حديث الأسبوع

هل بدأ الحديث عن نهاية البشرية؟

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

إلى وقت قريب كانت القضية الديموغرافية فى العالم تمثل إشكالية حقيقية بالنسبة للحكومات والمنظمات الدولية والجهوية والإقليمية، بالنظر إلى التداعيات المؤثرة لمعدلات النمو الديموغرافى على الحياة البشرية. وسال كثير من الحبر فى دراسات ومقالات، وسنت سياسات كثيرة ومتعددة بهدف محاصرة زيادة البشر فى العالم دون ضمان موارد عيش كافية للمواليد الجدد. واجتهدت دول كثيرة فى محاصرة ولادة الأطفال، بتسهيل الحصول على وسائل منع الحمل أو حتى بتحديد النسل فى طفل واحد لكل أسرة. والواضح أن المبالغة فى تضخيم هذه القضية ووجود عوامل أخرى مرتبطة بتطور نمط الحياة عكست الآية حاليا، وأصبح الانشغال أكثر اليوم بتدنى أعداد الولادات فى العالم.


فى هذا الصدد، كشفت دراسة حديثة نشرها المعهد الوطنى الديموغرافى الفرنسى قبل أيام قليلة من اليوم، عن حقائق صادمة فى هذا الشأن، بدأها بالإشارة إلى أن مؤشر معدل الخصوبة فى العالم اتجه إلى الانخفاض بالخصوص منذ سنة 2000. وأن 63 بالمائة من ساكنة العالم تعيش فى مناطق ينخفض فيها معدل الخصوبة عن المستوى المطلوب فى تجديد الأجيال، وهو 2٫1 طفل لكل امرأة. وأن المناطق التى يرتفع فيها معدل الخصوبة إلى 3٫5 طفل لكل امرأة لا تمثل إلا 16 بالمائة من ساكنة العالم.
طبعا، الدراسة تستفيض فى أسباب هذا التراجع فى أعداد المواليد فى العالم، بسبب انخفاض معدلات الخصوبة، من قبيل ارتفاع سن الزواج والإقبال المتزايد للفتيات على الدراسة وانخفاض معدلات الوفيات لدى الأطفال بسبب التطورات الطبية الهائلة، وارتفاع معدل الحياة، وولوج النساء لسوق الشغل وأيضا الإقبال الكبير على استخدام وسائل منع الحمل، وقد يضاف إلى كل ذلك عوامل أخرى، من قبيل تغير نمط العيش بسبب الهجرة وارتفاع تكاليف العيش.
المهم فى هذا أن مقاربة العالم لقضية النمو الديموغرافى التى كانت تمثل أزمة حقيقية فى عالم الأمس القريب، وقيل آنذاك إن موارد العيش المتاحة لن تكفى لتلبية حاجيات الأعداد المرتفعة والمهولة من المواليد الجدد، أضحت مختلفة حاليا، بل وعلى نقيضها، لأن السياسات المتبعة فى الحد من النسل والعوامل المرتبطة بها، تسببت فى اختلال عميق جدا فى التوازن الديموغرافى المفروض فى استمرار الحياة البشرية، بما يهدد فى العمق مصير هذه البشرية، ذلك أن الإقرار بصفة علمية مطلقة بأن معدل الخصوبة أصبح فى كثير من مناطق العالم منخفضا عن المستوى المطلوب فى تجديد الأجيال، يعنى أن أعداد البشرية دخلت فعلا مرحلة الانخفاض، ومع استمرار ذلك، فإن البشرية صارت مهددة فى مستقبلها وفى مصيرها. وهكذا بدأ الحديث فى بعض الأقطار، فى أوروبا الغربية وفى آسيا الوسطى مثلا، عن نهاية محتملة للسكان المحليين، بسبب الاختلال فى الهرم السكانى مما يفقد تجديد الأجيال توازنه. وهذه الدول، وإن سعت جاهدة إلى تدارك الأمر بالعودة إلى تشجيع وتحفيز الإنجاب بمختلف الأشكال، لكنها لم تحقق نتائج كبرى على هذا المستوى، بسبب نمط الحياة الذى نتج عن السياسات الديموغرافية المتبعة، والتى كان هاجسها الحد من تواتر النسل الديموغرافي. 
 وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الحكومة الصينية اضطرت لمراجعة قرارها بتحديد النسل فى طفل واحد لكل أسرة، لأن المجتمع الصينى وجد نفسه فى مواجهة نمط أسرى غريب جدا، بحيث ليس للطفل الصينى أخ ولا أخت، ومع مرور الوقت بدا أنه لن يكون له عم ولا خال. وهذا نمط أسرى غريب هدد بتحولات سوسيولوجية خطيرة فى المجتمع الصيني. وفى اليابان مثلا كشفت الدراسات الحديثة أن الساكنة المحلية مهددة بالانقراض النهائى فى مدى معين.
وفى تجارب أخرى اتجهت السياسات السكانية إلى تشجيع الإنجاب الاصطناعى وإلى استئجار المبايض، والأكيد أن كثيرا من هذه الدول التى تبدى اليوم حماسا مفرطا فى محاربة الهجرة، ستكون مضطرة فى المدى المنظور إلى تشجيعها، بل وإغراء المهاجرين من أجل الاختلاط بالسكان المحليين لزيادة النسل، بمعنى الاستعانة بالمهاجرين للحفاظ على الاستقرار الديموغرافى على الأقل.   


هذه الحقائق تؤكد عدم صحة ولا جدوى ولا سلامة السياسات الديموغرافية التى صرفت من أجل فرضها وسيادتها أموالا طائلة وخيالية، والتى شغلت الرأى العام الدولى لفترة طويلة جدا. ولا يبقى من تفسير لكل ما حدث غير الإقرار بأن شركات غربية وأمريكية فرضت قراءتها الأحادية للإشكالية الديموغرافية فى العالم لحقب طويلة، مما مكنها من تسويق منتجاتها المتعلقة بمنع الحمل وغيرها، وراكمت بفضل ذلك أرباحا مالية طائلة، وفرضت خريطة ديموغرافية معينة تخدم مصالحها الاقتصادية الكبرى.
والنتيجة، أن العالم وجد نفسه فى مواجهة أنماط جديدة من الأسر ومن العيش ومن الأمراض النفسية تتجه إلى مزيد من التعقيد والتأزيم بسبب أنواع الزواج الجديدة التى تنقل البشرية إلى أشكال عيش وتعايش معارضة ومناقضة ليس للطبيعة البشرية فحسب، بل حتى للطبيعة الحيوانية.