ناهد راحيل.. أورفيوس والعزف على قيثارة بلا أوتار

نورى الجراح
نورى الجراح

تعد تلك الدراسة جزءا من خطاب تقديم مخصص للمختارات الشعرية التى أعددتها عن مسيرة الشاعر نورى الجراح، والتى حملت عنوان «ألواح أورفيوس» والتى تولى نشرها دار الشروق المصرية تزامنا مع معرض القاهرة الدولى للكتاب لعام 2024.
فقد قدم الشاعر نورى الجراح عبر مسيرته سردية شعرية مضادة تمثل الذات فى صورتها الحقيقية، وتنقل المأساة السورية إلى مصاف التراجيديات الإنسانية الكبرى، وتفتح نصوصه الشعرية على التراث الإنسانى الذى طوره مفهوم المنفى مع الاشتغال على فاعلية الرمز والإحالات إلى التاريخ والدين والأسطورة، كما عمد إلى استعادة الدور الحضارى للشرق فى الحضارة الإنسانية وتشكيل الهويات المفقودة وإعادة بنائها بعيدا عن سيرورات سوء التعرف التاريخية.

أثيرت الشعرية فى النقد العربى الحديث تسميةً ومفهومًا، تأثرًا بنظريات الشعرية التى عرضها نقاد نصيون غربيون، بوصفها شِعرية حداثية تُعنى بوصف النصوص الأدبية وكشف قوانينها متجاوزة، ولم تخل محاولات النقاد العرب فى التعامل مع هذا المصطلح من حضور واضح للفكر البنيوى.



ويمكن القول إنه رغم اعتماد المرجعيات الغربية لقصيدة النثر سواء فى الممارسة أو فى التنظير؛ فإن قصيدة النثر العربية أعادت إنتاج تلك المرجعيات بما يتناسب مع راهن المشهد الشعرى الأدبى وتحولاته؛ فكان من الطبيعى أن تتأقلم القصيدة مع التحولات الاجتماعية والثقافية التى تعايشها بفضل عمليات الانتقاء والتجريب فى الخصائص التى تحملها هى نفسها.

اقرأ أيضاً | طالب الرفاعى.. الكتابة صنو العيش

وقد استطاع الجراح وبعض ممن جَايله من الشعراء، خلق مساحة ممارسة خاصة لا تعتمد على المرجعيات الغربية فى مطلقها؛ بل تستمد منها ما يفيد تجربته وتثرى خطابه فى حضور واضح لمرجعية معرفية خاصة فرضها تعدد الروافد اليونانية واستقاء الأفكار البابلية والتصوف الاسلامى، وثقل الأنساق المعرفية الممثلة فى توظيف الأساطير والملاحم والشخصيات التراثية المحلية والكونية، وتحويلها إلى أقنعة رمزية يبث الشاعر من خلالها أفكاره ورؤاه الخاصة.

لذلك يمكن القول بأن الشعرية لدى الجراح هى فى الأساس شعرية وجود، أو تأسيس للوجود بواسطة الشعر، متخذة عددا من المدارات جاءت باعتبارها تنويعات لهذا الوجود، سواء عن طريق عرض التجربة الشخصية والتخييل بالذات، أو استلهام الشخصيات التراثية والتقنع بها، أو توظيف المعطيات الدرامية التى من شأنها أن تعلى من حساسية القارئ تجاه تجربة الشاعر الذاتية، أو استثمار مفهوم الرحلة  الملمحى الذى ناسب تجربة النزوح ليتقاطع الواقعى المعاصر مع الأسطورى الماضى.

ورغم الاهتمام بالمكان كفضاء تتعين الذات داخله، فإن شعرية الجراح تتحدد كذلك فى تقويض سلطة المكان بمعنى الانغلاق، حيث توجد حدود قصيدة الجراح على امتداد المكان السورى وجغرافية المتوسط، فهى لا تنمو خارجه رغم وجود الشاعر خارج المكان. ويلعب المنفى دورا رئيسا فى تشكيل المكان الشعرى لديه؛ فينفتح المكان فى شعره على ثنائية الوطن والمنفى، مع غلبة أماكن الارتحال فى نصوصه الشعرية بسبب حالة الشتات القسرى وتعدد المنافى.

لذلك يعرّف الجراح نفسه بأنه «شاعر متوسطى يكتب بالعربية.. منفى معلق بين عالمين، عالم لغته الأولى فى صقع، وعالم الأرض التى لجأ إليها فى صقع آخر، كما عُلق بروميثيوس عند شق الأخدود عقاباً له على سرقة النار من الآلهة، وعلق المسيح السورى على صليب عقاباً له على مناوأته لصيارفة روما وسدنة العبودية، ليكون فداء لفكرة المحبة بوصفها الحرية».

وعند التعامل مع الخطاب الشعرى لنورى الجراح لا يمكننا تجاهل تلك الظاهرة الواضحة المتعلقة بالتناول الواسع لذاته ولشخصيته الحقيقية بوصفها موضوعا للقصيدة سواء بتصريح نصى منه أو بإيهام بالتصريح. فقد تحولت شخصية الشاعر الخارج نصية إلى جزء لا يتجزأ من خطابه الشعرى، حتى أنه من الممكن القول بأن المتلقى قد يجد صعوبة فى إدراك شعرية خطابه لو لم يكن على دراية بحياته والمؤثرات التى أثرت عليه وكونت شخصيته. وعلى النقيض فإنه لن يعى شخصيته إلا عندما يقف على قصائده وخصوصيتها، وما تحمله من ذاتية تؤهله لاستقبالها وتلقى خطابها؛ حيث يجد القارئ نفسه أمام شاعر أوجد لنصه استراتيجية خاصة تقوم بتهجين الشعر بالسرد، وأقام علاقة متبادلة بين الذاكرة والتخييل على اعتبار أن مادة القصيدة الخام هى الحياة الخاصة التى عاشها الشاعر، والتى سيقوم بسردها فى النص الشعرى.

وانطلاقا من تلك الذاتية، نجد أن الجراح يشبه أشعاره؛ فهو لا يتعامل مع القصيدة بوصفها وسيلة، بل باعتباره هو نفسه جسد القصيدة، فقد عُرف بخطابه التخييلى الذاتى، فهو شاعر يحوى إنتاجه الأدبى العديد من تجاربه الشخصية. وقد مال الجراح إلى استخدام الترميز للإلماح بهذه الذاتية عبر استخدام تقنيات عدة، أولها استخدام الشخصية المطابقة أو النموذج، ثم اللجوء إلى تقنية التقنع بالشخصيات التراثية.

تناسب هذه الحيل الفنية ما يمكن تسميته بشعرية النزوع الدرامى؛ فقصيدة الجراح فى مجملها ذات بنية درامية؛ حيث كتب المطولات الشعرية ذات الفضاء الملحمى مستعينا بالأساليب والمعطيات الدرامية التى من شأنها تصعيد حساسية المتلقى تجاه المواقف والأفكار المعروضة أمامه. وقد أفاد الجراح من العناصر الدرامية فى البناء المعمارى المتكامل، كما أفاد من مظاهر بناء المسرحية فى صياغة المشاهد الدرامية واستخدام الافتتحايات الدرامية، وأول تلك العناصر الدرامية الصراع المرتبط بالقضية السورية، وقد جسد عبره الواقع السورى فى توتر درامى متصاعد بصورة ملحمية تبدو وكأنها تأهيل للذاكرة الجمعية التى يحاول الآخر طمس ملامحها وفاعليتها.

ومن هنا ارتبطت شعرية القصيدة لدى الجراح بالجانب الرحَلى؛ فالنص الرحلى بتعريف الناقد شعيب حليفى ينهض على صورة واقع يضمُر بنيات متعددة وأصواتا مشبعة بأسرار ذاتية وأخرى غيرية؛ فبالرغم من أن الرحلة تشكيل لنص ذاتى فإنها تتعرض للآخر ولتاريخ المكان وجغرافيته.

ويتناسب هذا الملمح مع النفس الملمحى لبنية القصيدة لدى الجراح؛ حيث تؤسس تيمة الارتحال عنصرا أساسيا فى الملاحم فى أشكالها الكلاسيكية الأولى، وتتمتع النصوص الملحمية الرحلية بخاصية قدرتها على تمثل عصرها بشكل من الأشكال، وكذلك مطولات الجراح الملحمية؛ عامدا إلى ما يعرف باسم الملحمة الوهمية أو البطولة الزائفة، وهى شكل من أشكال نقض الأسلوب البطولى المميز للملاحم الكلاسيكية ونفى له، فى إشارة إلى الطابع غير البطولى للعصر الحديث والسخرية من البطولة المستعادة نفسها فى مواجهة المأساة الراهنة، ويطالعنا الجهاز العنوانى لديوان «لا حرب فى طروادة» بتقويض التراث الملمحى عبر نفى وجود حرب فى طروادة ومحو الأسطورة من التاريخ؛ لتكف طروادة عن ممارسة حضورها الأسطورى فى التاريخ القديم، وتتنازل الإلياذة عن أداء مهمتها فى تسجيل بطولات شخصياته.

وعبر النص الرحلى ومعارضة الملاحم الأسطورية، يكتب الجراح التاريخ الجديد، ويعيد تشكيل سردية مضادة ترد على السردية التاريخية الكبرى؛ التى هى باختصار حكايات كونية يفترض أنها مطلقة وقصوى، فتفككها وتنقضها.

وجدير بالذكر أن عنوان «ألواح أورفيوس» يحيل إلى المضمون العام لقصائد الجراح، فأورفيوس؛ الشخصية الأسطورية من الميثولوجيا الإغريقية، موسيقى وكاتب عرف برحلاته البحرية وقدراته السحرية الخارقة، ومن هنا يمكن اعتباره الوجه المناسب لنورى الجراح يتوحد عبره مع أناه داخل النص الشعرى ويشير إلى إمكانية تفاعل تجربة أورفيوس وتداخلها مع تجربته. ورغم أن العنوان مستمد من عنوان إحدى قصائد الشاعر الواردة فى مجموعته الشعرية «حدائق هاملت»؛ فإن العنوان لا يحيل إلى تلك القصيدة، بل يحيل إلى تجربة أورفيوس المعاصر الذى يعزف على قيثارة بلا أوتار، بتعبير إيهاب حسن فى مقدمة كتابه «تقطيع أوصال أورفيوس»، ومن ثم يشير إلى حالة التشظى التى تكفلها روح الأسطورة ورحلة البحث الدائمة عن الذات والوجود.