«سيناء عتبات الجنة 101».. 9 قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل

 محمد نبيل
محمد نبيل

إهــــــــداء إلى المصريات ..

الأم التي تدعوا لفلذة كبدها بالحياة الأبدية وهى تعلم الحقيقة!

.. الزوجة التي تحمل جنينا لن يرى والده أبدا وتتحول  رجلا (!)

الابنة التي ترفع رأسها فخرا لذكرى والدها…

من أجل الوطن ...

 

 

«العملية»


بعد غياب أكثر من شهر ونصف؛ يعود يوسف لشارعه فى إجازة لمدة خمسة أيام، ويسلم عليه كل المارة فى الشارع، والجالسون أمام محلاتهم، ويتلقفه مرسى: أهلًا بالبطل.. مرحبًا.
ويندهش يوسف من المقابلة الحارة غير المبررة من شخص يعلم أنه يقيم على فترات متقطعة بالشارع، إنما لا بد من مبادلة المجاملة بمثيلها.. هكذا اتفق مع نفسه أثناء كلام مرسى الذى لم ينتبه إليه يوسف، واعتذر له لضرورة السلام على أسرته.
وقاطعه مرسى: طبعًا، والعروسة كمان.
انصرف يوسف مسرعًا لصدر والدته أسيرة الفراش منذ الواقعة الأليمة تحاول النهوض، إنما المرض غالب، فيقف أمام باب الغرفة لبرهة ثم يندفع إليها مقبِّلًا يديها ورأسها: وحشتينى يا أمى.
وتبادله هى القبل: وأنت يا ضناى واحشنى.. ياما أنت كريم يا رب.. الحمد لله يا رب احفظه. وتتحسس بيدها كل جسد وليدها لتطمئن قلبها على سلامته من أى سوء.

ويأتى الوالد مسرعًا للسلام على ابنه، ثم نورا الجميلة التى تملأ البيت زغاريد بعودة يوسف، وتسمع تلك الزغاريد عزيزة فتتصل بفاطمة دون أن تتأكد من وجود يوسف.
ترتبك فاطمة قليلًا ثم تتماسك وتدَّعى أن صداعًا ألمَّ برأسها، وتطلب من أمجد الذئب الولهان أن يحل محلها، وينتهز هو الفرصة للاستجابة السريعة طبعًا ويعرض توصيلة، إلا أنها تطلب منه أن يتصل بسيارة القناة لتوصلها للبيت، وأثناء وصولها تحاول ضبط إيقاع تصرفاتها؛ بخاصة فى الشارع حتى لا يلحظها مرسى الذى علمت عنه أنه من المساهمين فى القناة، وهى تُشعِر القناة بعدم الود الجارف تجاه خطيبها.

وعند وصولها أمام منزلها تنزل من السيارة -مدعية التعب والإرهاق- أمام المنزل الذى اشتراه مرسى وحوَّله إلى مول تليفونات وأجهزة إلكترونية. ومجرد وصولها لشقتها تتصل بيوسف ليأتى إلى منزلها.
مسكينة تلك العاشقة التى تحمل داخلها حبًّا جارفًا ليوسف، وثأرًا ملتهبًا لمرسى، وإيمانًا بمهمة مكلفة بها دفعتها الظروف لتؤديها.. هذه النحيلة التى ضن عليها القدر بحقها فى إظهار مشاعرها تجاه كل المحيطين بها.
وحين تسمع خطوات يوسف تسرع إلى الباب لفتحه ومقابلة الأمل المتبقى لها فى هذه الدنيا.. يطلق يوسف يده لتحتضن يد فاطمة، فيخبرها السلام أن أشياءً قد تغيرت فيهما؛ الحب ما زال دافئًا، إنما مع صغر سنهما إلا أنهما كشباب جيلهما كبرا قبل الأوان، وتحملا كثيرًا فوق طاقتيهما؛ فما بقيت عين يوسف لامعة كما كانت، وحل الاضطراب مكان الأمل فى عين فاطمة.
كلاهما تحدثا طويلًا واشتكيا لبعضهما البعض من مرارة التجربة، ولم ينطقا حتى الآن بكلمة واحدة.. بكت فاطمة وارتمت فى أحضان محبوبها متسائلة، وكأنها تختصر حالتيهما: (ليه كل ده؟)
ويجيب يوسف بعد تردد: (القدر) لا مفر منه.
ويبدو أن الاثنين أصبحا من الفلاسفة أو الحكماء؛ فخلال الخمسة والأربعين يومًا تعلما الكثير، وربما أول درس كان (الوطن).
يوسف يمسك بيد فاطمة متجهًا للكنبة الكبيرة ويجلسها واقفًا أمامها، سارحًا فى ملامحها، يتفقدها كما كان يتصورها كل ليلة فى العريش، وبعد تنهيدة عميقة يطلق رسالته الحبيسة على مدار ما مضى: (وحشتينى يا فاطمة).
فاطمة تبكى: ياااه يا يوسف، قوتنى بعد ما كنت حضعف.
يوسف مندهشًا يحرك رأسه باستفسار.. 
فاطمة: سيبك سيبك منى، احكِ لى، قل لى كل حاجة عملتها من ساعة ما سيبتنى امبارح.. امبارح! وتضحك.
ويتردد يوسف وأخيرًا يبادلها الابتسامة.
فاطمة: ما لك يا يوسف متغير أوى؟!
يوسف: دفنت الفرحة مع زمايلى الشهداء ووعدتهم أرجعها لما آخد تارهم أو أسكن جوا تراب سينا.
فاطمة تضع يدها على فمه: ليه يا يوسف.. أنا ما ليش غيرك.. أبويا وأمى وأخويا.. أنت يا يوسف عايزنى أموت أنا كمان.
يوسف: بعد الشر عنك يا بطة.
ياااه يا يوسف.. بطة ما سمعتهاش من كتير أوى.
يوسف: أنا عازمك على الغدا برة فى أى مكان تحبيه.
فاطمة: بجد يا يوسف.. أى مكان؟!
يوسف: طبعًا.
وتمسك فاطمة بيده ليخرجا، ويجذبها بلطف: فين بس؟ فين عايزة تروحى يا بطة؟
فتلتفت إليه: عند الست أم الشهيد يسرى.. نفسى أوى أشوفها. ياللا بينا يا يوسف.
تخرج عزيزة إليهما: يعنى مش حتتغدوا معايا؟!
فيقبل يوسف رأسها ويقول: أنتِ فعلًا عظيمة يا طنط عزيزة.. ادعى لنا.
وترفع يد يوسف من على باب الست أم الشهيد يسرى، وتطرق هى الباب ثلاث طرقات متتالية.
وتفتح لهما أم يسرى باسمة كعادتها، تحتضنهما معًا، إلا أن بطة أطالت العناق، وكأنها تستمد الطاقة منها.
يجلس يوسف وتقوم بطة تساعد أم الشهيد فى تحضير الغداء، وتبدأ فى محادثتها سرًّا لكل ما حدث لها بعد الزيارة الأولى لها، ولا تقاطعها أم الشهيد.. وبعد أن تنتهى من طرح سرها تمسك أم الشهيد بيدها قائلة: أنتِ صح.. على بركة الله يا بنتى كملى وما تخافيش وما تحكيش ليوسف عشان ما يقلقش عليكِ.
وبعد أن ينتهى يوسف من كلامه هو الآخر مع أم صديقه يودعها قائلًا: لو روحت ليسرى عايزة منه حاجة؟
فتبكى أم الشهيد قائلة لهما: يا ولادى قلبى ما عادش يستحمل تانى، كفاية خلوا بالكوا من نفسكوا وارجعوا لى تانى، اوعدونى ترجعوا تانى. وتطيل النظر فى عين يوسف وكأنها تحمله رسالة، وتجهش فى البكاء.
ويسألها يوسف: ماما ليه كده ما اتعودتش منك على الألم.. اضحكى عشان خاطرى.
فتقاطعه: خاطرك غالى يا ابنى، بس اللى شايفاه حابس الضحكة، مع السلامة يا ابنى يحفظك أنت واللى زيك.. مع السلامة.
وأثناء العودة يدور حوار صامت بين الخطيبين، ويبدو أن الرسائل قد وصلت تمامًا لكل منهما.
يوسف استشعر الثأر فى عين أم صديقه، وفاطمة تأكد لها استمرارها فيما تقوم به لكشف حقيقة الإعلام الفاسد القاتل للوعى والوجدان.
يعودا كل منهما يصعد لبيته، يتحاور يوسف مع نفسه أثناء صعوده السلم الذى اعتاد أن يسابق الزمن عليه، إلا أنه الآن يصعد ببطء شديد، يحاول أن يبدل ملامحه حتى لا تكشفه والدته التى لا يخفى عليها منه شيء.
وبطة تغلق باب حجرتها عليها حاملة همًّا لم تكن تتصوره من قبل.
وفى الصباح يلتقى مرسى متعمدًا طريق يوسف.
مرسى: اتفضل يا بطل لازم أديك هدية.. أنت تستحق كل الخير.. ربنا يحفظك أنت واللى زيك يا أخويا.. خد الموبايل ده هدية منى ليك، هات القديم ده، خد يا باشمهندس نزل الأرقام والرسايل اللى على القديم على الجهاز الحديث ده.
يقاطعه بلهفة يوسف: لا هات هات، إن كان لازم آخده أدفع لك تمنه وأنزِّل أنا البيانات بنفسى، معلش اعذرنى يا أستاذ مرسى.
مرسى: وهو كذلك يا حضرة الضابط، إنما اسمح لى أعمل تخفيض خمسين فى المية.
يوسف: مالوش لزوم، كفاية كرم أخلاقك.
يقاطعه مرسى: لا والله أنا حلفت، نفذت أوامر حضرة الضابط وأنت كمان مشى لى كلامى.
ويرد يوسف: لا أوامر ولا حاجة لا سمح الله، شكرًا يا سيدى، السلام عليكم.
وفى طريق يوسف إلى أصدقائه الذين تواعدوا أن يتقابلوا للتمشية والتسلية عن أنفسهم.. قاطع طريقه أحد عمال النظافة طالبًا حسنة لله.. وما إن وضع يوسف يده ببعض الجنيهات فى يد الرجل إلا وهمس إليه: حضرة الضابط خد بالك أنت متراقب.. خليك ورايا.
وردة فعل سريعة أبدى يوسف الأمر عاديًّا جدًّا، واستمر فى طريقه إلى أن أوقف أقرب تاكسى بجواره لاحظ اقترابه منه، فاستوقفه وركب فيه.
السائق: يا فندم ما تقلقش احنا معاك، من فضلك ما تحاولش تستخدم التليفون الجديد وسيبه على الكرسى، وأنت نازل خد العلبة فاضية.
يوسف: هو فيه إيه؟
السائق: عامل النظافة تبعنا ما تقلقش.. بعد ساعتين من الآن بالضبط هايجيلك تاكسى تانى مكان ما حنزلك، مع السلامة يا فندم، انزل هنا اتمشى وارجع بعد ساعتين.
ويقف التاكسى أمام سينما وسط البلد، ويتساءل يوسف ماذا يحدث ولماذا أمام السينما؟! مَن أعلم هؤلاء بأننى أحب السينما؟ طيب عمومًا فرصة أفكر باسترخاء داخل السينما لحد الميعاد.
وبمجرد دخوله قاعة العرض يبادر بالاتصال بقائده ليحكى له ما حدث، ويسرع القائد بأن ينبهه أن التليفون المحمول ليس وسيلة آمنة للتحدث، إنما يشعره بأنه على علم بما يحدث له ويطمئنه.
ويأتى إلى يوسف اتصال كان يحتاج إليه، وربما فى تلك اللحظة تحديدًا، إنه استشعر الاحتياج إلى سند وداعم له، فهذا الشاب ما زال فى مهد الخبرات، ولم يعتد التصرف فى هذا الموقف المفاجئ الذى أصبح ذات يوم وجد نفسه داخل أتون معترك لم يألفه آنفًا.
تليفونه الشخصى يرن وتظهر صورة الشهيد يسرى على الشاشة معلنة اتصالًا من والدة الشهيد، اندهش أولًا ونظر إلى السماء فى صلاة شكر على وصول المدد النفسى الفورى؛ فهذه الصورة لدفعته وصديق عمره الشهيد يسرى وتلك الأم الصلبة المعينة أتيا معًا لتأييده.. وبسعادة الملهوف يفتح خط المكالمة..
يوسف: الحمد لله إنك اتصلتِ يا ماما.
أم الشهيد: الحمد لله على كل حاجة يا ابنى.
يوسف: الأول أنتِ أخبارك إيه؟ وهل محتاجانى فى حاجة دلوقتى أقدر أعملها فورًا لكِ؟
أم الشهيد: لا الحمد لله يا ابنى، بس حسيت إنك واحشنى وافتكرت أخاك الشهيد يسرى، وكنت محتاجة أسمع صوته فكلمتك عشان أروى روحى بصوت ابنى التانى أخو الشهيد.
يوسف كاد أن يبكى وتتعثر الكلمات فى فمه: أمى لو تصدقى كنت أنا اللى محتاج أشوف يسرى دلوقتى أكتر منك، وكنت عايز أسمع صوتك.. ادعى لى يا ماما من قلبك المرة ديه أوى، محتاجلك أوى.
أم الشهيد وكأنها تستعجل إنهاء المكالمة خوفًا من دموعها التى حبستها حتى لا تخنق صوتها: مع السلامة يا ابنى، ربنا معاك. وتبادر على غير عادتها بإنهاء المكالمة.
تدور عينا يوسف فى المكان يرى ما ليس موجودًا حوله ويبتسم لوجه يحدثه متمتمًا: "أنت عارف إنك واحشنى يا يسرى جدًّا بس.. اااه شكل المعركة اتغير، وكمان ميدان الحرب بقى هنا..". ويتوقف عن حديثه لصديقه الشهيد وكأنه يتذكر ويردد ميدان المعركة.. المعركة.. صحيح أخبار الرجالة إيه، ده غريب انضم لمجموعات قتالية من فترة طويلة والمفروض إنه.. إنه يااااه يا رب احفظه.. ويتساءل باندهاش: "هى ليه الدنيا بتاخد اللى بنحبهم أوى؟.. ليه هما اللى يدفعوا التمن؟"، ويقاطع يوسف نفسه: إيه يا جو أنت خرفت ولّا إيه؟ اثبت يا حضرة الضابط ده ربك بعت لك تليفون أم الشهيد تأييد وتثبيت، تقوم أنت تخرف كده! ويخرج من عتاب نفسه بضرورة الاتصال بصديقه غريب.

اقرأ أيضا | « سيناء عتبات الجنة101».. 8 قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل


 

 
 
 
 
 
 

 

ترشيحاتنا