أزمة الإنسان والحضارة فى مسرح أوجين يونيسكو ..مسرحية «الخراتيت» نموذجاً

يوجين يونسكو
يوجين يونسكو

نشأ التجريب فى المسرح فى أواخر القرن التاسع عشر على يد الكاتب والمسرحى الفرنسى ألفريد جارى وكان بمثابة حركة ثورية ومجددة فى الوقت نفسه، وتحديداً فى مسرحيته «أوبو الملك» التى نسف فيها كل القواعد والأشكال المعروفة فى النص المسرحى الكلاسيكى من خلال لغة الجسد والحركات الإيمائية، وإدخال العناصر الغرائبية وغير المألوفة فى الأزياء والديكور وطريقة الحوار التى تتسم بالسخرية والفكاهة السوداء فى أكثر المواقف الجدية، كما استبدل جارى الإشارة أو الرمز بدلاً من اللغة، محاولاً بذلك هدم الجدار الفاصل بين الممثلين على خشبة المسرح وبين الجمهور. كان لهذا التجريب الأثر البارز فى ظهور حركات ما بعد الحداثة فى القرن العشرين كالسريالية والدادئية ومسرح القسوة عند آنطونان آرتو.

نشأ التجريب فى المسرح فى أواخر القرن التاسع عشر على يد الكاتب والمسرحى الفرنسى ألفريد جارى وكان بمثابة حركة ثورية ومجددة فى الوقت نفسه، وتحديداً فى مسرحيته «أوبو الملك» التى نسف فيها كل القواعد والأشكال المعروفة فى النص المسرحى الكلاسيكى من خلال لغة الجسد والحركات الإيمائية، وإدخال العناصر الغرائبية وغير المألوفة فى الأزياء والديكور وطريقة الحوار التى تتسم بالسخرية والفكاهة السوداء فى أكثر المواقف الجدية، كما استبدل جارى الإشارة أو الرمز بدلاً من اللغة، محاولاً بذلك هدم الجدار الفاصل بين الممثلين على خشبة المسرح وبين الجمهور. كان لهذا التجريب الأثر البارز فى ظهور حركات ما بعد الحداثة فى القرن العشرين كالسريالية والدادئية ومسرح القسوة عند آنطونان آرتو.

أما مصطلح العبث فى المسرح فقد ظهر فى فترة الخمسينيات وبعد الحرب العالمية الثانية، وهى تسمية أطلقها النقّاد على هذا المسرح بسبب افتقاره للحبكة والعقدة المركزية، وضياع معالم الشخوص والأسماء وتحرره من عنصرى الزمان والمكان، وكذلك ما يشوب الأحداث من غموضٍ وانقطاعاتٍ وتحللٍ فى البنية اللغوية للنص، فعادة ما نرى الأشياء والأشخاص تائهين ضائعين، يتبادلون الأدوار والحركات فى مشاهد تبدو وكأنها فى حلم.

اقرأ أيضاً | ناهد راحيل.. أورفيوس والعزف على قيثارة بلا أوتار

كان مسرح العبث بمثابة صرخة تمرد على انهيار الإنسان وقيم الحضارة الغربية بعد الحروب العالمية، كذلك ثورة على جميع التقاليد الاجتماعية والنظم التى تقيد حرية الإنسان، ولا ننسى أن رواد الحركة الطليعية فى مسرح العبث  كصموئيل بيكيت وآرتور آداموف وأوجين يونيسكو، وجان جينيه وجورج شحادة وغيرهم، كانوا قد عاصروا السرياليين والدادئين وكانوا على تماسٍ مباشر مع رواد المذهب الوجودى كسارتر وكامو، الذين  وصلوا إلى نتيجة مفادها أن العالم لا معنى له، وأن الحياة لا تستند على أى قيمة أخلاقية أو ماهية مسبقة، لكن الوجوديين كان لهم نظامهم الفلسفى فى النتائج المفُضية إلى الحرية والالتزام والتمرد، وهى قيم ومعان يخلقها الفرد الوجودى ويكون مسئولاً عنها بقدر انفتاحها على الإنسان وحقه فى الحرية والكرامة. أما كتاب مسرح العبث والسرياليين فقد ظلوا تائهين فى دوامة هذا العالم، يفتقدون إلى المركزية والمعنى الحقيقى فى نظام حياتهم وأفكارهم، فكانت اللاجدوى برعبها تضغط على أرواحهم وتفتتها، فكانت  الفجيعة تزداد وحشية وقتامة وتجعلهم معلقين فى صراعٍ دائمٍ فى هذا الوجود.

الهوية الفردية والذات الممسوخة فى القطيع
عالج أوجين يونيسكو أزمة الإنسان وتدهوره فى الحضارة الصناعية، وسلط الضوء كثيراً على اللامبالاة بكل ما فيها من خسة وسفالة، بوصفها الطابع المميز للمجتمع الآلى الذى فقد مقومات وجوده الإنسانى، لأنه استعاض عنها بصلات ميكانيكية حجرت المشاعر ومزقت الصلات الفطرية بين أعضاء المجتمع، وقضت على روح الجماعة لتحل محلها روح القطيع الحيوانى الذى لا يعرف التمرد، لأن غريزة الحياة تفرض عليه الطاعة فرضاً، وبفضل هذه الطاعة العمياء تنتفى السمات الإنسانية والميزات الفردية، فتنصهر الذات فى القطيع وتضيع معالمها تماماً. حتى اللغة فقدت كل مقوماتها التى وُجدت من أجلها، وأصبحت كياناً متداعياً وعبئاً مرعباً.

يقول يونيسكو: «ليس لى من صور العالم غير الزوال والوحشية والجنون، والغرور واللاشيئية والرعب والكراهية اللامجدية، كل ما جربته وكل ما رأيته وفهمته فى طفولتى الجنون التافه، أفانين الصراخ التى يغيظها الصمت، الظلال التى يطوقها الليل أبد الدهر».



الخراتيت 
تجسد مسرحية «الخراتيت» بدلالاتها الرمزية وأجوائها العبثية واللامعقولة، حقيقة الرعب والفجيعة والمصير القاسى الذى يلقاه الإنسان وحيداً. وهى ضريبة التمرد وعدم الانتماء للقطيع والجماعة التى تحيا وجوداً  آلياً  وميكانيكاً  وهذا المصير هو الضياع والوحدة بكامل وحشيتها وجنونها. لكن هذا المصير هو مصير العظماء والقديسين فى مواجهة عالم تحركه الدمى والكائنات الممسوخة عن آدميتها.

تتحدث المسرحية عن ظاهرة غريبة وغير مألوفة فى إحدى البلدات الصغيرة، وهى ظاهرة أشبه بتفشى الوباء والفيروسات، إذ يلاحظ أهل البلدة أن هناك خراتيت وحيدة القرن تتجول مع الناس فى الأسواق وتقتحم المقاهى والمنازل الآمنة، ويبدأ هذا الخبر الغريب يستولى على اهتمام الناس والصحافة والعاملين فى الحكومة، إلا أن المفارقة الغريبة فى مسرح يونسكو تكمن فى ذاك الرعب الذى استعاره من كافكا وروايته «المسخ»، فنرى أن سكان هذه البلدة قد بدأوا بالتحول تدريجياً إلى خراتيت.

تُعتبر شخصية بيرانجيه فى المسرحية هى شخصية عبثية وجودية وهى تُظهِره كسكير وطيب القلب وإنسانى إلى درجة كبيرة، أما صديقه جان فهو رجل منطقى ومثقف وله خطة ومنهج فى حياته يسير وفقهما، وجان عادة ما يتنمر على بيرانجيه ويسخر منه لمظهره الرث وعبثيته، لكن نرى أن الجميع قد تحولوا إلى خراتيت وانجذبوا إلى ذلك الإغراء الحيوانى ومن ضمنهم صديقه المقرب جان فى مشهد حوارى كابوسى يذكرنا بكابوسية كافكا وأدجار ألن بو وأفلام الرعب فى السينما، فلا يبقى سوى بيرانجيه وحبيبته ديزى البشريين الوحيدين فى البلدة الممسوخة التى تحول جميع سكانها إلى خراتيت.

يطالب بيرانيجيه بأن يستأصل الشر من جذوره، فالشر يعشعش فى كل جزء من كيان العالم ويلطخ براءته المُستباحة، وهنا يستوقفنا هذا المشهد بين بيرانجيه وصديقه فى العمل دودار الذى يتصف بالحكمة والمعرفة.

بيرانجيه: يجب أن نستأصل الشر من جذوره.
دودار: الشر..  الشر كلمة جوفاء، هل من الممكن أن نعرف أين يكمن الشر وأين يكمن الخير؟  نحن نفضل أشياء على أشياء أخرى.
وهل تعرف أين ينتهى العادى وأين يبدأ الشاذ؟ هل بإمكانك أنت تحديد هذه المفاهيم؟ فمن وجهة النظر الفلسفية والطبيعية لم يستطع أحد أن يحل المشكلة. 

وهنا يرى دودار أن ما يحدث هو أمر طبيعى وأن الخراتيت لها الحق فى الحياة مثل باقى البشر، وقد تحدث عملية تبادل وتحول مستمر بين الناس والخراتيت على مدى التاريخ، أما الشر الذى يحدث طبيعيا فهو ليس شراً حقيقياً، وذلك لأن الطبيعة لا تعرف الشر بالمعنى الأخلاقى الذى يعرفه الشر، وإلا لكانت كائناً عاقلاً  مدركاً.

فى نهاية المسرحية نرى أن ديزى حبيبة بيرانجيه تنجذب لمجتمع الخراتيت فلم تعد تراها منفرة وقبيحة، بل ودودة ولطيفة على حد تعبيرها لتترك بيرانجيه وحيداً  فى غرابة هذا العالم وشذوذه.

إن عملية التشوه والانمساخ للكائن البشرى والتى يرمز إليها يونسكو فى مسرحيته هى كل ما يمسخ فردانية الإنسان، وينخر روحه من الصميم من عقائد وآيديولوجيات وأديان، ليجعله يتخلى عن آدميته وينخرط فى مجتمع القطيع، لكن يونسكو يؤكد على قوة الإرادة الإنسانية فى أشد المواقف تحطيماً  وقهراً، ومن قلب الظروف القاهرة التى تعصف بالإنسان وفردانيته التى تميزه عن الجميع.

ويتجلى هذا فى المشهد الأخير من المسرحية:
«الويل لمن أراد أن يحتفظ بتفرده، حسنا  ليكن ما يكون.. سأدافع عن نفسى ضد العالم أجمع، ضد العالم أجمع سأدافع عن نفسى، أنا آخر إنسان، وسأظل كذلك حتى النهاية...  لن أستسلم».

أخيرا  بقى أن نقول إن قراءتنا لمسرحية الخراتيت وتناولها بالعرض والنقد، ينطلق قبل كل شىء من المشكلات والأزمات التى تعصف بالإنسان فى عصرنا الراهن، وتحديداً ذلك الإنسان الممسوخ فى الحضارة الغربية، فما نراه من عمليات التحول الجنسى، والعبث المستهتر بالأجساد وتحويل الناس إلى كلابٍ آدمية بناء على رغباتهم، هو دليل فعلى وحقيقى على الآلة الرأسمالية المتوحشة فى الحضارة الرقمية والتى جعلت الإنسان يخرج من آدميته ويفضل أن يكون مسخاً  ومستعبداً بإرادته، لأن العقل البشرى لم يعد يستوعب حجم التناقض والرعب اللذين يصاب بهما فى حالة الفكر والتأمل فى هذا العالم وفى ظل غياب كل القيم الروحية والمعنوية التى من الممكن أن تخلق له معنى فى حياة آلية كل شىء فيها محاط بالعدم.

فالإنسان فى زمننا المتشظى والمبعثر، يفضل أن يكون كل شىء خارج إنسانيته، لا يخاف من شىء أبداً ولا يتورع عن ارتكاب أقسى الشرور والجرائم، لكنَّ شيئاً واحداً يخيفه هو أن يكون إنساناً.

يونيسكو والفلسفة الوجودية
يقول يونيسكو: «أحس أننى لا أنتمى إلى هذا العالم على الإطلاق، وأنا لا أعرف لمن ينبغى أن ينتمى هذا العالم».
إن هذا اللاانتماء له خلفية فلسفية عند يونيسكو، فهو يضرب فى جذور العدم ، ومن خلال هذه العدمية يتأمل الأشياء تأملاً معكوساً. يبلغ به من الحدة أن يفكر فى وجود نفسه وصعوبة تحديد هذا الوجود. وهذا الغموض ينتقل من نفسه إلى معتقداته ليحولها إلى رفض لكل الأسباب والمسببات، ونبذ لكل الغايات والماهيات، وهو بذلك يقول: «كل شىء فى داخلنا قابل للشك والمناقشة، وحتى الأشياء الخارجية التى هى غير قابلة للدحض، ليس لها سبب للوجود أو عدم الوجود». ومن هنا نستطيع  أن نلتمس الرابطة التى تربطه بفلسفة العبث عند ألبير كامو بقوله: «الإنسان يعيش فى العالم، ولكنه لا يفهم هذا العالم، كما لا يفهم دوره فيه، وهو الإنسان غريب مقطوع الصلة، لما يبدو له فى خواء غير مفهوم».

وحول مسرحياته يقول يونيسكو أيضاً: «فى جذور جميع مسرحياتى شعوران أساسيان هما فكرة التلاشى من جهة، والثقل من جهة أخرى، الفراغ والحضور الزائد عن الحد، شفافية العالم اللا حقيقية، وكثافة اللا شفافية. ومن هنا  هذه الفجيعة التى تنتهى بأن تتحول إلى حرية».

وهذا ما يبين لنا تقاطع الأفكار عند يونيسكو مع وجودية سارتر، وتحديداً  فى كتابه «الوجود والعدم»، الذى يربط العدم بغياب الأشخاص والأشياء، وحضورهم بالامتلاء والوجود، فالعدم عند سارتر متداخل مع الوجود، ويتجلى فى وعينا وضمن نطاق شعورنا الذى يرى العالم كما يتبدى له فى تمظهراته المختلفة.

كما أن العدم عند الوجوديين يرتبط بالنفى وانعدام الإمكانية، ويشمل: الاغتراب، واليأس، والذنب والفجيعة، كل هذه المفاهيم المرتبطة بالعدم هى شرط أساسى للحرية ويقظتها فى أعماق الإنسان عند أغلب الفلاسفة الوجوديين، وهذا ما نراه واضحا فى كلام  يونيسكو عندما ربط الفجيعة بالحرية.