امواج

حياء الأرضى وبجاحة المحمول

عبد الحميد عيسي
عبد الحميد عيسي

فى الماضى كانت للأحاديث التليفونية الأسرية وغير الأسرية قدسيتها رغم أنه لم يكن هناك سوى التليفون الأرضى الثابت- قبل أن يظهر المتحرك- ورغم ثبات التليفون إلا أن السنترال أنشأ «كبائن» داخله حتى تستطيع أن تتحدث بحرية دون أن تحتك كلمة واحدة بـ « حلمة» أذن المتواجدين داخل السنترال للمحافظة على سرية تلك الأحاديث، إلى جانب نسبة الحياء التى كان يتمتع بها المتحدثون، ويا حبذا لو كنت ضمن المحظوظين الذين دخلت الخطوط الأرضية إلى أماكن تواجدهم، ومنحك فنى التركيبات الفرصة لأن تتحدث من أى بقعة داخل المنزل حتى ولو كان الحمام أو المطبخ من خلال هدية تتمثل فى عدة أمتار من السلك تمنحك الفرصة بأن تحمل « عدة» التليفون وتسير بها لأبعد مكان فى الشقة .عكس ما يحدث اليوم من تلك الأحاديث اللاسلكية التى لم تسلم منها حتى دور العبادة، ناهيك عما يحدث فى الشارع والمواصلات العامة حيث تخترق أذان أناس لا ناقة لهم ولا جمل - سوى أنهم اخترقوا المجال الجوى للمكالمة_فى لحظات يفقد فيها المتحدث الشعور بالعالم الخارجى، يتكلم فقط لكنه لا يرى ولا يسمع سوى الطرف الآخر، ويظل من وقع فى المجال يضرب كفاً بكف، لما يراه ويسمعه من عبارات شديدة اللهجة مدعمة بيديه وهى تعلو وتهبط متوعداً زوجته والأولاد بالويل والثبور وعظائم الأمور حين عودته إلى المنزل الذى يبعد عنه مئات الكيلو مترات...أما الأخرى فلم يكن اهتمامها الأول بما تبيعه من الخضار بعد أن « حشرت» التليفون ما بين الطرحة والأذن وتركت يديها حرة تستخدمها تارة فى تدعيم المكالمة بالإشارات المطلوبة وتارة أخرى تستخدمها لتستكمل ما بدأته من تجهيز «المحشى» بجميع أنواعه لتلبية بعض الطلبات التى لا تنتهى إلا بنهاية المكالمة ،ولكن الأغرب هو ذلك الشخص الذى يأتى بإشارات تشعر منها بأنه ينادى عليك وحينما تقترب منه تجد أنه يحدث أحداً عن طريق سماعة الأذن وحركات عينيه تسبق يديه فتنصرف متمنياً له الهداية..والمصيبة حينما هرولنا جميعاً لننظر من أعلى إلى الشارع الهادئ فى حين امتلأت كل شرفات الشارع لتطالع ما يحدث ، بعد أن اخترق إلى الأسماع صوت نقاش حاد ومزعج، ظننا من أول وهلة أنه شجار بين عدد من الناس لنفاجأ بأنه شخص واحد يتحدث فى المحمول خذاً الشارع ذهاباً وإياباً وهو يلوم - كما يبدو- أحد المحامين الموكلين له فى إحدى القضايا وكيف أنه وعده بأنها سهلة والمكسب فيها نسبته أعلى من الخسارة..إلا أنه فى نهاية النقاش أخذ يتمتم بعبارات غير مفهومة جعلته لم يستطع الضغط على زرار «إنهاء المكالمة» فلم يكن أمامه لإنهاء المكالمة إلا طرح الموبايل أرضاً حتى تناثرت أجزاؤه- وسط دهشة المشاهدين الذين امتلأت بهم الشرفات-..ليخسر القضية والموبايل.