آخر صفحة

حامد عز الدين يكتب: العجز عن درك الإدراك إدراك

حامد عز الدين
حامد عز الدين

تشرق الشمس كل صباح على هذا السفينة الضخمة المكونة من عشرات الطوابق، ويسكنها الناس رجالا وسيدات وأطفالا بعشرات الآلاف من كل دول العالم، بأشكالهم وألوانهم ولغاتهم المختلفة. فهؤلاء هم أصحاب البشرة السوداء القادمون من القارة الأفريقية ويستخدمون لغات مختلفة ولهجات مختلفة ويرتدون ثيابا مختلفة عن بعضهم البعض.

وهؤلاء من الآسيويين أصحاب البشرة الصفراء من الصين واليابان وباقى دول القارة الآسيوية بلغاتهم المختلفة وثقافتهم المختلفة وملابسهم المختلفة وعاداتهم المختلفة.

وهؤلاء هم الأوروبيون من كل الدول الأوروبية أصحاب البشرة البيضاء وشاهقة البياض يملأون جنبات السفينة الشاهقة ويتبادلون الحوار بلغاتهم المختلفة. وهؤلاء من القارة الأمريكية الجنوبية هم أيضا بسمارهم المتفاوت ولغاتهم المتعددة وثقافاتهم المتباينة.

وهكذا كل شعوب الأرض ممثلة على هذا السفينة الشاهقة. ومع بداية الصباح، عشرات المئات من العاملين بأزياء خاصة تجعل التعرف عليهم يسيرا يقومون فى توقيت واحد بتوفير طعام الإفطار والمشروبات الباردة والساخنة فى أركان هذه السفينة العملاقة الشاهقة، وقد تم إعداد طعام الإفطار لكل من ساكنى السفينة طبقا لأذواقهم وما تعوده كل منهم فى بلده، وبعد الإفطار كل من ساكنى السفينة ما يشغله ترفيها وفضاء لوقت طيب .  

وعندما ينتصف النهار تتكرر المسألة وينتشر العاملون على السفينة فى مختلف الأنحاء لتوزيع طعام وجبة الغذاء، المكونة من مختلف الأطعمة والفواكه والحلوى والمشروبات الباردة والساخنة وما لذ وطلب منها طبقا للأذواق المختلفة والأطباق المختلفة التى يعرفها كل من المجموعات الكبيرة التى تملأ كل جنبات السفينة. وتمر الساعات ويرخى الليل سدوله على السفينة العملاقة الشاهقة، فتضاء الأنوار وتصدح الموسيقى بمختلف نغماتها وألوانها، ما بين الإيقاعات الأفريقية والإيقاعات الآسيوية والموسيقى الأوروبية والأمريكية وغيرها. ثم يبدأ توزيع وجبة العشاء المختلفة المذاق والمرتبطة بأذواق كل مجموعة من ساكنى السفينة العملاقة الشاهقة التى تدار بنظام شديد. 

وهنا يقرر أحد كبار السن من ساكنى السفينة، التعرف على نظام العمل، ليكتشف الطوابق المخصصة للمحركات الكهربائية المسئولة عن توليد الطاقة الكافية لتشغيل هذه السفينة، والطوابق الأخرى الخاصة بالمطابخ المختلفة التى تعد الطعام فى توقيتاته. والطوابق المخصصة لتسكين هذه الطواقم من العاملين على ظهر السفينة والتى يقوم أفرادها بخدمة ساكنيها. وتعرف على المخازن الضخمة التى تحمل أطنان المؤن الغذائية المختلفة والمياه العذبة التى يستهلكها ساكنو السفينة وغيرهم.

وهنا قرر الشيخ العجوز أن يبحدث عن قبطان هذه السفينة العملاقة المسئول عن هذا النظام الدقيق للعمل على متنها. وبدأ الشيخ العجوز يوجه السؤال ذاته إلى كل العاملين على متن السفينة فى مختلف الطوابق. وكانت المفاجأة الكبرى أن أحدا لم ير القبطان وأن لا أحد يعرف للسفينة قبطانا.

وأقر الشيخ العجوز – الذى لم يكن يؤمن بوجود إله يدير الكون - باستحالة وعدم منطقية أن لا يكون لهذه السفينة العملاقة قائد خبير. وصعد السائل فوق أعلى نقطة فى السفينة يصرخ فى الجميع : لا يمكن أن لا يكون لهذه السفينة قائد وأنا أريد أن أتعرف عليه لأشكره . 

فسمع صوتا عاليا يأتيه من رجل صالح يقول: إن كنت غير قادر على تصديق أنه يمكن أن تكون هذه السفينة هى التى تدير أمور نفسها بنفسها، فكيف تظن أن هذا الكون الفسيح الذى يعادل ملايين السفن يمكن أن يدار بدون إله قادر على الخلق هو «رب» ومتحكم فى كل الأمور هو «الملك» ومطاع من عباده هو «الله». فهذا هو «رب الناس ملك الناس إله الناس». والظن بأن ذات الله خاضعة للرسم والوصف والتعريف كفر صراح لأنه سبحانه ليس جسما ولا حادثا، ولأن الباحث يبحث بعقله – على حد ما قال والدى الإمام الفقيه الراحل محمود عزالدين فى كتابه «القبس الخالد فى رسالة التوحيد» – والله سبحانه هو خالق العقل وما سواه وهو المحيط بكل شىء – مهما بلغ – وهو فوق مدارك العقول، وهذا هو أول ما جاءت به رسالة التوحيد لله سبحانه وتعالى. 

وقد ضرب مثلا لذلك مثل بحر لا يدرك غوره ولا يحد حده. وللتثبت من هذه الحقيقة قذف أحدهم بنفسه فى هذا البحر الهائل بمخلوقاته اللانهائية، وكان كلما أمعن فى مدارات هذا البحر الخضم وجده بلا عمق ولا حد وطوف الرجل فى أنحاء عديدة إلى أن أيقن بالفعل أن هذا البحر لا نهائى .

ولما سئل: أأيقنت أنه بحر لا يدرك غوره ولا يحد حده؟ 
قال : نعم أدركت ..

فلما سئل : ما أدركت؟ 
قال : (أدركت أنه لا يدرك). 

ولأن عدم الإدراك بذات الله – جل وعلا - إدراك فى حد ذاته. وقد روى عن أبى بكر الصديق قوله :(الْعَجْزُ عَنْ دَرَكِ الإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ .. وَالْبَحْثُ عَنْ ذَاتِهِ كُفْرٌ وَإِشْرَاكُ). ونواصل التدبر فى كتاب الله الأسبوع المقبل إن شاء الله إن كان فى العمر بقية.