عبدالله إبراهيم يكتب : الكتابة باللّسان

طه حسين
طه حسين

اختلف البصيرُ طه حسين عن أقرانه المبصرين فى عاداتهم الكتابيَّة، فكان يُملى خواطره مجاريًا بذلك تقاليد العميان، فى وقت يباشرها المبصرون بأنفسهم، لكنَّ الاختلاف الأهمّ مصدره الحال التى كان عليها، فقد كان مشَّاءً فى الإفضاء بتلك الخواطر إلّا إذا أعاقه عائق، ومنعه مانع، وفى ذلك اختلف، أيضا، عن المبصرين الذين ينكبّون عليها جالسين، ولكنه مشَّاء ضرير يدبّ بحذر فى مكان معلوم رُسمت حدوده، وجرى التّعرُّف إليه بعون من سواه، فهو مكان أليف لا حاجة له فى إعادة اكتشافه. ثم أنه اختلف عنهم بنهج التأليف ومقتضياته، إذ كانوا يهتدون بخُطط تسعفهم فى ترتيب أفكارهم، أما هو فيبدأ بإملاء ما يخطر من دون انشغال بأفكار جاهزة، فيمضى فى الإملاء، ولا يراجع ما تفوّه به، ويريد من المُملى عليه مجاراته فى سرعته التى لا تعرف الإبطاء، وحالما تفرغ جعبته من خزينها ينصرف إلى أمر آخر، فهو يتطيَّر من العودة إلى الإصغاء إلى ما أملاه، وتأنف نفسه منه، فقد نفث بلسانه ما استقرّ فى حافظته وعقله، ولم يعد معنيًّا بما نطق به، فقلمهُ لسانهُ، ولا يتولّى اللسان إعادة النظر بما تلفّظ به. فكان من المنكرين لأيّة إضافة أو حذف أو تغيير بعد أن يفرغ من الإملاء.

من الصحيح أن طه حسين كان مكفوف البصر، ولكنه كان مطلق البصيرة، ونشطت حواسه فى بلوغ غاياته، فليس بالعينين وحدهما يحقّق المرء ما يصبو إليه، وكما قالت زوجته فى مذكراتها فقد كان «يرى بلا عينين». ولأنه كان فيّاض القريحة، فقد أسرف فى التأليف؛ تلبية لتلك المُكنة التى لا تتوفّر إلا لدى حفنة من أمثاله. وكان يستزيد فى الإصغاء للمصادر تُقرأ عليه بغير لغة من اللغات القديمة والحديثة، تولّى ذلك أهل بيته بداية من سوزان قبل الاقتران بها حتى حفيدته عشيّة وفاته، مرورا بمساعديه وطلبته طوال أكثر من نصف قرن، ودأب على إملاء أحاديثه حيثما كان خلال أسفاره الكثيرة إلى أوربا، وإبان وجوده فى مصر.

اقرأ أيضاً| منى الشيمى.. يوسف كمال فى رواية أخرى

والنظر فى الموروث الثقافى الغزير الذى خلّفه يرجّح أنه سلخ عمره فى النطق بمؤلفاته من دون تريّث. وفى كلّ ما ألّف، فإنما كان يتحدّث، ولعلّ وصفه بالحكّاء أنسب من نعته بالمؤلّف، وأحسب أنّ المجتمع الأدبى الذى خاطبه استجاب لأداء الحكّاء فيه أكثر من استجابته لأداء الكاتب.



لكلّ كاتب ظروف للكتابة تحيط به من مكان وزمان، واستعداد نفسى وعقلى، وأفكار وخواطر يريد التعبير عنها، ومصادر يستقى منها حاجته، وغايات يرجوها فى ما يريد تأليفه، فترغمه تلك الظروف على نمط الكتابة، أو أنه يذلّلها ويجعلها حافزاً للإفضاء بمكنون النفس والعقل.

وطه حسين مشمول بكلّ ذُكر، ولكنه مشمول، أيضا، بوصفه بصيراً بما زاد عليه؛ قصدتُ بهوية الكتابة، وبصيغتها الشفوية؛ فقد دأب على الحديث بالتناوب عن نفسه، والحديث إلى القارئ، وهو بارع فى الانتقال بين هذين القطبين، ثم أنه خاطر بإملاء سيرته الذاتية «الأيام» بضمير الغائب، وليس بضمير المتكلّم، وضمير الغائب يُبعد ولا يقرّب، ويُفصل ولا يُوصل، فكأنه يتحدّث عن شخص آخر غير صاحب التجربة، وهو لا يناسب كتابة السيرة الذاتية التى إن لم تقم على المكاشفة، والمكاشفة قاعدتها، فتوهمُ بها فى أقلّ تقدير، وضمير الغائب يقف حالا من دون بلوغ الاعتراف درجته المطلوبة فى السرد، ومع ذلك أخذ به فى تدوين سيرته، وأحسبُها مخاطرة موفّقة من مخاطرات الإملاء، ففيها انتبذ الراوى طه حسين مكاناً لنفسه غير مكان ذاته المتعثّرة فى تجارب الحياة، وراح يقلّب أحوالها غير عابئ بمقتضيات سياق استخدام الضمائر فى الكتابة السردية، وصرفها إلى ما لا تصرف فيه.    
ولو جرت معاينة منطق الكتابة فى سائر مؤلفات طه حسين، لظهر أنها تخالف معايير الكتابة الشائعة، وتطابق أعراف الكلام، فهو متكلِّم وليس كاتبًا، يكتب بلسانه، وماهية الكتابة عنده تتمثّل فى «تقييد المنطوق»وتأتى لاحقة للكلام، لأنّها تدوين له، فهو متحدِّث وسيلته الألفاظ المنطوقة، لا الأحرف المكتوبة، ولا يريد أن يتعثَّر بما يتكلَّم به، وعلى المدوِّن أن يلاحقه فى ذلك لتثبيت أقواله فى السياق الذى يتولّى إنشاءه. ودأبه الانصراف إلى حديث آخر حال الانتهاء من الحديث الذى على طرف لسانه، فهو غير راغب فى مراجعة الأوّل، ووضع خطّة للتالي؛ فكُتُبُه، فى أغلبها، أحاديث متدافعة أملاها فى ظروف مختلفة، منها «حديث الأربعاء» و«حديث المساء» و»أحاديث» و«من حديث الشّعر والنّثر». 

ولا يمكن للمتحدِّث أن يعيد لفظًا صدر عنه بالحروف نفسها، فالكلام ينفلت حال النّطق به، ولا يعود من حيثُ صدر، وذلك هو سرُّ الاستبداد الشّفوى فى تآليف طه حسين، فمجموعها استطراد لسانى لخواطر لها صلة بالموضوع الّذى يرغب فيه، وليس من همِّه التّدقيق فى قول، ومراجعة رأي، شأنه فى ذلك شأن المتكلِّم الّذى يتعذَّر عليه مراجعة كلام يُشافِه الآخرين به، فما أن يتلفّظ به إلّا ويكون قد انقضى أمره. وعلى الرغم من ذلك، فقد جاءت أفكاره دقيقة، وآراؤه منتظمة، والاستطراد الشّفوى فيها لا يخلّ بما تحمله من معارف، فيقدم على موضوعه وقد أحاط به، وتأهّب له، ثم يترك للسانه الحرّيّة فى طرق أبوابه، فينتقى الكلمات الفصيحة باتّساق عجيب، ويركّب الجمل البليغة الحاملة للمعانى المقصودة، والتّكرار فى أسلوبه مبعثه الرّغبة فى تثبيت الأفكار، واستدراج الآراء، وذلك، بأيّ حال، عُرفٌ لصيق بذوى الأبصار الّذين يهذّبون الأفكار بمزيد من التّكرار فى مؤلفاتهم.

وتؤكّد مؤلّفات طه حسين، ومنها سيرته، وسيرة زوجته، أنه كان وافر الهمّة فى الإملاء، عجولا لا يعرف التأنّي، فلا يكاد يتعثّر بمشقّة فى التأليف على الرغم من المشاقّ الجمّة التى لازمته ضريرا، وصاحب رأي، ولم يتفلّت من الصعاب إلا بوفاته، ومن ذلك، فقد أملى، فى عام 1926 الجزء الأول من كتاب «الأيام»فى تسعة أيام بقرية نائية فى منطقة «سافوا العليا»جنوب شرق فرنسا على الحدود مع سويسرا وإيطاليا، لكنّ مساعده، محمد الدسوقي، ذكر أنه أملاه فى ستة أيام، وهو عليل من جرّاء المشاكل التى نشبت إثر ظهور كتاب «فى الشعر الجاهلي»حينما أُقترح عليه الابتعاد عن مصر حتى تنطفئ شرارة الفتنة التى أثيرت حول الكتاب، وأدّت إلى فصله من الجامعة.

ثم أملى الجزء الثانى من الكتاب فى تسعة أيام، وذلك فى خريف عام 1939، وهو فى إحدى القرى الفرنسية. وبصعوبة بالغة جرى إنقاذ المخطوط بحقيبة جلد صغيرة دستها سوزان تحت ملابسها حينما نجحا فى الالتحاق بسفينة مصرية انطلقت، مخفورة بحماية، من مرسيليا الى الإسكندرية بعد أن اجتاحت ألمانيا بولندا، ثم أملى طرفا من الجزء الثالث من الأيام فى قرية بإيطاليا، وأكمله فى القاهرة عام 1953. وفيها كان طه حسين يتحدث عن نفسه لا يكتب عنها.

وفى السنوات الأخيرة من عمره، كانت أمنيته كتابة جزء رابع من الأيام يكمل به سيرته الذاتية، لكنه لم يفعل، أو لم يتمكّن من ذلك، ربما لتقدّم العمر به. ومن الطريف أنه حينما عزم على جمع الفصول التى نشرها فى مجلة الهلال من كتاب الأيام، تلقى النصيحة الآتية من صديق مقرّب له، هو عبد الحميد العبادي، الذى نهاه عن جمع ما نشره متفرّقا «لأنه لا يستحقّ أن يكون كتابا»، لكنه لم يصغ للنصح، وبذلك ظفر الأدب العربى بأحد أكثر كتب السيرة الذاتية أهمية وشهرة. أُملى طه حسين كتاب «الأيام»على دفعات ثلاث متقطعة، ولكن الوقت الذى أملى فيه كلّ جزء كان قصيرا جدا، فهو غير هيّاب من المخاطرة فى القول، ولا ينظر إلى التأليف بخوف، إنما يُقدم عليه بجسارة، فتنفتح له الأبواب كلها، وتتفتّق ذاكرته عما اختزنت من تجارب وخبرات. ويشاع أنه كتب رسالته للدكتوراه عن أبى العلاء فى غضون ستة أشهر. وذكرت سوزان أنه أملى كتاب «فى الشعر الجاهلى» فى الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1926 «وكان يعمل به فى النهار، ويحلم به فى الليل».



وإذ يمكن قبول استرسال طه حسين فى الحديث عن نفسه مدة أسبوع أو أكثر، فهو يستعيد تجارب طفولته، ولا كبير عناء فى إعادة بناء تجربة ذاتية، لأن حياة المتحدّث هى ذاتها مضمون تلك التجربة، وهو لا يأتى بالكلام من خارج ذاكرته، ولكن الخوض فى أمر شديد الوعورة كالذى طرقه فى كتابه عن الشعر الجاهلى يختلف بالقطع عن أمر السيرة الذاتية، ذلك أنه خاض فى القرآن، وفى الحديث، وفى الشعر، وفى القصص، وفى التاريخ، وفى الفلسفة، وفى السياسة، وفى رواية الشعر والنثر، واستخلص آراء جعل منها نظرية لم يُسبق إليها إلا فى شتات الأفكار عند بعض القدماء وعند بعض المستشرقين، فيكون قد تجاسر على إعادة تركيب رواية الآداب العربية القديمة بغير ما رويت عليه من قبل، وجعل لسانه ينطق بأكثر الأمور إثارة للحساسية، ما أوقد فتيل الضغائن عليه، وفى مقدمة ذلك صلة الأدب بالدين، والارتياب بمحتوى الذاكرة الشعرية قبل الإسلام. والإحاطة بكلّ ذلك، ونطق به فى حديث متواصل لم يستغرق غير أشهر قليلة، بما فى ذلك طباعة الكتاب، يبدو من قبيل المحال، إلا إذا كان قد استقرّ محتوى الكتاب فى حافظته قبل ذلك، وإبان تدريسه للأدب الجاهلى فى الجامعة. على أنه داوم، فى تضاعيف الكتاب، على التشكّى من ضيق وقته، فلو توفّر له أكثر من ذلك لأوفى الموضوع حقّه. وفى جميع الأحوال، فلا فائدة ترتجى من مقارنة طه حسين بالآخرين، ليس لأنه الأفضل من سواه، ولا الأكفأ بينهم، إنما لتفرّده فى طريقة تأليف تستعصى على الغالبية العظمى من البصراء والمُبصرين.



 وللكتّاب طريقتان فى النّظر لمؤلّفاتهم، أغلبيّتهم الغالبة ترضى بما انتهت إليه، وتدافع عن ذلك إذا لزم الأمر، وأقلّيّة قليلة تظهر عدم الرّضا، وترتاب بما انتهت إليه، وتجعله موضوعاً للمساءلة، وأحسبُ أهل الفئة الأخيرة من ذوى السّجايا الفاضلة، والنّادرة بين الكتّاب، فالتّسليم بكلّ ما استخلصه المؤلّف ينتهى به إلى خداع نفسه، وتوهّم الصّواب فى كلّ ما يصدر عنه. ولعلّ طه حسين من بين القلائل الّذين أظهروا تبرُّمًا بما كتبوا، فتوارى رضاه عمَّا ألّفَ فى كثير من المرَّات، وباعثُ ذلك طريقة الكتابة المتيسَّرة له، وهى طريقة الكاتب الّذى يؤمن أنّه لم يستوف الموضوع حقّه، أو أنّ الظّروف الّتى أملى فيها كتابه لم تكن مؤاتية، فضلًا عن نازع الشّكّ فى ما ينتهى إليه، ورغبته فى وضعه موضع النّقد، فقد صرَّح فى ثنايا «حديث الأربعاء» قائلا: «ما تعوَّدتُ الإعجاب بشيء أكتبه».

وما راق له الكتاب، وقد استكثر عليه أن يكون كتابًا أو سِفرًا، فما طوته الأحاديث دون ذلك. وهو لا يحبّ أن يقرأ عليه ما يمليه. وأورد الدسوقى فى كتابه «أيام مع طه حسين»إنّ العميد قال له «من عادتى أن كلّ ما أكتبه أرسله إلى المطبعة دون النظر فيه مرة أخرى»، وعبّر مرارًا عن عدم رضاه عن مؤلفاته «لم أرض يوما عن نفسي، وأنا غير راض تماما عن كل ما كتبت. وكلما فرغت من كتاب وتم طباعته أهملته إهمالاً لا حدّ له» وإلى ذلك «ما راجع نصا كتبه، وما رضى عن كتاب ألّفه». وحجّته أن الكتابة على السجية لا حاجة بها إلى المراجعة. 

وتردَّد طه حسين كثيرًا فى الاختيار بين أن يكون «حديث الأربعاء» كتابًا أو سِفرًا، وترك أمر  الحسم للقارئ، لأنه لم يرتقِ إلى رتبة الكتاب الّذى يريد، بل تمحَّل فى إلصاق الصّفة به تمحُّلًا «أسمّيه سِفرًا لا لشىء إلّا لأنَّه مجلَّد يجمع طائفة من الصُّحف قد ضُمَّ بعضها إلى بعض، فأنت تستطيع أن تسمِّيه سِفرًا، وأنت تستطيع أن تسمِّيه كتابًا، لأنّ هذه التّسمية صحيحة صادقة من الوجهة اللُّغويَّة الخالصة، وهى إن صحَّت وصدقت من هذه الوجهة، فليست صحيحة ولا صادقة بالقياس إلى الصّورة الّتى أتصوّرها لما أسمِّيه بحقّ سِفرًا أو كتابًا». جهرَ طه حسين بأنه أمين على أعراف التأليف عند العرب، فمفهوم التأليف عندهم هو الجمع، والتصنيف، والصهر، وليس الابتداع، والابتكار، والاختلاق. ثم أن الاسترسال شائع فى ذلك التأليف لأنه يقوم على جمع الأخبار أو الأشعار فى صحف، وسيّد ذلك الضرب هو الجاحظ، الذى يُطرب للإسهاب، ويعجبه الاستدراك، ويقارب الفكرة من غير مكان، ومع أنه لم يكن ضريرا، فكتابته أشبه ما تكون بإملاء العميان، وقد احتذى طه حسين حذوه فى ذلك، فالشفوية نسق مهيمن عند الاثنين بصرف النظر عن جحوظ العينين أو انطفاء مائهما.

فعلا، لفت طه حسين النظر إلى أمر مهم، فما الفارق بين السِفْر والكتاب إن لم يكن الحجم، وطريقة التنظيم؟ فالسِفر هو الكتاب الكبير، أمّا الكتاب فهو الصّحف المجموعة بكتاب. وذكره لذلك لا يخلو من قصد غايته التنبيه؛ فحديث الأربعاء من جهة حجمه سِفر، إذ إنّه فى ثلاثة أجزاء، وهو كتاب، إذا أخذنا فى الحسبان، أنّه أحاديث مجموعة بين دفّتيْن. وفى الحالتيْن صرّح صاحبه بعدم رضاه عمّا تحدّث به، وأمسى متنا مطبوعا بين أيدى القرّاء بعد أن شاع ذكره فى الصّحف السّيّارة.

فقد وجد أحاديثه قاصرة عن أن تكون سِفْرا أو كتابا، بالمعانى الّتى يتصوّرها عن الأسفار والكتب، ولعلّه تردّد قبل أن ينعته بالأحاديث، فذلك أصله وفصله، وهو، على أيّ حال، ما أنكر ذلك. ولكن بدا عليه، وكأنَّ الكتاب أحاديث خرجت على رغبة صاحبها الّذى هذَّها فى لحظات متعجِّلة فى أوقات متناثرة لم يخطر له أنّها يمكن أن تكون كتابًا يُشار إليه بالبنان بعد ذلك. 

يعانى المؤلّفون من وضع خطط متماسكة لبناء الكتب الّتى يعكفون على تأليفها، وغالبا ما يخرجون عليها فى ضوء تدفّق الأفكار، وتدافع الخواطر، وينتهى الأمر بكتاب غير ممتثل لخطّته الأصليّة، ربّما يكون قريبا منها، ولكنّه ليس امتثالاً حرفيًّا لها. ذلك ما يخص الكتب المدوّنة من قِبل أصحابها واضعى الخطط لمؤلّفاتهم، فكيف بكتب يشافه بها أصحابها المدوّنون من دون خطّة سابقة تحكم مسار الكتاب من أوّله إلى آخره، بل هو من خطرات اللّسان والذّاكرة الّتى تتشعّب، فلا ينتظمها ناظم يحافظ عليها من البداية إلى النّهاية، وتنعطف إلى حيث تكون خاطرة ما قد خطرت، أو تميل إلى حدث استعادته الذّاكرة فى لحظتها؟ ذلك أمر ليس هيّنا، فالكتابة تتعرّج، وقد تشذّ عن غايتها، وتشتقّ لها دروبا غير مطروقة، ولم تخطر على بال أصحابها؛ فلا عجب أن تكون كتابة البصراء أشبه بالأحاديث، لأنها من الأحاديث، فيها تكرار، وفيها تداخل، وفيها استدراك، وفيها توضيح، وفيها استشهاد، وتفتقر للتّماسك، وهي، فى أغلبها تجميع لأحاديث متفرّقة أُدرِجت فى مؤلّف بعد تدوينها، وذلك لا يعيبها، فللكتابة طرائق كثيرة، ومن الصّعب المفاضلة فى ما بينها، وطريقة البصراء إحداها.

وعودة إلى «حديث الأربعاء»، ومحاولة مؤلّفه النّيل منه بأية طريقة، مع أنّه اتّخذ مكانته كتابا رائدا فى الآداب العربيّة الحديثة، فوجْه النّيْل أنَّه ضمَّ بين دفّتيْه أحاديث جاءت على دون ما يتصوّره صاحبها: «لم أتصوَّر فصوله جُملة، ولم أرسم لها خطة معيَّنة ولا برنامجًا واضحًا قبل أن أبدأ فى كتابتها، وإنّما هى مباحث متفرِّقة كُتبتْ فى ظروف مختلفة، وأيّام متقاربة حينًا ومتباعدة حينًا آخر، فلا تجد فيها هذه الفكرة القويَّة الواضحة المتَّحدة الّتى يصدر عنها المؤلِّفون حين يؤلِّفون كتبهم وأسفارهم». اعتراف جَسور بقصور جملة من الأحاديث الّتى اندرجت فى كتاب ما حسب مؤلّفه أنّه جدير بالاهتمام، وأوّل عيوبه، فضلا عن غياب الخطّة الحاكمة له، غياب الوحدة الموضوعيّة التى ترتقى به كتابا جديرا بالتقدير، فهو كشكول رمى فيه صاحبه أحاديث حول كلّ شاردة وواردة من أشعار العرب، وإذا به ينتهى كتابا يُشار إليه بالبنان فى موضوعه. ومضى يعترف بضعف على ما صدر عنه، فلولا قريحته ما كان للأحاديث فرصة أن تتراكم، وتجتمع فى مؤلَّف يجعل منها كتابا: «مهما أكن قد تكلَّفت فى هذه الفصول من جهد ومشقَّة، فإنّى لم أُعْنَ بها العناية الّتى تليق بكتاب يعدُّه صاحبه ليكون كتابًا حقًّا». كاد أن يجرّم ذاته على ما اقترفه من إثم فى تأليف كتاب «حديث الأربعاء». فقد بخسه حقّه، أما القرّاء فأجزلوه الثناء.

لستُ على بيّنة أن كان طه حسين يوبّخ نفسه أم يقرّظها على تأليف «حديث الأربعاء» فقد انتهى إلى القول بأنّ فصوله ليست من هوية الكتاب فى شيء، لولا أنّها ترجع إلى مؤلِّف واحد، ويجمعها إطار عن بعض شعراء الدّولتيْن الأمويَّة والعبّاسيَّة، شعراء أسرفوا فى مجون الحياة، وفى طلب اللّذّة الدنيوية، وانطبع ذلك فى أشعارهم، فهى ممثلة لأحوالهم، وغاية ما كان يرجوه جَمْع أحاديثه فى سِفر بأجزاء، لكنّه استدرك على كلّ ما ورد ذكره من انتقاص للكتاب، وذلك بأن شدّ الزّمام بعد إرخاء طويل، فقد تبيّن له أنّ تلك الأحاديث قد «جلت ناحية من نواحى تاريخ الأدب العربى لم تكن واضحة ولا بيِّنة»، وأنَّها عَرضتْ «ضربًا من مناهج البحث أحسبُ أنّ الأدباء لو يفهمونه لاستطاعوا أن يستغلُّوا هذه الكنوز القيِّمة الّتى لا تزال مجهولة، والّتى نشأ من جهل النّاس إيّاها غضُّهم من الأدب العربي، وانصرافهم عنه فى أنفة وازدراء»، فكتابه، إذًا، فريد فى بابه، على الرّغم من سقطاته وعيوبه، إذ ألقى ضوءا ساطعا على منطقة معتمة فى الأدب القديم لم تكن واضحة للعيان، ولم تلتفت لها إلّا حفنة من الباحثين، وذلك وحده ليس بكافٍ، إنّما مصدر فرادته، أنّه جاء بمنهج جديد يكون نافعا لو أُخذ به فى دراسة الأدب العربي، فهو يبدّد الجهل بقيمة ذلك الأدب، حيث لا يبقى مرذولا، يزدريه النّاس، وينصرفون عنه، فمؤلّفه ينقّب فى كيفية تسّلل أحداث الحياة إلى الأدب، أى فى كون الأدب مرآة للحياة، ويحسب أن تلك وظيفة الأدب.




بدأ طه حسين بذمّ كتابه، وانتهى بتقريظه، وذلك هو جوهر الاستدراك الّذى يتميّز به أسلوبه، فغايته تلافى الإقرار بالعيوب، وإن مرّ عليها فى البداية، كأنّها من الحقائق الثّابتة، فإنّما لكى ينقضها فى النّهاية، ويجعلها ذكرى بعد عين. فكلّ استدراك غايته الارتياب بأمر ما، وتصويب ما قيل فيه، وتحاشى الإقرار بما فيه من عيوب، وذلك ما كان يرجوه، لكنّه لم ينكر شعوره بتشتّت أحاديث كتابه، وعدم اتّساقها. ومعلوم أنَّ أصل الكتاب بأجزائه الثّلاثة، هو الأحاديث الّتى نشرها فى بعض الصّحف السّيَّارة يوم الأربعاء على غرار ما كان ينشره الناقد الفرنسى «سانت بوف»من مقالات فى يوم الاثنين فى إحدى الصّحف الفرنسيَّة نحوًا من عشرين عامًا فى خمسينيّات وستّينيّات القرن التّاسع عشر، وجُمعت بعنوان «أحاديث الاثنين»، وعُدِّت أحد مراجع الأدب الفرنسي، كما عدّ كتاب «حديث الأربعاء» مرجعا فى الأدب العربى القديم. 

لكنّ طه حسين نهج نهجاً طريفاً، النهج القائل بأنّ الكمال فى النقص، فمادام كتابه ناقصا فى شروط تأليفه، فهو شبه مستوف لموضوعه، إذ لم يتأتّ لمؤلف يشار له بالبنان أن قال إنه أغلق باب موضوعه بكتاب واحد، فالتأليف فى سيرورة دائمة، وغالبا ما يأتى موعد نشر الكتاب قبل الفراغ النهائى منه، ولكنه خاض طولا وعرضا فى موضوعه. فلا عجب أن اعترف بأنّه لم يولِ أحاديثه الشفوية العناية المطلوبة «أعترف بأنِّى ما كتبت منه فصلًا إلّا وأنا أعلم أنَّه شديد النّقص، محتاج إلى استئناف العناية به، والنّظر فيه، مُستحييًا أن أقدِّمه إلى النّاس على ما فيه من نقص، وحاجة إلى الإصلاح». وبصرف النّظر عن رأيه بكتابه، وربّما يكون قد جارى القدماء فى النظر إلى مؤلّفاتهم، فيبخسونها حقّها من باب «تواضع العلماء»، فالكتاب جدير بأن يصطفّ إلى جوار المؤلّفات المميّزة فى بابه، حيث لا ينقصه طموح التّأليف الموسّع الّذى أحاط بموضوعاته، واستوفاها حقّها فى العرض والتّحليل بأسلوب شائق.

عزف طه حسين عن الاهتمام بما كان يتحدَّث به فى غير انتظام ودقَّة، ولم يُعجبه شىء صدر عنه فى أحاديث الأربعاء، ولكنّه ما رغب فى تعديل شيء منه، فجاء كتابه، ومعظم من كتبه الأخرى، استرسالًا غير خاضع لخطّة مبيّتة، وإعداد مسبق، كما صرَّح بذلك غير مرة؛ إذ إنّ شروط الحديث الحيّ دفعت بمعايير الكتابة الدّقيقة إلى الوراء، فما صدر عنه تأليف لفظى لمجموع من الأفكار، والمعلومات، والآراء، والخواطر فى ساعتها، ممّا لا يوافق معايير الكتابة البحثيَّة الّتى تقصد إثبات حجَّة أو إبطال مسلَّمة بقواعد متينة من البحث المنهجي، ممّا دعا صاحبه إلى هجر ما كان يدوَّن عنه، إن لم نقل إلى نبذه. فلم يحتفِ به، بل عزف عنه، وتركه لحاله كما جرى تدوينه أوَّل مرَّة من قِبل كاتبه، وكما ظهر متناثرًا فى الصّحف السّيَّارة. وتفسير ذلك: خضوعه، كاتبًا ضريرًا، إلى نظام الكلام، وجهله بنظام الكتابة، فقد حال كفافه دون معرفة النّظام الكتابي، الّذى لم يعدْ تابعًا للكلام، كما نظر القدماء إليه، فى عصر السّيادة الشّفويَّة، إنّما حلَّ محلّه فى تمثيل العالم بأفضل ممّا يقوم به النّظام الكلامى. ينطبق المعنى اللُّغوى للمؤلِّف على طه حسين، فالتّأليف، فى العربيّة، وصل الأشياء، والتنسيق بين الأطراف، وليس فى دلالة اللّفظ شيء من الابتكار.

على أن طه حسين كان قد نقض، مُرغما، تلك القاعدة فى التأليف، وقوامها الإبقاء على ما تحدّث به، وعدم تبديله، إذ، انثنى عزمه إزاء الحملة الشعواء التى شنّها عليه رجال الدين وأتباعهم من دارسى الآداب العربية إثر صدور كتاب «فى الشعر الجاهلى» لما حسبوه نقضا لدين الإسلام وشعر العرب، وأبعدوه عن الجامعة، واضطر إلى مغادرة بلاده، فكان أن غيرّ كلمة واحدة فى عنوان الكتاب، وجعله «فى الأدب الجاهلي»، وأزال عنه ما أثار خصومه فى المقدمة، وما عدّ قرينة على عدم إيمانه، وإن كانت الجامعة قد اقتنت النسخ المتاحة من الكتاب الأصلى لتحول من دون شيوعه بين أيدى خصومه، فإن فتنة الكتاب بقيت متقدة لقرن من الزمان، ولم تُعد طباعته فى مصر إلا بعد وفاة مؤلّفه بعقود عدّة. ولا تثريب عليه فى التغيير الذى أجراه فى تمهيد الكتاب، فقد تعرّض بسببه للتكفير، وطرد من عمله، وفرّ من بلاده، وهدّد بالقتل، وكما ذكرت سوزان فعلى أعقاب «ثورة الجهل والتعصّب» وضعت حراسة مشدّدة لحمايتهم من الأذى، ورابط رجال الأمن عند بوابة الدار عدة أشهر.

وما دمتُ وقفت على النزوع الشفوى فى مؤلّفات طه حسين، فلا مفرّ من المرور بعجالة على المنازعة بين الكلام والكتابة فى التأليف، فمفهوم التأليف الشّفويَّ يقتضى بذلك، إن لم يرغمنى عليه، فالمفاضلة بين الكلام والكتابة، ووظيفة كلّ منهما موضوع استأثر باهتمام أفلاطون فى محاورة «فايدروس» وقد انتهى فيها إلى اعتبار الكتابة تابعًا للكلام، فكأنها فضلة، فهى تتولّى تقييده، وتجعل منه قابلا للفعل، وبذلك تكون ملحقة به، فلا هوية لها من دونه، وجاراه فى ذلك «روسو» فى كتابه «بحث فى أصل اللُّغات»الذى طرق الموضوع بما انتهى أفلاطون إليه، وربطه باللغات، وأصولها، وموقع الكتابة فى خارطة التأليف، وتسّرب أثر ذلك إلى «دى سوسير» فى كتابه «دروس فى علم اللغة»، فقد نظر هؤلاء وأضرابهم إلى الكتابة بوصفها ملحقًا مكمِّلًا للكلام، وليس وسيلة قائمة بذاتها فى تدوين الأحداث وتمثيلها. لا تقوم قائمة للكتابة من دون الكلام.

وقد ناقش «دريدا»تلك القضيَّة الشائكة فى كتابه «علم الكتابة»وانتقد القائلين بأفضليَّة الكلام على الكتابة. فلأنها تقوم بتمثيل الألفاظ المنطوقة، فقد وضعت فى رتبة التابع، فهى تقوم بتحريف الكلام، وربّما تشويهه، والتّلاعب به، كونها تحجب بعض ما يُفصح عنه الكلام الحيُّ. ورأى دريدا أنَّ الكتابة سابقة على الكلام أو موازية له، وهى تقترح منظورًا مختلفًا للعالم عمّا يقوم به الكلام.

وبعيدًا عن التّمحُّل، فذلك هو الخيار المتاح للكاتب الأعمى، حيث إنّ الكتابة عنده كلام يلقيه على مدوِّن، ويتأتّى عن ذلك مؤلّفات تغلب عليها الخطابيَّة، والإطناب، والاسترسال، وهى بمجملها خاضعة للصِّيغ الشّفويَّة فى الإرسال والتّلقّي. 

عبّرت مؤلّفات طه حسين عن روح الحديث أكثر من تعبيرها عن روح الكتابة، فالأفكار نتاج مخاطبة ومحادثة أكثر ممّا هى نتاج ابتكار كتابى. وشأنه شأن الشعراء والكتاب القدامى الذين يمتثلون لأعراف الصيغ شبه الجاهزة فى الإنشاد والتأليف، فما أن يبدأ إلا وتنهمر عليه القوالب اللفظية، فيتحكّم فيها، بالتقديم والتأخير، وبالقلب والاستبدال، وبالترادف والتضاد، وبالاختصار والتوسّع، والحال، فقد استقر أسلوبه فى صيغ مرنة لم يحد عنها إلا ما ندر، وكان بارعا فى استخدام وفى إعادة استخدم تلك الصيغ الأمر الذى جعله يُعرف بأسلوب خاص بين المنشئين. وأحسب أن معجمه اللفظى محدود ومقيّد، ولكن طرق سبكه للألفاظ فى جمل متكاثرة ومطلقة.

لكن ليس لأحد أن يتجرَّأ على اتّهام طه حسين بعدم مراعاة الشّروط العامّة للتّأليف، وطرح الكلام على عواهنه، والشّعور بالارتياح بعد أن نفث ما فى خاطره ثم مضى. وما تأتّى من زلل فى القول، أو خطأ فى الحديث، دون أن يعنيه أمر ما صدر عنه، فهو صاحب أسلوب يضارع به أساليب كبار الكُتَّاب، ولا يصحُّ القول بأنه كان يطرح وراء ظهره ما صدر عنه مشافهة، كما صرَّح بذلك، وأغلب الظّنّ أنّه كان يعدُّ العدّة لما يريد قوله، ويتدبَّره قبل الشّروع فيه، ويكون على دراية بالفكرة التى يريد جعلها محورا لحديثه، وبالمادة الداعمة لها، ويستجمع ما ينوى أن يتحدَّث به؛ فترتسم الخطوط العامّة للأفكار فى ذهنه، وذلك يعيد إلى الأذهان قوَّة الحافظة عند العميان، ودورها فى تأمين ما يحتاجون إليه فى أثناء الحديث، فهو ينهل ذخيرته من منبع يتدفَّق بما يحتاج إليه.

وبمضيِّ الوقت امتثل لصيغ شفويَّة ساعدته على تدارك ما يفلت من الكلام، كالاستدراك، والاستئناف، وتقليب الفكرة على وجوهها كى لا يمضى إلى غيرها قبل أن يوفيَها حقَّها. وقد أصيب بداء النسيان فى أخريات عمره، لكن ّمساعده الدسوقي، قال إنه، وإن جاوز الثمانين من عمره، فله «حافظة واعية، وذاكرة قوية لا تنسى معلومات مضى على تلقيها نحو نصف قرن».

والطريف أنه كان ينسى أن الصحف اليومية كانت تقرأ له، ويتهم مساعده بعدم قراءتها، وهو قد قرأها له فعلا، لكنه يتذكر جيدا أشعارا وأخبار أطلع عليها فى مقتبل عمره، وردت فى «الأغاني»أو فى «عيون الأخبار»، ولا يتردد فى إنشادها كلها أحيانا، والتعليق عليها. وكان يحفظ ما يقرأ عليه، فإن أصغى مرة واحدة لقصيدة، فذلك كفيل بحفظه لها «كنت أسمع القصيدة مرة واحدة فأحفظها». حدث ذلك فى مقتبل عمره، كما قال للدسوقي.

ولا يحبّذ أخذ أقوال طه حسين حول تجنُّب إعادة النّظر بما يُملي، مأخذًا حرفيًّا دونما توسُّع فى الفهم، وتخريج سليم لما يمكن أن يكون عليه الأمر، لأنّ ذلك يقترب من المحال، فالانتظام العامّ، والتدرُّج فى التّركيب، والإلمام بالموضوع، والإحاطة بحيثياته، كلّ ذلك حاضر فى مؤلّفاته. قال «عبد الرشيد محمودي»الّذى تولّى نشر مقالاته الفرنسيّة، بأنَّه كان يُملى مؤلّفاته العربيّة والفرنسيَّة إملاء على الآلة الكاتبة أو بخطِّ اليد، على إنَّه كان يحفظ هذه النّصوص عن ظهر قلب فى أثناء إملائها، أو عند تلاوتها عليه بعد تسجيلها، وتنقيحها فى بعض الأحيان، وهذا يفسِّر طلاقته فى ما يتحدَّث به، لأنّه كان يحفظ ما أملاه قبل الحديث المباشر للجمهور، وتدلُّ مخطوطات أحاديثه ومحاضراته على أنه «كان قليل الارتجال، فقد كان صاحب ذاكرة خارقة». ولكن محمودى لاحظ أن إملاءاته تعرَّضت، فى بعض الأحيان، إلى التّعديل والتّنقيح، بخطِّ اليد، ممّا يؤكّد حرصه على النظر فيها قبل دفعها إلى النّشر أو قبل إلقائها أمام الجمهور، ويرجَّح أنّه الّذى كان يقوم بها، أو زوجته سوزان، أو ابنته أمينة، أو ابنه مؤنس، أو مساعدوه، ويفترض أنّ كل أحاديثه «كانت تُعرض عليه، وتجرى بموافقته». ذلك تخريج يوافق واقع حال التأليف عند المبصرين والعميان.

يتَّصل الكاتب الأعمى بالمعرفة عبر وسيط، وبه يرسل المعرفة الصّادرة عنه، ولأنَّ طه حسين خصَّ كبار الشّعراء بكتب قائمة بذاتها، فلا بُدَّ أن يكون قد وقف على دواوينهم، ودواوين عشرات غيرهم، ناقدًا ومحلِّلًا، وغالب الظَّنّ أنّه أمضى وقتًا طويلًا فى الاستماع إلى أشعارهم عبر وسطاء يمضون به فى تلك الدّروب الوعرة، فضلًا عن الاستماع إلى المدوَّنات الدّينيّة والأدبيّة، والمرويَّات الإخباريَّة، والنّصوص الأدبيّة الحديثة، والمؤلّفات الأجنبيَّة الّتى اطَّلع عليها أو تولَّى ترجمتها، فاختلاف المصادر ولغاتها يلزم تغييرًا فى قارئه وكاتبه. وفى كلِّ الأحوال، فإنَّ المتبوع تابع بحقٍّ وحقيق. ولكن من نافلة القول إنّه تدرَّب على ذلك بأذنيه، بعد أن فقد بصره فى وقت مبكِّر جدا من حياته، لكنّه ما لبث أن طوَّر من خلال ذلك صلة متينة بالعالم الّذى عاش فيه.

الكتابة مناقلة لأفكار وآراء وقضايا بين مرسل ومتلقٍّ، لكنَّ حال الكاتب الضّرير تفرض وساطة بين الطّرفين، تتمثَّل فى الشّخص الّذى يقوم بتقييد الألفاظ الّتى يتفوَّه بها الكاتب البصير، فهو امتداد للكاتب، ومكمِّل له، ومن دونه يتعذَّر الإرسال، ولطالما خمل ذكر ذلك الوسيط إلا ما ندر، ولم يُعترف به طرفًا فى فعل التّراسل، فهل ملكيَّة الآثار الكتابية تؤول إلى مؤلِّفها وحده، أم ينبغى أن يشاركه فيها الشّخص الّذى بحث عن مصادرها، ونقّب فيها، وقرأها، ودوَّنها، ونقَّحها، وصحَّحها، ونسَّقها، وحرَّرها، وترك بصماته فى أسلوبها، وأظهرها إلى الملأ بالصّورة الّتى أرادها بها المؤلّف؟ تاريخ الثّقافة لم يُقدِّم جوابًا شافيًا عن ذلك، ولا زال المدوِّنون مغمورين وراء حُجب العميان، ولا أحد يلتفت إلى حالهم. حيث لا تبلغ رسالة الكاتب الأعمى نهايتها دون الاعتراف برديفه المبصر المُقيّد لأقواله.

وحيثما حلَّ الكاتب البصير، وأينما ارتحل، يلزم وجود قارئ مبصر يكشف له عما يتعذَّر عليه رؤيته، ويخبره بما هو بحاجة إليه، ولا بُدَّ من شخص يُملى عليه ما يخطر له، وذلك كان شأن أبى العلاء، والغالب أن يكون الشخص نفسه، الّذى يتولَّى مهمّة إيصال الكاتب الأعمى بمصادره، من جهة، وإيصاله بقرّائه، من جهة أخرى. وبما أنّ طه حسين أملى كثيرًا من مؤلّفاته فى أوروبا خلال أسفاره، فالرّاجح أنّه كان مشغولًا بمُرافقه وكتبه فى كلَّ مرة عزم على الرّحيل الّذى كان يفضّل أن يكون عبر البحر فى الأصياف. وملازمة المصادر والمُرافق له ضروريَّة فى أسفاره، كما أنَّها ضروريَّة له فى إقامته حيث كان، سواء فى مصر أو سواها من البلاد، فهو لا يقوده فى دروب السّفر، وأزقّة المدن، وقاعات المكتبات، وردهات الفنادق، فحسب، إنّما يأخذ به إلى المظانّ الأدبيّة الّتى كان يصطحبها معه، وفى مقدّمتها دواوين الشّعراء، فيصغى إلى أشعارهم، ثمّ يملى انطباعاته عنها، وذلك منوال مضى عليه طوال حياته. وقد كشفت سوزان عن أنه كان، فى الغالب، يلازم مكان الإقامة، وهو يُملى أو يصغي، فى ما تصطاف أسرته فى ربوع إيطاليا وفرنسا. فى البداية اعتاد على قضاء أصيافه فى فرنسا، لكنه منذ خمسينيات القرن العشرين غيّر فى ذلك، وجعل يقضيها فى إيطاليا «لارتفاع الأسعار فى فرنسا، ورخصها نسبيا فى إيطاليا». وكان يفضل الأرياف الجبلية الهادئة على المدن الصاخبة.

وتكون المهمّة أكثر مشقّة فى ترجماته عن اليونانيّة واللّاتينيّة والفرنسيّة، حيث يلزم أن يوجد قارئ ضليع ليقرأ له النّصوص بأصولها، ومدّون يتقن العربيّة ليتولّى كتابة ما يمليه عليه فقرة إثر فقرة، فالقارئ يقرأ بلغة، وطه حسين يترجم فى الذهن، ثمّ يتلفّظ بالصّيغة العربيّة، والمدوّن يقيّد بالعربية، ويفترض أن تقع مراجعة كلّ ذلك بعد الفراغ منه، وبمجرّد التفكير بالأمر تسفر الصعوبة عن وجهها من دون مواربة، فلا يقدم على الترجمة رجل ضرير إلا إذا كان قوى العزيمة، وشديد البأس، وتوفّر على كلّ ما وقع ذكره. حدث ذلك مع طه حسين لما نقل إلى العربيّة من كتب يونانية، منها «نظام الأثينيّين» لأرسطو، و«من الأدب التّمثيلى اليونانى» لسوفوكليس، ومن كتب فرنسية، منها: «زديج» لفولتير، و«روح التّربية» للوبون، و»أندروماك» لراسين، و«أوديب وثيسيوس» لأندريه جيد. 

دار جدل حول ترجمته عن اليونانية، وأشيع إنه نقل «نظام الأثينيين»عن لغة وسيطة، وهى الفرنسية، لكن مقدمته الطويلة للكتاب التى أملاها فى مطلع عام 1921 تبطل ذلك. قال شكرى عياد فى كتابه «تجارب فى الأدب والنقد» إنّ ذلك الكتاب هو «ترجمة دقيقة محكمة لنصّ من أهم نصوص التاريخ اليونانى». وقبل ذلك قطع أحمد لطفى السيّد الشكّ باليقين بقوله فى مقدمة ترجمته لكتاب أرسطو «علم الأخلاق إلى نيقوماخوس» الذى صدر فى عام 1924 إن طه حسين ترجم «نظام الأثينيين»عن اليونانية. وربما يكون مصدر الاشتباه أنه فى خطاب منحه الدكتوراه الفخرية من جامعة أثينا الذى ألقاه بالفرنسية، أعلن عن عدم فهمه اليونانية، وربما قصد بها اليونانية الحديثة «كم كنت أود أن أفهمكم عندما تتكلّمون اليونانية»كما ورد ذلك فى كتاب «الأوراق المجهولة: مخطوطات طه حسين الفرنسية». وقد ذكرت سوزان بأنه «كان فى منتهى الانفعال» فى تلك المناسبة «وألقى خطابا مؤثرا إلى الحدّ الذى رأيت فيه الدموع تترقرق فى كثير من العيون» ولكنها لم تأت على ذكر اللغة التى خطبَ بها الزوج الضرير.

وبالقطع فإنّ الصعاب التى يواجهها المترجم البصير أشقّ بكثير من الصعاب التى يلاقيها الكاتب البصير، ففى الحال الثانية يصغى ثم يملي، أما فى الأولى فيلزم أن يكون عارفا بالأصل معرفة دقيقة، وأن يصغى له جملة بعد جملة، وفقرة إثر فقرة، وأن يتولّى ترجمة جمله وفقراته فى ذهنه قبل أن ينطق بها، وأن يتأكد بأنه وقع تدوين ما تلفّظ به على الوجه المطابق للأصل، كلّ ذلك ينبغى أخذه فى الحسبان، ناهيك عمّا قبل ذلك من وجوب الإحاطة بالأصل، وسبب اختياره للترجمة، وعمّا بعد ذلك من ضرورة اتساق النص بعد ترجمته إلى اللغة المستهدفة، وما يلزم ذلك من تعديل، وتنقيح، وتصحيح. ويتضاعف الأمر صعوبة فى حال الترجمة عن لغات غير شائعة كاليونانية واللاتينية التى لا يكاد يجد المرء من يتقنها فى ديار أهلها، فكيف بذلك فى ديار العرب! فهل توفّر طه حسين على كلّ ذلك أو على شيء منه يمكّنه من الخوض فى الترجمة، فضلا عن التأليف فى موضوعات لها صلة بالآداب الأجنبية؟

واظب طه حسين على تعلّم بعض اللغات الأجنبية، ومنها القديمة؛ فما أن وصل فرنسا حتى شرع فى دراسة اللاتينية على يد أستاذ إيطالى أعمى مثله، وكان كثير الاهتمام بالنصوص اللاتينية مستعينا بالقواميس القديمة. ولكنه لم يستغن عن سوزان طوال عمره، بطلب العون فى تعلم اللغات الأجنبية، إذ درست اليونانية واللاتينية قبل الاقتران به. واعترف بأنها قدمت له العون فى تعلم اللاتينية، ثم أنها جعلته يتقن اليونانية حتى استطاع أن يقرأ «أفلاطون فى نصوصه الأصلية». ولها دور مشهود فى تحرير رسالته للدكتوراه عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية باللغة الفرنسية، وقد صرّح بذلك فى سيرته «ثم أخذ فى إملاء رسالته، يقول هو، وتكتب صاحبته، وتقوّم فى أثناء ذلك ما يعوجّ من لغته الفرنسية. ولا يكاد يفرغ من إملاء فصل من فصول هذه الرسالة حتى يعيد قراءته، ثم يعرضه على أستاذه المستشرق الفرنسى كازانوفا، فإذا أقرّه أخذ فى إملاء الفصل الذى يليه». نال طه حسين درجة دبلوم الدراسات العليا فى القانون الرُّوماني. وفى أول عودته إلى بلاده عمل أستاذا للتاريخ اليونانى والرومانى بالجامعة المصرية، ويحتّم ذلك عليه إتقان تينك اللغتين.
وفى التعريف بنفسه الذى طلبه منه المكتب الدائم للتنسيق والتعريب فى الرباط كتب طه حسين رسالة رسمية ورد فيها حرفيا قوله إننى «أجيد الفرنسية، واللاتينية، واليونانية». ولا غبار على إجادته تلك اللغات، فقد ورد على لسانه أنه حصل على شهادة الإجازة، ولا تمنح فى فرنسا، آنذاك، إلا لمن درس اللاتينية، ثم حصل على شهادة الدبلوم العالي، وهى تساوى الماجستير، وكانت رسالته حول الدراسات اللاتينية، ولكى تتأكد لجنة المناقشة من إتقانه اللاتينية قرأ عليه أحد الممتحنين نصا صعبا فيها، وطلب إليه ترجمته إلى الفرنسية، فترجمه فورا، فثبت لديها أنه عاد إلى المصادر اللاتينية الأصلية فى دراسته، وليس إلى الترجمة الفرنسية لها، وبعدها حصل على الدكتوراه حول ابن خلدون، وكتبها بالفرنسية. ولم تكن دكتوراه دولة، إنما دكتوراه، غير أن أحد المناقشين لها قال إنها تستحق أن تكون دكتوراه دولة. علما أنه حصل على درجتين علميتين للدكتوراه الأولى من الجامعة الأهلية فى مصر، وهو أول حاصل على الدكتوراه منها، والثانية من جامعة السوربون فى فرنسا مع مرتبة الشرف الأولى، وحصل على ثمانى شهادات دكتوراه فخرية. وما كانت سوزان تعرف العربية حديثا وكتابة، وقرأت له الأدب الكلاسيكى الفرنسي، وعاونته فى دراسة اللاتينية. وفى السنين العشر الأخيرة من حياته كانت تقرأ له سيدة بالفرنسية لأن مساعده الدسوقى لا يجيدها.

والراجح أن طه حسين لم يكن يقبل مساعدا له لا يجيد لغة أجنبية ما خلا الدسوقي، فهو بحاجة ماسّة لذلك فى حياته قارئا، وكاتبا، ومترجما، وأستاذا. ومن ذلك، على سبيل المثال، فقد كان مساعده توفيق شحاته «يتكلم الفرنسية بطلاقة»واعد أطروحته للدكتوراه فى القانون الدولى فى أثناء عمله مساعدا له، وكان يمضى النهار بكامله فى بيت طه حسين، وحينما أصبح الأخير وزيرا للمعارف، جعله مديرا لمكتبه «وكان يقوم بأعمال مذهلة». وكان مرافقه فى رحلاته إلى أوربا، وهو رجل واسع الثقافة، واضطرّ إلى ترك عمله حينما التحق أستاذا فى الجامعة، حيث خلفه أخوه الصغير فريد الذى أحدث للعميد مشاكل كثيرة، وترك العمل معه لخلاف مع زوجته. وكان طه حسين راغبا فى تعلم الألمانية لكنه لم يجد الوقت لذلك، وتلك أدلّة على جهود شاقة بذلها فى التمكّن من لغات مكنته من ابتكار هويته كاتبا ومترجما.  

وإلى ما نال طه حسين من طعن فى أصالة أفكاره، والنظر إليها بوصفها ظلالا لأفكار المستشرقين، فقد طُعنت معرفته باليونانية واللاتينية من بعض خصومه، ومنهم البهبيتي، الذى كان أحد طلبته، ودرس عليه فى الجامعة، فلم يكتف بإنكار معرفة أستاذه بهما، بل أنكر معرفته بالتاريخين اليونانى والرومانى اللذين درسهما إبان بعثته، وذهب به الشكّ إلى إنكار حصوله على الدكتوراه من فرنسا، وكان يزعجه من الأستاذ «ادعاؤه من العلم ما ليس له»، ومن ذلك، فمعارفه ضئيلة فى «اليونانيات واللاتينيات التى طالما تبجّح فى القول بأنه من مغاويرها، حتى قدّم منها يوما تلخيصا لطائفة من المسرحيات ترجمها عن الفرنسية التى لم يكن يعرف من لغات الأرض سواها، فوهمها بعض الناس مترجمة عن اليونانية»ورد ذلك فى كتاب ضخم مضطرب المادة والبنية، عنوانه «المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين». ومعلوم بأنه قد حُمل على طه حسين من غير طرف، وكلّ يضخّم أمرا أو يفترى آخر، ولكن ما عاد ممكنا قطع صلته بتلك الآثار المترجمة.

وحين ينظر الباحث فى سعة تآليف طه حسين فى النقد، والفكر، وتاريخ الأدب، والتاريخ العام، والدين، وتراجم الشخصيات، والسيرة الذاتية، والرواية، والترجمة من أكثر من لغة، والكتابة بالفرنسية، والمقالات الكثيرة فى غير موضوع، فلا يتردّد من القول إنه كان جسورا فى طرق معظم حقول الثقافة فى العصور القديمة والوسيطة والحديثة، فقد تقحّمها بجرأة، وخاض فيها بشجاعة، ولم يتوفّر ذلك إلا لقلة قليلة جدا من النابغين العميان، وكان أبو العلاء المعرّى مثاله فى كلّ ذلك. وكما فعل ملهمهُ فى الغوص بما تعذّر الغوص فيه من طرف عظماء عصره، فقد حاكاه طه حسين فى كثير من ذلك، حتى ابتكر بلسانه هوية لنفسه عجزت عن ابتكار نظير لها كتيبة من الأقلام..