«كوكب الشرق» فى مرآة الأديب الكبير محمود تيمور

 أم كلثوم   محمود تيمور
أم كلثوم محمود تيمور

زميلنا الكاتب الكبير رشاد كامل باحث مخضرم فى التراث الأدبى والفنى والصحفى، وله أكثر من كتاب فى هذه المجالات التى أثرى بها المكتبة العربية، ووقع فى يده كتاب «طلائع المسرح العربى» للأديب الكبير محمود تيمور الذى يروى فيه ذكرياته عن نجوم المسرح والغناء منذ مطلع القرن العشرين، وينقل لنا الزميل ما كتبه الأديب محمود تيمور - أحد رواد القصة القصيرة - عن ذكرياته مع سيدة الغناء العربى أم كلثوم، وتلك هى كلماته :
- « استطاعت أم كلثوم بحلاوة صوتها وعبقرية حنجرتها وعظمة اجتهادها أن تنفرد بمجلس الصدارة فى عالم الغناء، كان لى حظ الاستماع إلى أم كلثوم أول مرة فى ملهى «الكورسال» سنة 1920، ولا أنسى أننى لم أكد أستمع إلى ذلك الصوت الجديد وهو غصن فى حداثته، حتى توقعت أن يكون له شأن، وعلى الرغم من أن المغنية الناشئة لم تكن لها إلا أدوات بدائية بسيطة على نظام العهد القديم، فإنها استطاعت أن تسترعى الانتباه إلى صوتها الذى كان ينساب إلى القلوب فيهزها الطرب والإعجاب.
وتابعت مع الأيام الصوت الرائع فتحقق ظنى به، وصدق حدسى فيه، وهو يتألق فى أجواء الشرق كله حتى لم يبقِ بين مختلفى الأذواق خلاف على أن هذا الصوت حسنة من حسنات الفنون الجميلة، وأنه من الأصوات التى لا يسمح الزمن بمثلها إلا بعد طول انتظارٍ، ولا ينكر أحد أن أم كلثوم قد تدرج صوتها بالنمو والمران فى مراتب الحلاوة حتى بلغ الغاية التى تتقاصر دونها الأصوات، والحق الذى لا يُنكر أيضاً أن صوتها لم يكن فى نشأته بالهزيل ولا بالضعيف وتلك ميزة الفنان الأصيل، ترى فى مطلعه مخايل الروعة وتلمح فى بدايته ما يكشف لك أسرار فنه الموعود، وكانت إمارة الغناء عهودًا متمايزة، لكل عهد طابع يحمل اسم صاحبه، ولا شك أن أم كلثوم هى أميرة الغناء النسوى لهذا العهد، فكما طبع عبده الحامولى عهده باسمه، وكما تميز عهد الشيخ سلامة حجازى بغنائه، طبعت أم كلثوم عصرها بغناءٍ لا سبيل إلى منافستها فيه.
وهب الله أم كلثوم عبقرية تتمثل فى اكتمال حنجرتها وهو الاقتدار على التنقل بين الطبقات الصوتية فى التغنى دون كبوة أو إعياء، حين ترسل صوتها تؤدى مختلف الأنغام أتم أداء، وتستوفى درجاتها دون أن يشوب الصوت شائبة، وكسبت السينما كسبًا كبيرًا بتلك الروايات التى مثلت فيها أم كلثوم أدوارًا غنائية ممتازة وأذكر منها «نشيد الأمل - ودنانير» وصادفت فى ذلك مجالاً لتلوين الغناء وإمداده بصور طريفة، وليت المسرح كان له من أم كلثوم مثل هذا الحظ، لكنا شهدنا للمسرح الغنائى عهدًا جديدًا نصل به ما انقطع من عهد منيرة المهدية وما سبقها من عهد الشيخ سلامة حجازى.
وإن لأم كلثوم فضلًا فى ترقية مستوى الغناء عند الرأى العام، فهى التى أرهفت سمعه وهذبت ذوقه، إذ جعلته يؤلف حلاوة صوتها الرخيم فأصبح يقيس بذلك الصوت المحبوب جمال الأصوات، وغنت أم كلثوم بلغة الشعب فى مقطوعاتٍ عاطفية قريبة من أذواق الشعب مثل: «على بلدى المحبوب - ويا ليلة العيد»، وغنت قصائد من عيون الشعر العربى القديم والحديث، لا يفهمها إلا الخاصة مثل «رباعيات الخيام»، فأم كلثوم صاحبة الصوت الذى لا تخطئه أذن فى أرجاء الشرق من أقصاه إلى أقصاه، إنه صوت من السماء».