حديث الأسبوع

استنزاف موارد العيش.. قضية سياسية وليست تقنية صرفة

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

ربما لم يكن الرأى العام فى حاجة إلى إنجاز دراسة متخصصة للتأكيد على أن الموارد الطبيعية فى العالم تتعرض حاليا إلى استنزاف  خطير، لأن ذلك من باب القول بأن السماء فوق رؤوسنا، حيث إن عوامل كثيرة واضحة للعيان تكشف بوضوح عن هذه الحقيقة المزعجة، من قبيل انعدام التوازن ما بين النمو الديموغرافى والعرض المتاح من الموارد الطبيعية، والسلوكات الفردية والجماعية المضرة بهذه الموارد، خصوصًا ما يتعلق بالإسراف والتبذير، وأيضا ما ينتج عن التغيرات المناخية من أضرار بليغة على أهم هذه الموارد، خصوصًا تراجع كميات المياه وانخفاض المحاصيل الزراعية.

لذلك يمكن المجازفة بالقول بأن الدراسة العلمية التى أنجزها مجموعة من الخبراء المتخصصين، تحت إشراف مباشر لمنظمة الأمم المتحدة حول (حالة الموارد الطبيعية فى العالم) وهى النسخة الثانية من طبعة (PANORAMA MONDIAL) التى نشرت فى الأسبوع الأول من الشهر الجارى، بعد مرور خمس سنوات عن صدور الطبعة الأولى، لا تمثل فتحا كبيرا فى هذا الصدد. وإن كانت هذه المجازفة بالقول لا تنكر الإقرار بأن مجرد الكشف عن معطيات مهمة مرتبطة بمصير الموارد الطبيعية فى العالم بمنسوب مقبول من الجرأة والشجاعة، يمثل إضافة مهمة للنقاش العام الذى تحظى به هذه القضية.

وهكذا، من المهم أن نسجل بأن الدراسة تنبه إلى أن استهلاك الموارد الطبيعية فى العالم تضاعفت وتيرته ثلاث مرات خلال الخمسين سنة الماضية، وإذا ظلت الوتيرة على حالها، ولم تتوقف، فإن نسبة التراجع ستصل إلى 60 بالمائة من هذه الثروة فى أفق سنة 2060، وهكذا دواليك، ومع مرور الوقت قد تجف الأرض من هذه الموارد بصفة نهائية. ويكشف معدو الدراسة فى هذا الصدد أن معدل استهلاك الفرد الواحد من الموارد الطبيعية ارتفع من 8٫4 بالمائة قبل خمس سنوات من اليوم إلى 13٫2 بالمائة حاليا.

وينبهون إلى أن هذا الاستنزاف المهول فى مصادر العيش لن تقتصر آثاره على القضاء على أى أمل فى ضمان الحد من التداعيات المترتبة عن التغير المناخى، خصوصا ما يتعلق بالحد من ارتفاع درجات حرارة الأرض، ولكن أيضا سيتسبب فى انقراض العديد من أنواع الكائنات البشرية، وانهيار كامل لأنظمة البيئة الضرورية لاستمرار الحياة فى الكون.

ويعزو الخبراء أسباب ما تتعرض له الموارد البشرية إلى التطور الكبير الذى تعرفه البنية التحتية فى العديد من الدول، خصوصا ما يتعلق بالسكن والنقل والأنظمة الغذائية والطاقية المرتبطة والملازمة لتطور وتحسن مستوى العيش. ويفصلون فى القول إن الانفجار فى قطاع البناء مثلا ترتب عنه استنزاف كبير للرمال والحصى والطين وغيرها من المواد غير المعدنية. و تجزم الدراسة بالقول إن استنزاف الموارد الطبيعية فى العالم مسئول بصفة مباشرة عن نسبة 40 بالمائة من الآثار السلبية المترتبة عن الصحة العامة بسبب الإضرار بالبيئة، خصوصا الهواء، وهو أيضا من الأسباب الرئيسية لتدهور التنوع البيولوجى والإجهاد المائى.

ويضع التقرير يده على الجزء المؤلم فى هذه القضية حينما يقر بانعدام التوازن فيما يحصل، بحيث يؤكد أن الدول المتقدمة تستهلك ست مرات ما تستهلكه الدول الضعيفة والنامية من الموارد الطبيعية فى العالم، وأن سلوكها الاستهلاكى مؤثر بصفة سلبية بنسبة أضعاف عشر مرات مقارنة بما يتسبب فيه السلوك الاستهلاكى للدول النامية والضعيفة على المناخ. وهذا يعنى أن الأنشطة الصناعية والاقتصادية والعادات الاستهلاكية لشعوب الدول التى تعيش مستوى عيش يصل إلى الرفاهية، مسئولة بصفة مباشرة على الاستنزاف المتواصل فى رصيد الموارد الطبيعية، والخطير فى الأمر أن هذه الشعوب تتوافر على ما يكفى من الإمكانيات والوسائل للحد من آثار تداعيات نقص الموارد الطبيعية عليها، وإن شعوب الدول ذات الدخل المحدود أو الضعيف هى التى تتحمل النتائج السلبية لما تقترفه شعوب الدول العظمى من ممارسات فى حق الثروة الطبيعية العالمية، وذلك بتقليص حجم استفادتها منها، لأنها تفتقد إلى الإمكانيات العلمية والمالية الضرورية التى تضمن لها حقوقها المشروعة فى تقاسم هذه الثروة.

وهنا تحاشى معدو الدراسة الحديث بنفس منسوب الشجاعة عن الحلول الضرورية الواجب اتخاذها للتقليل من حجم الاستنزاف، والحد من وتيرته السريعة، حيث اكتفوا بالدعوة (إلى اعتماد نماذج جديدة بهدف خفض وتيرة التراجع وتطوير الاقتصاد والحد من الفوارق وتحسين رفاهية السكان والحد من الإضرار بالبيئة، وسن سياسات تقلص من استهلاك العديد من المنتجات الفلاحية والحيوانية وجعل المدن أكثر اندماجا وتحسين النقل الجماعى) وهى تعابير عامة تبتعد عن الحلول العلمية والسياسية والاقتصادية الحقيقية الكفيلة بالحد من تدهور أوضاع الموارد الطبيعية واستنزافها.

والأكيد، أن الحديث عن موارد العيش فى العالم يجب أن ينطلق من الاعتراف بطبيعتها السياسية أولا، كإشكالية مستعصية فى النظام العالمى السائد الذى يعانى اختلالات كثيرة ومتعددة. وتهم عدالة توزيع وتقاسم موارد العيش بين جميع سكان العالم بما يضمن كرامة الإنسان وشعوره بالاستقرار والطمأنينة. ذلك أن توزيع وتقاسم هذه الموارد يخضع لشروط ومعايير محددة بدقة فى النظام العالمى السائد، وأن الكبار هم الذين صاغوا هذه الشروط وحددوا معاييرها.