الناقد الكبير د. سعيد توفيق يكتب عن «أفندينا»| الرواية التاريخية عند الغمري

د. سعيد توفيق
د. سعيد توفيق

المفكر الكبير والناقد البارز د. سعيد توفيق الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة، وأستاذ الفلسفة وعلم الجمال بآداب القاهرة خص جريدة «الأخبار» -اعتزازاً بها- بهذه القراءة النقدية المُتعمِقة فى إحدى الروايات اللافتة التى أثارت اهتمام الأوساط النقدية والأدبية.

لاحظت فى السنوات الأخيرة مزيدًا من الاهتمام بالرواية التاريخية، فقد وجدت ذلك فى كثير من الإبداعات الروائية خلال العقد الفائت. ولقد صادفت ذلك مؤخرًا فى الرواية البديعة لمحسن الغمري التى صدرت بعنوان «أفندينا». والواقع أن مفهوم الرواية التاريخية مفهوم مُلتبِس لدى البعض، حتى إنهم يقللون من شأنه. ولكننا ينبغى ألا ننسى أن «نجيب محفوظ» نفسه فى باكورة إنتاجه الروائى قد كتب الرواية التاريخية في روايتيه: «رادوبيس» و»كفاح طيبة». حقًّا إن محاولات «محفوظ» الأولى كانت من قبيل الرواية التاريخية المباشرة، ولكن رواية التاريخ ظلت بعد ذلك مهيمنة على إبداعه بشكل غير مباشر. فالرواية التاريخية دائمًا ينبغى أن تكون غير مباشرة، فهى توظف وقائع التاريخ لتقول لنا شيئًا له دلالة إنسانية عامة أبعد من الوقائع الجزئية التى تتحدث عنها. وهذا يصدقُ أيضًا على الفنون الأخرى؛ إذ نجد مفهوم «فن التصوير التاريخي» معبرًا عن أعمال كثيرٍ من عظماء فن التصوير، على نحو ما نجد ذلك فى فن التصوير المسيحى الذى كان أعظم أساتذته «رافائيل» و«كوريجيو»، حيث يصور هؤلاء الأساتذة رموز ووقائع تاريخ المسيحية؛ لكى يعبروا عن روح المسيحية نفسها التى تتجلى فى سكينة النفس والاستهانة بالعالم الدنيوى والتطلع إلى عالم أخروي.

فى ضوء هذا يمكن أن نقترب من رواية «محسن الغمرى»: فهو قد استعان فى بناء روايته بكثرةٍ هائلة من الوقائع التاريخية التى استخلصها من كثرة من المراجع الرصينة الموثوقة التى ذكرها فى نهاية روايته. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر أنه يوثق فى روايته خطاب «محمد على» إلى زوجته فى مدينة «قَوَلة» حينما صدر قرار السلطان العثمانى بتوليه الحكم على مصر، وخطاب الأمير «طوسون» إلى والده  «محمد على» يبشره بفتح مكة. وبصرف النظر عن جمال الخط العربى الذى لا بد من أن يلفت أنظارنا، فإن الخطاب يشى بالكثير من قبيل: أسلوب تعامل الزوج مع زوجته، وتخطيطه لإدارة شئون البلاد فى المستقبل، وغير ذلك كثير. وعلى النحو نفسه ينبغى أن ننظر إلى سائر الوقائع التاريخية فى الرواية. فهناك دائمًا تجاوز للأحداث والوقائع الجزئية إلى الإيحاء بدلالاتها العامة.

أما بناء الرواية فهو ما يستحق أن نتوقف عنده؛ لأنه يتعلق ببنية العمل الروائى كعملٍ فنيٍ. فالأحداث والوقائع التاريخية تتصاعد عبر العمل لتبلغ ذروتها فى نوعٍ من البناء «الدرامي». ويمكننا أن نلاحظ هذا البناء «الدرامى» ابتداءً من الصفحات الأولى للرواية. إذ نجد أن الرواية تبدأ من اللحظة الراهنة التى نعيش فيها، حيث يلتقى الراوي/المؤلف بصديقه القديم ويفتش معه فى صناديقه المُهملة، ليكتشف أنها تنطوى على كنوزٍ من أسرار التاريخ التى لا يعرفها المؤرخون ولا يتوقفون عندها إن عرفوها. ولكن الراوى ينتقل بك من اللحظة الراهنة إلى تأمل الماضي، ليعود بك بعد ذلك فى النهاية إلى اللحظة الراهنة، وكأنه حينما عثر على الوثائق النادرة قد أغمض عينيه وراح يتخيل هذا الماضى باعتباره صورة حية، قبل أن يصحو فى النهاية من تخيلاته التى راح يجسدها فى روايته.

ونحن فى كل ما يرويه محسن الغمرى نتأمل حقيقة ما كان يجرى فى عصر «محمد على» نحوٍ يتجاوز إلى حد بعيد ما يرويه المؤرخون من أحداثٍ ووقائع : فنحن هنا نجد روح التاريخ، أعنى تصوير الواقع الاجتماعى والسياسى من خلال أحداثٍ وشخصياتٍ مصوَّرة بشكل عياني، ومن قبيل ذلك تصوير المؤلف لشخصية «طوسون» ابن محمد علي، ومشاعر اخته «نازلى» إزائه، ومدى تأثير ذلك فى السياسة العامة للدولة؛ وتلك أمور لا يعنى بها المؤرخون، وإن كانت أهم مما يعنون به. وفى هذا الصدد يمكننا أن نتذكر قول «أرسطو» بأن الشعر أوفر حظًا من التاريخ؛ لأن التاريخ يتحدث عن الجزئي، أما الشعر فيتحدث عن الكلى (أى عما هو عام فى الطبيعة الإنسانية). وعلى النحو ذاته، فإننا يمكننا القول إن الرواية التاريخية أوفر حظًا من التاريخ؛ لأن الرواية التاريخية تنتمى إلى الفن، والفن يعبر دائمًا عن دلالة إنسانية عامة.
فما هى الدلالة العامة التى تعبر عنها مجمل أحداث الرواية؟
هذه الرواية تحكى أحداثاً ووقائع تاريخ مصر السياسى والاجتماعى فى مرحلة نهضتها على يد «محمد على» وأولاده، ونحن نلمس فيها بطريقة ضمنية  اعتزازاً بتاريخ مصر العظيم فى تلك الحقبة من تاريخها الحديث. والرواية تحكى ذلك التاريخ من خلال أسلوب السرد الروائي: فالحكى هنا يقوم بتوظيف وثائق التاريخ التى لا حصر لها كمادة للحكي، حتى إننا نجد الأحداث قد بدت مُشخصَّة بكل تفاصيلها، ونجد الشخصيات قد أصبحت شخصياتٍ حية من لحم ودم. هذا ما يفعله المبدعون فى مجال الرواية التاريخية حينما يقدمون لنا التاريخ بصورةٍ أعمق وأكثر حميمية مما يقدمه لنا المؤرخون، وهو ما فعله أيضًا «محسن الغمرى» فى روايته «أفندينا».