..حتى الكلمات التى نطلقها باللسان أو يكتبها المداد على الورق فى المراثى، تحس أنها منكسة الرؤوس، ذليلة، تلملم أطراف أحرفها وتمسح بالدموع..؛
وحتى الترنيمة التى ينشدها جماعة من الأتقياء، تشعر وبعد أن امتلأت قلوبهم بالحزن والألم والعزاء، صارت خطواتهم تتلاطم تتعثر فى الأجساد الميتة على الأرض، تغرق فى أنهار الدماء الذى امتلأ به الشرق الأوسط، فلا نكاد نودع شهداء مجزرة فى فلسطين حتى تصدمنا مجزرة أشد، جنازات اصبحنا نمضى الوقت فى رؤيتها وهي توارى الثرى وجثث في أكفانها تراصت بجوار بعضها على الأرض تنتظر دفنها، الكل هناك يهرب من الموت إلى الموت.
أى طوفان هذا الذى ظنوه نصرًا يتسبب فى مقتل 12 ألف طفل، أي طوفان هذا ونحن نرى آباءً وأمهات وهم يدفنون أطفالهم بأيديهم وتمنوا لو دفنوا معهم، ألا يستحقون الحياة؟، أي طوفان هذا بعدما تجاوزت حصيلة الشهداء 30 ألف شهيد وأكثر من 100 ألف جريح، وعشرات الآلاف لا يزالون بين النار والأنقاض يتم انتشالهم بصعوبة شديدة.
رعب وجحيم لا تفسير ولا مبرر له؛ فهل ننتظر من المحتل الغاصب الرحمة بهم وهم قتلة الأنبياء؟!
من منا يستطيع الفرار من حكاية هند، تنزل دموعى بلا توقف حين اتخيل المسكينة ذات السنوات الست وهى تمسك بيدها لعبة متواضعة تأخذها فى أحضانها هى بالنسبة لها الدنيا وما فيها تحدثها فى براءة، حين انهمر رصاص الصهيونى فلم يخطئ الهدف على السيارة التى تقلها هند وقريبتها الصغيرة ويقودها اقرباؤها، انهمر الرصاص كالمطر على السيارة، توقفت السيارة في منتصف الشارع ظنًا من ركابها أن وقوفها سيقيهم الرصاص الذى يتدفق كالسيل، لكنهم كانوا المقصد والهدف، لقى كل من فى السيارة مصرعه، فجأة وجدت هند نفسها وقريبتها الصغيرة باقيتين بين الجثث فى السيارة، سقطت لعبة هند الفقيرة المتواضعة أشد التواضع من يدها بعدما تلونت بدماء من فى السيارة، تبكى هند بحرقة ومعها تبكى الصبية الأخرى، يصرخان، يضيع صدى الصراخ مع أصوات القنابل المنهمرة وطلقات الرصاص التي لا تتوقف، من يريد محو اسمهما وشطبهما من الحياة لا يزال بالقرب منهما يتلذذ بصراخهما قبل أن يقتلهما بدم بارد أيضًا، هاتف يرن داخل السيارة، تلتقطه هند من جيب من يحمله تفتحه تصرخ فى المتصل تتوسل إليه أن ينقذهما، يطلب منهما المتصل الهدوء، الهلال الأحمر يوفد على وجه السرعة اثنين من رجاله لإنقاذ الصغيرتين، لكن الصهيونى الإرهابى لم يترك الفرصة لنجاتهما، سرعان ما قام بقنصهما قبل أن يصلا إلى سيارة الصغيرتين، ماتت قريبة هند ظلت المسكينة تنزف حتى صعدت روحها البريئة إلى بارئها، وبقيت هند لا تملك إلا الدموع، عاشت أيامًا بين الجثث لا أحد يستطيع أن يصل إليها وينتشلها من قبرها هذا، صاحب النكبات تأكد أن الموت صار قريبًا منها فانصرف، نعم انصرف بعدما سقطت هند جثة بعد 12 يومًا فوق جثث من فى السيارة.
هكذا كانت نهاية المأساة تحدث بها إيهاب حمادة خال الطفلة هند؛ «لا نعرف كيف استشهدت لأن كافة الجثث محللة ونعمل الآن على دفن رفاتهم على جانبى الطريق فى منطقة تل الهوى لصعوبة الوصول إلى المقابر فى ظل القصف الإسرائيلى العنيف».
هل قتلوها لأنها»إرهابية»!، شاركت فى طوفان الأقصى!، ماتت من كان لها الحق فى الحياة، فى أن تمسك بلعبتها الفقيرة المتواضعة، نعم ببساطة ماتت مع قريبتها الصغيرة وأسرتيهما، ماتت من كان لها الحق فى أن تحلم بغد جميل فى مكان تلعب فيه بأمان، تذهب إلى مدرستها، تنام فى وداعة على قدم أمها؛ وكما صاغها أحد الكتاب الكبار: «لم اقرأ لعمالقة الرواية مشهدًا أكثر قسوة وإيلامًا من هذا»، فهل تهز قصتها العالم؟!، بأي ذنب قتلوكى يا صغيرتى؟!
لا أدرى لماذا ذكرتنى حكاية هند هذه بجريمة تجار الدين والدم، جماعة «الإخوان الإرهابية»؟؛ حين خطط السندى لاغتيال السيد فايز وشقيقه الصغير بعلبة حلاوة المولد، ربما لأن فكر هذه الجماعة ومن على شاكلتها من المتسلفة لا يختلفون فكريًا وعقائديًا عن فكر اليهود، فالأثنان يشتركان فى شىء واحد؛ هو سفك الدماء والإرهاب والخسة والنذالة.
فلا رهان على فكر هذه الجماعة، الذي هو بمثابة وضع السم فى الشراب، وعلى طريقة صانع السم لا يذوقه، فقد تعمدوا أن يتركوه للآخرين ليتجرعوه؛فمثلما انطلقت الصهيونية من دعوة توراتية كاذبة كانت السبب فى تعبئة وحشد اليهود فى الشتات وربطه زعمًا «بأرض الميعاد» والعودة إلى فلسطين لقيام الدولة الصهيونية؛ نشأت جماعة الإخوان الإرهابية، وغيرها من جماعات الإسلام السياسى فى مصر بشعار رفعه أمير شجرة الإرهاب فى العالم الساعاتى اليهودى حسن البنا حين قال: «الإسلام دين ودولة، ومصحف وسيف»، لا فرق بين الصهاينة وبينهم؛ الأثنان ينتظران لحظة سانحة ليغرسان أنيابهما فى قلوب غضة بريئة.
بلا شك الفلسطينيون الآن يحبسون أنفاسهم كلهم أمل فى مسعى القاهرة ليل نهار، يسابق الزمن للتوصل إلى هدنة بغزة قبل أن تتحول رفح إلى نهر من الجثث.