام أساليب إنشائية مركبة ومعقدة، وأن العاصمة الإسبانية «مدريد» تدين بفضل سقياها بل وحياتها كلها إلى نظام مبتكر عرف المسلمون كيف يتقدمون به تقدما عظيما جديرا بالإعجاب تميزوا به على الإغريق والرومان الذين برعوا فى بناء مجار ضخمة رفعوها على قواعد هائلة من الصخر ظاهرة على سطح الأرض، على عكس مجار المسلمين وقنواتهم المحفورة فى باطن الأرض مثل تلك الموجودة فى مدريد.

يذكر «عزب» أنه وفقا للأبحاث التى أجراها مؤرخ مدريد أوليفر آسين: فإن «مدريد تقوم على هضبة منبسطة من طبقتين أرضيتين: الأولى العليا أرض رملية تتشرب الماء، تليها من أسفل طبقة أخرى من طين أحمر يضرب إلى الصفرة مصمت لا يمتص الماء، ومن تحت هذه الطبقة توجد مياه غزيرة عذبة».

وللحصول على الثروة المائية الهائلة التى تحتفظ بها مدريد فى باطن أرضها، وظف المسلمون خبراتهم فى استخراج المياه الباطنة عن طريق المجارى الجوفية الجيولوجية، وما يعرفون من نظم كانت موجودة بالفعل فى المشرق الإسلامي.

وتتجلى فى «قنوات مدريد» براعة المهندسين المسلمين فى حساب عمق المياه الجوفية وحفر آبار تصل إليه، ثم حفر قنوات لنقل الماء فى الطبقة الأرضية التى لا تمتص الماء مع مراعاة أن تكون منحدرة انحدارا خفيفا يسمح بجريان الماء دون توقف .. هذه القنوات كانت تُصنع من فخار مدريد نفسها، وهو فخار ممتاز نوه الجغرافيون العرب بأنه من أجود ما يعرف من الأنواع ولذلك لأنه قوى مصمت لامع يشبه الخزف ولا يتشرب السوائل. 

نظام توزيع المياه فى قنوات مدريد
كان يتم حفر الآبار فى مواضع مرتفعة عن مستوى المدينة، وتتجه القنوات الجوفية مقتربة من المدينة، وتتكون من قناة ضخمة تعتبر القناة الأم ومنها تتفرع فى داخل المدينة شبكة معقدة من قنوات فرعية صغيرة، وعند نقطة تجمع عدد من هذه القنوات الفرعية يقام خزان أو مستودع يحاط بالطوب والفخار، وتبنى عليها صهاريج مقفلة بأبواب وقضبان من الحديد، لا يسمح بدخولها إلا لمن توكل إليه مسؤولية الصهريج، وعن طريق هذه الخزانات يتم توزيع الماء توزيعا عادلا بين الأحياء والمنازل والحدائق العامة والخاصة.

ويلاحظ أن الآبار الأولى التى حُفرت لكى تمتد منها شبكة المجارى الجوفية تقع شرق مدريد وشمالها، وهذه المواضع تبعد عن وسط المدينة عند تأسيسها على أيدى المسلمين بما يتراوح بين سبعة واثنى عشر كيلو مترا. والفرق بين سطح الأرض عند الأبار الأولى التى تبدأ منها القنوات الجوفية وسطحها فى وسط المدينة فيتراوح بين ثمانين ومئة متر تقطعها القنوات فى انحدار متدرج يسمح بجريان الماء.

ويلفت الدكتور عزب النظر إلى أن هذا النظام أستخدم فى «مراكش» على يد مهندس أندلسى يدعى عبدالله بن يونس، وبفضل هذا النظام اشتهرت مراكش بكثرة الزروع ووفرة الماء رغم أنها مدينة قليلة الأمطار ولا تقع على نهر، ولكن بفضل المياه الباطنة التى امتدت عبر شبكة واسعة من القنوات الجوفية أصبحت مراكش واحة خضراء.
 

ولم تكن الأندلس الشاهد الوحيد على إهتمام الحضارة الإسلامية بالماء فى البلدان الأوروبية التى وصل إليها مد الحضارة الإسلامية، فقد ذكر المؤرخ المعاصر د. بوبو فيتش، أن العثمانيين كانوا خبراء فى تمديد الأقنية، ولذلك عرفت «بلغراد» المياه النظيفة على يد العثمانيين الذين اهتموا بالبحث عن المياه وشق القنوات الجوفية لإيصال المياه النظيفة إلى البيوت والجوامع والحمامات فى بلغراد، الأمر الذى جعلها تمتاز عن بقية المدن الأوروبية بشبكة مياهها العذبة آنذاك. ومثلما ترك العثمانيون بصمتهم فى بلغراد، فعلوا فى الجزائر وغيرها.

صهاريج جدة وأفلاج الإمارات
ولم يكن هذا التطور فى طرق الحصول على الماء ونقله من أماكن الوفرة إلى أماكن الندرة وليد زمنه ولحظته، وفى هذا يذكر الدكتور خالد عزب نماذج متعددة من العصور الإسلامية الأولى يدلل بها على مكانة الماء والجهود التى بذلت لتوفيره والمحافظة عليه. فيذكر أن جدة عانت من ندرة المياه كثيرا، وحينما زارها الرحالة «شمس الدين المقدسي» وصفها بأنها عامرة، أهلها أهل تجارات ويسار، وأهلها فى تعب من الماء، وفى منتصف القرن الخامس الهجري، زار الرحالة ناصر خسرو جدة ولاحظ عدم وجود الأشجار والزرع رغم ازدهارها العمراني، وأرجع ذلك إلى قِلة الماء.

وفى العصر المملوكي، عنى السلطان قانصوه الغورى بأزمة المياه وتحويل مياه الشرب إلى الصهاريج التى تجمع بها مياه السيول والأمطار فجلبت المياه من المناطق الغربية من جدة، من وادى قوس الواقع شمال الرغامة التى تبعد عن جدة حوالى 12 كيلو متر.

يذكر عزب أن فى الإمارات العربية المتحدة وعمان استخدمت تقنية «الأفلاج» للحصول على الماء، و «الفلج» هو الماء الجارى عبر قنوات صناعية مشقوقة فى الأرض ومصممة لسد احتياجات الماء فى أماكن معينة، وبجداول زمنية محددة، ومصدره الأساسى مياه الأمطار المخزونة فى طبقات الأرض.

ويتم بناء الفلج عن طريق استغلال أعلى قمة توجد بها المياه، ثم يبدأ سريان المياه فى قناة تتجه نحو القرية أو المدينة، حتى يصل الفلج للمنطقة المزروعة ثم يليها المنطقة السكنية للشرب والاستحمام وغيرها، ولا يسمح بتحويل الفلج فى المناطق المسكونة للأغراض الخاصة، ولا يمر تحت المباني، ولكنه يمر تحت المساجد حيث تستخدم مياه الفلج للوضوء، وتعتبر ملكية الفلج ملكية عامة.

ويذكر عزب أسماء عدد من هذه الأفلاج، وطرق توزيع مياهها التى تختلف حسب الظروف الإجتماعية والاقتصادية المحيطة بكل فلج عن آخر، واعتمادها فى ذلك على حسابات بالغة الصعوبة والدقة قائمة على مواقع النجوم وحركة الشمس.

ومن أبرز الأفلاج الموجودة إلى اليوم « أفلاج العين» فى الإمارات العربية المتحدة ومنها: فلج الهيلي، وفلج المعترض، وفلج القطارة الذى ينبع من ولاية البريمى العمانية ويصل إلى العين ضمن قنوات تحت الأرض، ليظهر على سطح الأرض فى منطقة القطارة بطول ثمانية كيلو مترات."

وهكذا يتناول خالد عزب فى كتابه «الماء فى الحضارة الإسلامية» الكثير من المحاور التى تبين مكانة الماء فى الحضارة الإسلامية، متتبعا تدرج نشأة المشاريع والقوانين المنظمة لتوزيع الماء، منذ أن كان العرف هو المنظم لحقوق استثمار المياه، ثم بعدما جاء الإسلام، وإقراره بالأعراف السائدة، مع إلغاء المِلكية الفردية للمياه والحقوق المطلقة للانتفاع بها، ليصبح الماء ملكية للناس جميعا.

ثم واصل دراسته لتشمل كل مكان وصله مد الحضارة الإسلامية فى أوجها شرقا وغربا، وما تزال تجرى فيها المياه فى قنوات وأفلاج ونوافير صممها مهندسو الحضارة الإسلامية.