يوميات الأخبار

أبرياء الحرب.. وأثرياء الحرْف!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

أصدقاء شخّصوا الحالة على أنها "عين وصابتنى"! لا أرى سببا مُقنعا يجعلنى مصدر جذْبٍ لعيون الحاسدين، لكنّ البعض ألْقوا بالتهمة على منشورات "فيس بوك"، خاصة أيام معرض الكتاب، التى تزدهر فيها أخبار الندوات والإصدارات.

ضحكات مسروقة!

الخميس:

«حدّ من الشباب وصل؟». سألتُ صديقى وسرعان ما تداركتُ الأمر، بعد أن شعرتُ بعبثية استفسارى. استبعدتُ كلمة الشباب واستبدلتُها بـ «الرجّالة».. إنها كلمة أكثر رفقا من «العواجيز»، كما أنها لم تفقد صلاحية استخدامها فى التعبير عن مرحلتنا العُمرية. سوف يتضح بعد قليل أن التمهيد السابق ليس ثرثرة، بل جزءا لا يتجزأ من مضمون المحتوى التالى، خاصة بعد أن يكتمل عددنا، ويبدأ كل منّا فى استحضار ذكريات مُشتركة، يتجاوز عمرها الثلاثة عقود.

فى مدخل قاعة العزاء بمسجد الحامدية الشاذلية، جلسنا مُتجاورين نستقبل المُعزّين. كنّا خمسة وسادسنا صديق تُوفيت أمّه قبل يومين. اثنان يتكئان على عُصيّ تساعدهما فى الحفاظ على توازن مُهدّد بالاختلال دون سابق إنذار، وثالث أجرى عملية قلب مفتوح قبل فترة، والعامل المُشترك بيننا مزيجٌ من أمراض تنهش الجسد من الداخل ببطء.. وتتمدّد باتجاه الروح تدريجيا. نظراتى تتفحّص أحوالنا، بعد أن سلبنا الزمن أعز ما نملك.. البهجة! تحايلنا على ما جرى لنا بابتسامات ترتبط كلها بذكريات الصبا والشباب، وقت أن كان بيننا «الدون جوان» والمطرب والشاعر، والعاشق المقتنع بأن «الحب من غير أمل أسمى معانى الغرام»! تغيب الابتسامات عندما نتطرق إلى الحاضر، بما يشهده من مشكلات حاضرة وأحلام غيّبتها السنون.

هذا العام نحتفل بالذكرى الخامسة والثلاثين لتخرّجنا من الجامعة، مما يعنى أن رحلتنا معا تقترب من الأربعين عاما، باستثناء صديق جمعتْنى به الأيام من المرحلة الإعدادية. خلال هذه العقود تداخلت علاقاتنا لتمتد فى نسيج العائلات، قبل أن تُفرقنا السنوات حتى تجمّدت مقابلاتنا. اللقاءات مقصورة غالبا على واجبات عزاء يتجاوز عددها بكثيرٍ دعوات الأفراح. ربما يكون هذا هو السبب فى أننا نتبادل الضحكات المسروقة خلال «المآتم»، غير أنه يبقى ضحك كالبكاء.. على أعمار تسرّبت منا ونحن نعتقد بداخلنا أننا لا نزال شبابا!

بيوت من طين

السبت:

تجتذبنى صورة بيت ريفيّ مبنيّ بالطوب اللّبن. نشرها أحدهم مع سؤال مُوجّه للفتيات تحديدا: «تِقْبلى تعيشى فى بيت زى ده؟». تسحبنى الذكريات بعيدا عن الردود. فى زمان سحيق كانت غالبية مبانى قريتنا تحمل الطابع نفسه، بيوتٌ قليلة خرجت عن السياق واكتست بطابع أكثر حداثة، دون أن تتنازل نهائيا عن طبيعة الريف. بيت جدّى لأمى مثلا يتمسّح فى السمات العصرية: أثاثه «أفرنجى» وحوائطه من الطوب الأحمر، ورغم ذلك لم يستطع التخلص من حظيرة المواشى ضمن تصميمه الأصلى. سكَنَ فيه البشر والحيوانات والطيور تحت سقْف واحد، مع الاحتفاظ بجدران فصل عُنصرى تمنع التداخل، إلا فى «وسط الدار» وبأوقات مُحدّدة.

فى المقابل، ظلّ بيت جدّى لأبى محتفظا بتكوينه الريفى القديم والطوب الرمادى اللّبِن. صمد وسط منازل أخرى بالقرية تُحاول أن تبدو عصرية بأحجارها الحمراء، لكنّها وقفت فى منتصف الطريق بين زمنين، فبدتْ دون طلاء كمسْخ، بعد أن غطى الغبار مفرداتها وغيّر ملامحها. بابه الخشبى الضخم يُصدر صريرا كفيلا ببث شعور الرهبة فى نفوس الأطفال، يوصد من الداخل بمزلاج خشبى ضخم، أصبح مندثرا مثل العصر الذى ينتمى له. يقودنا الباب إلى ممرٍ مكشوف لم يتعرّف يوما على أية وحدات إضاءة، مما منحه فى الليل قُدرة على إثارة الفزع فى قلوبنا، كأطفال اعتادوا سماع قصص العفاريت، التى تتجوّل فى بعض أماكن القرية على حريتها!

أبتسم وأنا أستحضر بعضا من قلقى القديم. أتذكّر خطواتٍ أقطعها جرْيا فى ممر يقودنى إلى باب آخر. مسافة لا تستغرق إلا ثوانى معدودة، غير أنها كافية لاستحضار مخزون الخوف. على يمين الباب الثانى تقع «مندرة» تُعتبر الأكثر تحضرا وسط قاعات البيت. وهى غرفة تميّزت ببلاطها الشاحب، تبدو فخمة بطلائها الجيرى، تتباهى على غرف أخرى تنوعت أسماؤها بين «قاعة» و»مقعد». لم تكن تمتلك الحظ نفسه فخلتْ من البلاطات الفقيرة، واحتفظت بأرضية ترابية مع حوائط «مدعوكة» بالطين، كانت سمات أساسية لبيوت الفلاحين البسيطة.

كالعادة تعرّض المنزل للهدْم قبل سنوات، لكنه لا يزال يحمل فى الذاكرة مذاق الأساطير. يبدو الأقرب إلى الصورة التى نشرها الشاب على «فيس بوك»، واستخدمها كوسيلة مُبتكرة لاقتناص ما تيسّر من بنات حواء، اختصّهن بسؤاله وأجمعتْ إجاباتهن على الترحيب بالإقامة فى منزل كهذا. لا أتعجّب لأنّ الصور عادة خادعة. أعرف أن أيا منهن لن تصمد ليلة كاملة فى مثل هذه البيوت. أنا شخصيا لن أشعر بالراحة فى المنازل القديمة، رغم طاقة حنين تجذبنى لها.. على مستوى الذكريات فقط!

حسدٌ فى غير موْضعه!

الإثنين:

للشوارع طعم آخر كل إثنين. يبدأ اليوم مُبكّرا مقارنة بأيام الأسبوع الأخرى، باستثناء الثلاثاء الذى يُشبهه فى إيقاعه. تنطلق السيارة من مدينة نصر، وتمضى فى مسار حفظتْه إلى مقرّ «الأخبار» فى وسط المدينة. لا أشعر بما حولى إلا مع كلّ «كلاكس» عصبيٍ يطلقه زميلى محمد صلاح، كى يُنبّه السائرين نياما إلى أن العجلة لا تعنى الندامة بالضرورة!

هموم عديدة حاصرتْنى فى الأيام الأخيرة، وضعتنى أكثر من مرة على حافة إحباط مُتوقّع. وفْق الثقافة الشعبية يُمكن اختزال ما يحدث بكلمة «عكوسات»! أصدقاء شخّصوا الحالة على أنها «عين وصابتنى»! لا أرى سببا مُقنعا يجعلنى مصدر جذْبٍ لعيون الحاسدين، لكنّ البعض ألقوا بالتهمة على منشورات «فيس بوك»، خاصة أيام معرض الكتاب، التى تزدهر فيها أخبار الندوات والإصدارات. أبتسم مُضطرا، وأردّ بأن الكثيرين لا يعرفون أن الندوات بضاعة مجانية، وأنّ عائد الكتُب إن وُجد لا يسمن ولا يغنى من جوع. إنه مجرّد «صيت» كاذب لا يصحبه غنى! يكتب غالبيتنا نتيجة الوقوع فى غواية الكلمات، ويصرف معظمنا عليها بينما تُدرّ على القليلين دخلا وفيرا، يُعطى انطباعا زائفا بأن الكُتّاب من «أثرياء الحرْف»! انتصارى الشخصى تحقّق عبْر اتفاق نادر مع ناشر كُتبى الثلاثة الأخيرة، بأن أحصل على المقابل مقدما مع تسليمه الكتاب، دون أن أنتظر مبيعات قدْ لا تتحقّق. والمُقابل بالمناسبة لا يُقارن بمُستلزمات الإنتاج من شراء المراجع أو المجهود المُضنى، لكن صاحب دار النشر يُخاطر هو الآخر بدفع ثمن سلعة تبور فى أوقات كثيرة. غير أننى على الأقل أتقاضى عائدا بينما يدفع آخرون ثمن نشر عصارة أفكارهم، والنتيجة أن العصارة فى أحيان كثيرة تكون «حامضة»!

شهر عسل فى الجنة

أفيق على صوت أبواق سيارات تتبارى فى عُلوّها، احتجاجا على انتظار طال. لا أحد يعرف سبب الوقوف، غير أن قائدى المركبات ينفثون ما فى صدورهم لا أكثر. أعود إلى شرودى الأثير، كلّما اتسعت دائرة الاكتئاب المُحتمل، استعنتُ على مواجهته بتأمل مصائب البشر ولو خارج الحدود. هناك، على مقربة منا أشقّاء يعانون من البرد والجوع، مع باقة رعبٍ إضافية من قصف يتنوّع بين العشوائى والمُمنهج. رغم أوجاعهم يظل للصبر مساحة فى قلوبهم، ويحاولون اقتناص البهجة وسط أطلال وطنٍ يستغيث.

فى رفح، حاول عبد الله ومريم أن يرسما ملامح مغايرة لمستقبل غامض. أصرّا على الزواج رغم كل شيء. فى الأفراح اعتاد البعض إطلاق الأعيرة النارية كأسلوب لإشهار السعادة. لكن عكْس المعتاد، سيطر دوىّ القنابل على حفل الزفاف الفريد. أعتقد أن مشاعر «المعازيم» كانت حائرة بين فرحٍ مُفترض وفزع واقعى. فى النهاية مرّت المناسبة بسلام، وبدأ عبد الله ومريم شهر العسل بين الركام. ربما يكون كلاهما قد شعر بأن الحياة تفتح له ذراعيها باتساع الأفُق، دون أن يتوقعا أن الموت ينتظرهما بلهفة على بعد خطوات.

وصلتُ إلى مقرّ الجريدة، ودخلتُ مكتبى فى انتظار فنجان قهوة يمنحنى طاقة فى بداية يوم حافل بالعمل. مع أول رشفة جاءنى الخبر الحزين. بعد ثلاثة أيام فقط من الزفاف، شنّ الغدْر غارة على استراحة عائلية جمعتهما بآخرين. استشهد الجميع وانضموا إلى آلاف الأبرياء الذين استهدفتْهم الحرب الهمجية. صعدت الأرواح إلى السماء ليكمل العروسان شهر عسلهما.. فى الجنة!

مركبة فضاء تائهة!

الثلاثاء:

منذ طفولتى ارتبطتُ بالماضى والمُستقبل، وبينهما عانى الحاضر كثيرا من اضطهادى! عشقتُ التاريخ وحكاياته، وتطلعتُ إلى الفضاء باعتباره ملاذ القرون القادمة، لهذا تابعتُ أخبار اكتشافاته بشغف، وخصصتُ له جانبا من كتاباتى. اليوم فقط أحزننى خبرٌ يجمع بين زمنين متناقضين، مركبة الفضاء «فوياجر 1» مُهدّدة بأن تُصبح ماضيا. انقطع التواصل معها وزادت احتمالات نهاية علاقتها بالبشر. انطلقت فى منتصف سبعينيات القرن الماضى، كى تبحث عن أى جيران لنا فى الكوْن الفسيح، وعلى متْنها صورٌ لأهم معالم الأرض وكل وسائط التواصل المُمكنة لإبلاغ الآخرين بوجودنا. ضمّتْ صورا للأهرامات والنيل وكتابات بالهيروغليفية، مع رسائل بكل لغات العالم وتسجيلات للأغنيات وأصوات البشر والحيوانات. على بُعد 24 مليار كيلومتر من الأرض، أصيبت المركبة بسكتة قلبية، جعلت البشرية تفقدها فى الفضاء البين نجمى. ربّما تنتهى حياتها، أو تستمر فى رحلتها دون أن نعرف مصيرها. وقد يلتقطها فضائيون ذات زمان، ويدركون أن هناك كائنات حية فى رُكن قصى من المجرّة، ويبدأون بحثهم عنا.

عند وصولهم سيجدون غالبا كوكبا منقرضا، قضتْ عليه حماقات سكّانه.. ووحشية كيانات تنتعش بسفك الدماء!