نبض الدورة الـ55

د.صلاح فضل فى سيرته فائقة الصراحة: مزقت ترجمتي لـ «بورخيس» عندما شتم العرب !

الأستاذ وتلميذه
الأستاذ وتلميذه

أصر أن يجمع أشتات سيرته فى كتابٍ واحد، وأوصى بأن يشرف على إصدار هذه السيرة مجدداً تلميذه المقرب الناقد البارز  د.  رضا عطية وقد شهد معرض القاهرة الدولى للكتاب-الذى يختتم أنشطته غدا- ظهور هذا السيرة وتدشينها، وقد حاول فيها ناقدنا الكبير الراحل د.صلاح فضل أن يقدم خلاصة تجربته الثرية، ورحيق خبرته المتفردة، وقد  رحل المؤلف  عن عالمنا قبل أن يرى كتاب سيرته الموحد النور ، ولكن عزاء تلاميذه ومحبيه تمثل فى أن يتحقق ما كان يرجوه الناقد الكبير ليستفيد الملايين من خبراته، وتجاربه، وتلميذه القريب من قلبه د. رضا عطية الذى أشرف على إصدار السيرة .. خص «الأخبار»  بعرض الكتاب الصادر عن الدار المصرية اللبنانية  عبر السطور التالية :

«صلاح فضل.. سيرة نقدية» كان هذا هو العنوان الذي اختاره أستاذى شيخ النقاد العرب د. صلاح فضل للكتاب الذي شرع فى جمع سيرته الحياتية والفكرية ورحلته مع الأدب والنقد فيه، حيث أراد - بحسب وصيته لى ولناشره محمد رشاد - أن يجمع فصول سيرته المنشورة في كتابين هما: عين النقد (طبعة أولى 2013، وطبعة ثانية مزيدة 2018)، وصدى الذاكرة (طبعة واحدة فى 2021) فى كتابٍ واحد تحت هذا العنوان: «صلاح فضل.. سيرة نقدية»، وكأنَّه يرى سيرته الحياتية والفكرية هي ممارسة للنقد؛ كتابة الذات لسيرتها، إذ تمارس نقدًا ذاتيًّا على نفسها قبل الآخرين، فضلاً عن ممارستها النقد على معطيات الحياة، وظواهر الوجود، وأحداث التاريخ، والمواقف، والتجارب، وهذا ما يرتبط عند «فضل» بفعل المساءلة، حيث يقول: «تعوَّدت على مُساءلة نفسي منذ الصَّغَر قبل أن أخضع لمحاسبة الآخرين وتقييمهم».

ومما يكشف عنه «فضل» في تطبيقه أسلوب النقد الصارم على نفسه تخليه عن حلم أن يكون شاعرًا، فيقول: «كنت أعتقد أنني لا بد أن أكتب الشعر مثل أبي، لكن ما أكتبه لا يعجبني، آخر قصيدة كتبتها في مطلع الخمسينيات كانت لتهنئة الملك فاروق على زواجه من «ناريمان»، طبَّقت فيها الحيلة البديعية الحرفية في تكوين اسم الملك من مجموعة حروف الأشطر الأولى، واسم الملكة من حروف الأشطر الثانية، وألقيت على نفسى سؤالاً خطيرًا: هل يمكن أن أكون أشعر من شوقي؟ كان هو مثلي الأعلى الذي أحفظ ديوانه كاملاً، إلى جانب دواوين أخرى أقل منه في تقديري حينئذٍ، لم أكن قد اكتشفت مسرحياته، ووصلت لنتيجةٍ قاطعة : لم أتفوَّق عليه، وقررت وأد الشاعر فىَ».

وتمر سيرة «صلاح فضل» بمراحل حياته المتعددة ومنها بالطبع مرحلة النشأة والتكوين، وشعور اليتم والفقد، حيث فقد أباه، وهو فى الرابعة من عمره، ومع إصرار جده على إلحاقه بالكتُّاب، وسلوكه في خط التعليم الأزهري ليعوَّض والده يكشف عن صراع الخيارات المتقابلة الذي عاشه فى طفولته؛ فيقول: «صعدتُ لمنبر القرية وأنا في الحادية عشرة من عمري، وألقيت خطبة الجمعة، وقبَّلَ المُصَلُّون يدي، وحُرِّم عليَّ حينئذ أن ألعب بكرة الشراب فى شوارع البلدة، أو أسبح عاريًّا فى الترعة، أو أرمق الشغف في عين إحدى البنات؛ فقد صرتُ شيخًا لا ينبغي له سوى الجد والاجتهاد»، ودومًا ما يكشف «فضل» عن صراع مثل هذه الثنائيات، أو الأنماط المتقابلة، والأساليب المتضادة التي واجهته فى رحلته الحياتية والمعرفية، فكان انحيازه الدائم إلى خيار الحداثة والميل إلى روح العصر، مثلما كشف عن ذلك الصراع المحتدم الذي عاشه وعاينه بعد التحاقه بكلية دار العلوم أواخر خمسينيات، وأوائل ستينيات القرن الماضي، حيث الصدام، والتنافس الذى كان على أشده بين نمطي: ثقافة وأسلوبي تعليم، وطريقتى حياة، بين الحداثة ، والمعاصرة من ناحية، والتمسك بالقديم، والتراث دون غيره من ناحية أخرى.

كانت أمنية «صلاح فضل» المعيد آنذاك بدار العلوم أن يسافر بعثة دراسية إلى فرنسا، وتحديدًا باريس، عاصمة النور، ليسير فى درب «طه حسين» و«محمد مندور» ، ويقتفى آثار خطاهما، لكن حالت الأقدار دون رغبته تلك، وحصل على منحة دراسة فى إسبانيا، فجاهد «فضل» لتعلُّم اللغة الإسبانية، التى لم تكن رئيسية في مؤلَّفات الأدب ، والنقد لكتابهما الكبار، لكن كانت تُترجم إليها أحدثُ المؤلَّفات من لغاتها الرئيسية، وتكشف سيرة «صلاح فضل» عن تفرد تكوينه الشخصي، واقتداره فى رحلته إلى الغرب على استيعاب أحدث منجزات الحداثة النقدية من ناحية ، والاعتداد بجذوره المنتمية إلى وطنه مصر، وثقافته العربية، حيث مزَّق مخطوط ترجمته لكتاب الألف للأديب الأرجنتيني، «بورخيس»، بعد أن قرأ فى الصحف الإسبانية عقب هزيمة مصر والعرب فى يونيو 1967 بأنَّه قد توجَّه إلى السفارة الإسرائيلية فى «بوينس أيريس» لتهنئة العدو الصهيونى بانتصاره على من وصفهم بالعرب البرابرة، كما يجلى «صلاح فضل» عن دوره فى بعثته الثانية إلى إسبانيا حيث عمل مستشارًا ثقافيا لمصر فى مدريد، ومديرًا للمعهد المصري للدراسات الإسلامية هناك، على مد جسور التعاون الثقافي بين الثقافتين العربية والإسبانية، كما يكشف «فضل» عن رحلته إلى المكسيك فى النصف الثانى من سبعينيات القرن العشرين، ولقائه بالروائى العالمى «جابريل جارثيا ماركيز»، وتعرفه على أدب الواقعية السحرية، فكان «فضل» أول من قدم هذا اللون من الكتابة ، وأول من قدم «ماركيز» إلى القارئ العربي فى كتابه «منهج الواقعية فى الإبداع الأدبي» الصادر فى العام 1978، أي قبل حصول «ماركيز» على جائزة نوبل بأربع سنوات، ومن الجوانب المهمة في سيرة «صلاح فضل» اشتغاله بالعمل العام ، وخصوصًا العمل الوطني، فيتعرض لدوره المدافع عن حرية الإبداع من تسعينيات القرن العشرين تأثرًا باعتداء جماعات التطرف الظلامى على نجيب محفوظ فى العام 1994، واغتيالهم الكاتب التنويري فرج فودة فى العام 1992، وتفريقهم بين نصر حامد أبو زيد وزوجته، لكن الدور بالغ الأهمية لصلاح فضل كان فى أعقاب يناير 2011، ومشاركته فى حوارات مؤسسة الأزهر الشريف مع المفكرين والمبدعين ودفاعه عن مدنية الدولة، كذلك مساهماته في لجنتين لكتابة الدستور المصري الأولى فى 2012 عقب وصول جماعة الإخوان المسلمين المتطرفة إلى الحكم وكشف عن مراوغاتهم المتعددة فى الأخذ بآراء المفكرين والممثلين لما ادعوه من أطياف المجتمع المتعددة.