محمود الورداني.. هكذا تكلمت جُلبيري (4) اعتقال مستشار الرئيس!

محمود الوردانى
محمود الوردانى

الجزء الثانى من سيرة جُلبيرى هو الأكثر دراماتيكية، والحافل بوقائع وأحداث لم يكن ممكنا أن تخطر على بال بنت الأرستقراطية وسليلة الباشاوات، فقد راح العالم الذى تعرفه يتقوّض، وبدأت السجون والمعتقلات الناصرية تفتح أبوابها لاستقبال موجات من الشيوعيين. وإذا كانت جُلبيرى لم تختر الشيوعية طريقا لها، ولم تكن منظمة فى أى وقت من الأوقات، إلا أنها فى الوقت نفسه، كانت تعلم أن الشاب الذى أحبته فى باريس وتزوجته فى القاهرة شيوعى ويعمل بالسياسة، مثله مثل شقيقتها إنجي، وزوج شقيقتها حمدى أبو العلا المحامي.

المثير للدهشة أن رئيس ديوان رئيس الجمهورية أبلغ اسماعيل أن عبدالناصر عيّنه مستشارا اقتصاديا له، وهى ورطة كبرى بالنسبة له، فلم يكن يستطيع أن يرفض، وفى الوقت نفسه لم يكن يستطيع القبول.


وحاول إقناع رئيس الديوان بأن يكون التعيين غير رسمى بحجة ارتباطه بالتدريس فى الجامعة، لكن الأخير رفض. ومالبث أن تم القبض عليه بعد أيام فكانت مصيبة، وغضب عبد الناصر من غفلة أجهزته التى ترشح له رجلا، وبعد أيام يُقبض عليه بتهمة الشيوعية!!

لنتخيل جُلبيرى وهى تطرق كل الأبواب لزيارته أو تسقط الأخبار عنه بلغتها العربية المكسّرة واسمها الغريب وتعرضها للسخرية والتهرب منها، أو بحصار المصيلحى رئيس مكافحة الشيوعية لها وتهديده الخفى تارة والمعلن تارة أخرى.

تحفل السيرة برحلاتها من أجل أن تطمئن على إسماعيل، خصوصا بعد أن علمت أنه تعرض للتعذيب الذى وصل إلى حد إطفاء السجائر فى جسده، بسبب عدم اعترافه بشخصية الرفيق خالد الذى كان سكرتيرا لأحد أهم المنظمات السرية - الراية- وكانت أجهزة الأمن تعتقد أنه اسماعيل نفسه، بينما الحقيقة التى لم يعترف بها أبدا أنه د. فؤاد مرسي.

والأكثر إثارة للدهشة نجاح المتهمين فى غفلة من أجهزة الأمن فى إثبات التعذيب وشهادة طبيب شرعى شجاع، فاضطرت المحكمة لتبرئة جميع المتهمين. لكن هذا لم يكن إلا البداية، بل وتكررت القصة بعد ذلك عشية الوحدة مع سوريا، حيث عُيّن اسماعيل للمرة الثانية مسئولا اقتصاديا فى مجلس كان يرأسه صدقى سليمان أحد أهم الوزراء فى نظام عبد الناصر، وتم القبض عليه بعد شهور فى تجريدة يناير 1959 وأمضى خمس سنوات فى معتقل المحاريق بالواحات الخارجة، ضمن عدة مئات من المثقفين والكتاب والصحفيين وأساتذة الجامعة والقيادات النقابية.

تحفل سيرة جُلبيرى بكل ذلك، خصوصا بعد اعتقال شقيقتها، وكان على صالحة هانم أن تنزل إلى المعترك بدورها،على الرغم من كبريائها واحتقارها الشديد للنظام برمته، ومضت مع ابنتها لمحاولة زيارة لابنتها إنجى أفلاطون نزيلة سجن القناطر، أو إسماعيل نزيل سجن المحاريق.

السيرة حافلة حقا وكاشفة وتعد وثيقة تاريخية واجتماعية وعملا دراميا من طراز رفيع، والمواقف بالغة التوتر سرعان ما تنتهى إلى مسخرة كبرى، وأجهزة الأمن ترتع وتلعب والتعذيب يستمر بلا توقف، وفى الوقت نفسه كان نظام عبد الناصر يخطو خطوات جبارة فى الانحياز للفقراء وتأميم البنوك والمصانع والارتباط بحركة التحرر الوطني، بل والمشاركة فى قيادتها.

كانت معضلة تبدو صعبة الفهم لكنها حقيقية جدا، فالنظام الذى يقوم بتحقيق كل ما نادى به اليساريون، هو نفسه الذى يعتقلهم جميعا ويعذبهم، وهو الذى قام أيضا بإقامة مجتمع بوليسى وقمع كل الآراء المخالفة ونكّل بحامليها. 
استكمل فى الأسبوع المقبل إذا امتد الأجل..