مهاب نصر.. صورة فى قطار السيدة «براون»

مهاب نصر.. صورة فى قطار السيدة «براون»
مهاب نصر.. صورة فى قطار السيدة «براون»

عن السيدة «براون»
طلبت فرجينيا وولف من جمهورها، فى إحدى المحاضرات، أن يتمثَّل حال امرأة مسنة كانت قد صادفتها بالفعل أثناء رحلة قصيرة ب القطار. إنها السيدة «براون»، هكذا ابتكرت لها اسمًا. من خلال نتف من حوار بين السيدة «براون» وشخص آخر كان يبدو بغيضًا، التقطت فرجينيا بعض العبارات التى بَنَت بواسطتها شخصية كاملة للسيدة «براون». لم يكن ذلك، كما يحدث الآن فى ورش الكتابة، نموذجًا للتدريب على حيل الاختلاق والتلاعب بالخيال: انظروا؛ كيف أحوِّل موضوعا عاديًا وتافهًا إلى حكاية! إنما إبراز ذلك الحس العجيب بالمسؤولية الناتج عن رؤية الغرباء. 

بغض النظر عن تركيز فرجينيا وولف على «الشخصية»، وليس الحبكة مثلاً أو الحدث، باعتبارهما أساسين مُفترضين للبناء الروائي، فإن هذا التركيز على فكرة الشخصية يقول لنا أيضًا ماذا كان يحدث فى الخارج.. خارج القطار الذى تستقله السيدة براون مثلاً.. أى فى الحياة نفسها.

اقرأ أيضاً| د. عبدالعزيز المسلّم ..الخَضَر النباتات فى المخيال الشعبى الإماراتى

فمن العجيب أنه فى تلك اللحظة المفصلية، التى اعتبر سينيت أن الناس كانوا خلالها قادرين على القص فيما يتعلق بحياتهم، وفى الامساك بذاكرتهم وهويتهم من خلال سرد مقنع لهم على الأقل، كان جيل من الروائيين يتشكَّك فى تواطؤ الرواية مع هذا القص والحكي؛ وفى كونهما «حقيقيين». ألا تعتبر كلمة «حقيقيين» هنا مجازفة؟ وأى شأن يمكن أن يكون للحقيقة أو للحياة الحقيقية بعمل فني؟ واحدة من أكثر الظواهر إثارة للارتباك والتأمل هى أن سرد أيامنا الآن معنيّ أيضًا بالحقيقة، لكن لاعتبارها اختلاقًا شاملًا، أى بإنكار أى أساس موضوعى لها، مع بقاء قوتها أو فعاليتها الأيديولوجية المنكرة سابقًا.

الحقيقة.. نعم. «اتجه بحق وبشرف نحو الرواية».. نداء مفخَّم لـ د. هـ. لورنس، كما لو كانت الرواية هى «الحياة» التى تلزمها كلمة شرف؛ هكذا يضاف إلى الحقيقة شيء آخر: الصدق. «أن يكون المرء حيًا،» يقول لورنس،»أن يكون إنسانًا كاملاً حيًا؛ ذلك هو بيت القصيد. والرواية على أحسن وجوهها تستطيع بشكل فائق أن تساعدنا على ذلك، تستطيع أن تساعدك على ألا تكون إنسانًا ميتًا فى الحياة. فجزء كبير من الرجل يسير ميتًا وجثة فى الشارع وفى المنزل هذه الأيام، وجزء كبير من النساء ميت فقط مثل البيانو الذى صمتت نصف أوتاره».



إن بناء القصة الذى أشار إليه ريتشارد سينيت، وإن كان عنصرًا مساعدًا فى تماسك السيرة الذاتية للمواطن فى النظام الحديدي، إلا إنه كان يُسوَّق وفق مبادئ وأسس «أخلاقية» عملية بمعنى ما: الموضوعية، الواجب، الشرف المهنى والعائلي، التزام غاية للقصة الشخصية تشبه الترقى فى السلم الوظيفي، وتشيع مبدأ الثقة فيما هو ثابت وراسخ ويتقدم ببطء.

هؤلاء هم الموتى فى قصصهم الزائفة.. قصص النجاح والرأفة المصطنعة والقتل الخالى من البطولة، قصص أحياء بلا روح. يربط لورنس بشكل مفاجئ وفيما يشبه القفزة، فى مقاله الذى اقتبسنا منه والمكتوب فى حدود عام 1927، من عربة التخييل الذى خلقته فرجيينا وولف إلى الحياة نفسها فى صورتها المدمرة؛ الحرب باعتبارها حافة كاشفة لإمكان خلق المعنى والبطولة فى عالم يفتقر إليهما: «كشبح مخيف فى الحياة قد تقذف بقنابلك رجالًا لا هم أعداؤك ولا أصدقاؤك بل مجرد أشياء أنت ميت بالنسبة إليها، ويصبح هذا عملًا إجراميًا عندما يحدث، صدفة، أن تكون هذه الأشياء حية».

يطالب لورنس الرواية «الحقيقية» تلك أن تكون لا أخلاقية، لسبب غريب جدًا، بالنسبة إلينا على الأقل، وهو الحب. بالطبع.. لنفكر إذن؛ لا يمكن للحب أن يكون أخلاقيًا إلا بمعنى تأسيسى متهور. فأن تحب هو أن تفقد القدرة على الحكم. ليس بسبب الافتتان بحد ذاته، بيد أن الافتتان يفتح لك الشخصية مثلما تتفتح زهرة بلا حدود موصوفة؛ كل شيء يصبح قابلًا للتأويل ولسوء الفهم أيضًا. جرِّب أن تحكى عن شخص ما أحببته يومًا، ولن تتمكن من تكرار القصة نفسها ولا الأحكام ذاتها مرتين.

ليس لأن شيئًا فاتك؛ بل لأنك تصل أحيانًا إلى درجة العجز.. أكنت تعرفه حقًا؟ أكان «ذلك» هو؟ إن ما يستدعيه «الحب» أيضًا هو كثافة الحضور.. هل يمكن للغة أن تقف على حدود هذه الكثافة دون أن تتحول إلى صمت؟.. ثمة ارتداد هنا عن ثرثرة العالم الزاهى والأشياء التى لا تكف عن الكلام فى روايات القرن الـ19 والعيون المستطلعة إلى الخارج. فى روايات لورانس نوع من الحيوية الآثمة التى لم تعد تثق فى أن الكلمات يمكن أن تقول كل شيء، وأن العالم يمكن أن يستنطق. ثمة احترام كئيب للعالم فيما وراء الكلمات؛ بل للعالم المبطِّن للكلمات.

من جهتها، تبنى فرجيينا وولف مشهدًا آخر مركبًا داخل وخارج الفعل الروائى وهى تسخر من أسلافها الروائيين «الإدوارديين» (هـ ج ويلز، جون جالزورذي، وآرنولدبينيت)، مستكملة حديثها عن الأصالة الفريدة للسيدة براون: «ها هى ذى تجلس فى ركن العربةـ تلك العربة المسافرة لا من ريتشموند إلى ووترلو، بل من أحد عصور الأدب الإنجليزى إلى العصر الذى يليه، لأن السيدة براون باقية إلى الأبد، السيدة براون هى الطبيعة الإنسانية، السيدة براون لا تتغير إلا تغيرًا سطحيًا، إنما الروائيون هم الذين يدخلون ويخرجون، هى تجلس فى مكانها ولم يقم واحد من الكتاب الإدوارديين حتى بمجرد النظر إليها.. لقد نظروا بغاية القوة والتنقيب والتعاطف من النافذة إلى المصانع واليوتوبيات أو العوالم المثالية، بل وإلى زينة العربة وفرشها ولكنهم لم ينظروا إليها قط».

ما يحدث الآن شيء ربما يفوق خيال لورنس ووولف، فنحن لا نلتفت إلى «السيدة براون»، ولا إلى المشهد خارج القطار، بل نبنى سردًا مصطنعًا نستخدم فيه العالم لتعزيز «صورة» عن أنفسنا، فكأن العالم انعكاس للحكمة الصغيرة، ومعزِّزا لصوابية ليست سياسية فحسب، وهذا البعد له شأن آخر، بل صوابية ذاتية، إن صح التعبير، مبتذلة ومستبدَّة. يفضى هذا إلى مآزق فى السرد بمعنييه التخييلى والحياتى ويعزِّز وهم كل منهما، إذ لا يكتفى بمحو الفاصل بين الذاتى والموضوعي، بل يدعم مشهدًا للنجاح لا يكون السرد (واللغة كلها معه) إلا شيئًا نافلًا بالنسبة له. ولا نكون فقط على أعتاب الصمت أو النوم الكبير، مثلما يحدث أمام كل سرد عظيم، بل نكون فيه؛ فى الصمت نفسه، بينما تنفرج شفاهنا كمن يتكلم.