محمود الورداني.. هكذا تكلمت جُلبيري « 2 » شهادة آثرت ألا تتورط!

محمود الوردانى
محمود الوردانى

تُضاف سيرة جُلبيري التي بدأتُ في إعادة قراءتها منذ العدد الماضي، إلى سير وشهادات ووثائق أخرى عديدة، تؤكد جميعها أن كثيرا وكثيرا جدا من بنات وأبناء الأرستقراطية المصرية والشرائح العليا من الطبقة الرأسمالية، اختاروا الانحياز إلى الأفكار الاشتراكية والشيوعية، بل وأسسوا أو انضموا لتنظيمات سياسية سرية تدافع عن الطبقات المستغلة- بفتح الغين- ويتعرضون للسجن والاضطهاد والتشريد والمطاردة، وكانوا على الأغلب أبطالا ونبلاء في تحملهم كل ذلك.

القائمة طويلة من هؤلاء النساء والرجال، ويمكن الإشارة فقط إلى أسماء شهيرة مثل هنري كورييل ومحمد سيد أحمد وأمينة رشيد ونبيل الهلالي وإنجي أفلاطون.. وغيرهم وغيرهم، وأعتقد أن الحركة اليسارية في مصر تتميز عن غيرها من الحركات بهذا الملمح.

اقرأ أيضاً| محمود الوردانى ..هكذا تكلمتْ جُلبيرى (1)

وسيرة جُلبيري حافلة بالشخصيات التي تعرّفتْ عليها، سواء من رفاق شقيقتها إنجي أو رفاق زوجها د. اسماعيل صبري عبد الله، ممن عرفتهم وعقدت صداقات وثيقة مع الكثير منهم. 

وفي هذا السياق تتميز سيرتها بأنها لم تكن متورطة أو منضمة لأي من التنظيمات الشيوعية، التي انتشرت منذ النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، وتكتسب شهادتها قدرا لابأس به من الحيادية، لأن خيارها الشخصي هو عدم الانضمام لتلك المنظمات، وظلّت متعاطفة فقط، على الرغم من أن شقيقتها كانت واحدة من الشخصيات التي لعبت أدوارا قيادية في منظمة حدتو، كما أن زوجها كان أحد مؤسسي تنظيم» الراية» الشهير.

على أي حال، فإن البانوراما الحافلة لحياة امتدت منذ عام 1923 – تاريخ ميلادها- وحتى رحيلها في يناير عام 2011 وقبل الثورة بأيام قلائل وقبل أن ترى كتابها مترجما للعربية، تلك البانوراما نادرة بالفعل، حتى لو قارناها بشهادة شقيقتها إنجي المنشورة بالفعل، فهي شهادة من الخارج من موقع المتعاطف والمحب وليس المتورط في الصراعات والمعارك.

وبسبب النشأة والأسرة والعائلة لم تكن جُلبيري تعرف الكتابة بالعربية، وحتى حديثها كانت تشوبه لكنة، فالأهل يتكلمون بالفرنسية، والإنجليزية هي اللغة الثانية، بينما كانت العربية قليلة الاستخدام، ومجموعتها الشعرية التي صدرت عن واحدة من كبريات دور النشر المتخصصة في نشر الشعر كانت بالفرنسية، وبالطبع كتابها الضخم والحافل» ثلاثية جُلبيري» صدر أيضا بالفرنسية.

وربما كان الملمح الثاني الذي يميز شهادتها، هو ذلك المزيج من الحياة الشخصية لواحدة من بنات الأرستقراطية، وبين تاريخ وطن خلال سنوات من الجمر والعواصف والأنواء.. هي شهادة من الداخل والخارج معا.

هي قصة حب وعشق عارمة منذ لقائها باسماعيل صبري عبد الله في باريس حيث كان يدرس، وفي الوقت نفسه هي قصة ذلك الجزء من الإنتلجنسيا المصرية اليسارية، وعيون ذكية لاقطة لتغيرات عنيفة ومتوالية عشية وفي أعقاب ماجرى منذ عام 1952 ، هي رحلة طويلة وشاقة بين السجون ومعسكرات الاعتقال في طول مصر وعرضها، رحلة تقوم بها وحدها امرأة لاتجيد الحديث بالعربية ،وتتعرض لما لايمكن تصوره من السخرية والإيذاء النفسي.

وهي أيضا رحلة بجوار زوجها الذي كان واحدا من أكثر من تحملوا التعذيب في السجون ببسالة، وأشرف على الموت عدة مرات أثناء تعذيبه، كما كان في الوقت نفسه مسئولا عن قطاعات اقتصادية مهمة أثناء الفترة الناصرية، ثم وزيرا للتخطيط أثناء حكم السادات، قبل إلقاء القبض عليه في حملة سبتمبر 1981 قبيل اغتيال السادات.
هي حياة حافلة حقا..
في الأسبوع القادم- إذا امتد الأجل- أواصل القراءة..