ملحمة الإسماعيلية 25 يناير 1952.. صمود 880 شرطيًا مصريًا أمام 7000 جندى بريطانى

لقطات أرشيفية من المعركة
لقطات أرشيفية من المعركة

أحمد‭ ‬الإمام

  لم تكن معركة الإسماعيلية مجرد اشتباك عادي بين مجموعة محدودة من رجال الشرطة مسلحين بالبنادق الخفيفة أمام جيش نظامي لدولة عظمى انتصرت لتوها في حرب عالمية كبرى مدجج بأحدث وأقوى الأسلحة الثقيلة.

كانت ملحمة بطولية ملهمة استحقت أن يخلدها التاريخ الوطني ويفخر بها كل من ينتمي إلى المنظومة الأمنية المصرية.

هذه الملحمة البطولية لا نمل من عرض تفاصيلها كلما حل يوم 25 يناير من كل عام لنرفع رؤوسنا بكل فخر ونردد أننا بالفعل أمة عصية على الانكسار والخنوع لأي قوى استعمارية تستبيح أرضنا.

في سبعة مشاهد سريعة نستعيد معا ما حدث .

المشهد الأول .. مقر القيادة البريطانية بمنطقة القناة في 16 اكتوبر 1951

يعقد الجنرال اكس هام القائد العام للقوات البريطانية اجتماعًا عاصفًا مع ضباطه بسبب تزايد العمليات الفدائية ضد معسكراتهم وجنودهم وضباطهم في منطقة القنال حيث كانت الخسائر البريطانية نتيجة العمليات الفدائية فادحة خاصة في المراحل الأولى، كما أدى انسحاب العمال المصريين من العمل في معسكرات الإنجليز إلى وضع القوات البريطانية في منطقة القناة في حرج شديد.

كان القائد البريطاني يضرب بقبضته على طاولة الاجتماع صارخًا: الحكومة المصرية تجاهر بعدائنا علنًا وتبارك العمليات التخريبية ضد قواتنا ولم تكتف بذلك بل أعلنت الحكومة عن فتح مكاتب لتسجيل أسماء عمال المعسكرات الراغبين في ترك عملهم في تحريض واضح ضدنا، وحتى المتعهدون توقفوا عن توريد الخضراوات واللحوم والمستلزمات الأخرى الضرورية لإعاشة 80 ألف جندي وضابط بريطاني.

وسأله أحد ضباطه عن الإجراء المناسب للرد على هذه الإجراءات .

قال القائد البريطاني يجب أن يكون ردنا قويًا إذا أردنا البقاء في هذه الارض.

المشهد الثاني .. مكتب القائد البريطاني بمنطقة القناة في 25 يناير 1952

القائد البريطاني بمنطقة القناة –«الجنرال أكس هام»- يجلس بغطرسة على مكتبه وينظر باستعلاء إلى ضابط الاتصال المصري، ومد يده بورقة بيضاء قائلا : هذا إنذار بأن تسلم قوات البوليس المصرية بالإسماعيلية أسلحتها للقوات البريطانية، وتجلو عن دار المحافظة والثكنات، وترحل عن منطقة القناة كلها، وتنسحب إلى القاهرة.

وعندما سأله الضابط المصري عن الأسباب .

واصل حديثه بنفس اللهجة المتعالية قائلا : لدينا معلومات أن الشرطة تساعد الفدائيين وتمدهم بالمعلومات والذخائر كما تخفيهم عقب عملياتهم ضد رجالنا في منطقة القنال مما تسبب في عدم تمكننا من القبض عليهم.

وأنهى المقابلة بجليطة واضحة قائلا : اتفضل نفذ الاوامر الموجودة في الورقة دي بدون تأخير قبل أن ينفذ صبري.

المشهد الثالث .. مكتب وزير الداخلية المصري في 25 يناير 1952

يرتفع صوت الهاتف في مكتب وزير الداخلية فؤاد سراج الدين .

يلتقط السماعة مدير مكتبه الذي يكتشف أن المتصل هو قائد قوات الشرطة في الإسماعيلية اللواء أحمد رائف الذي بادره قائلا : «آلو .. حولني على فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية.

مدير المكتب : مين يا فندم.

اللواء رائف : أنا اللواء أحمد رائف قائد بلوكات النظام في الإسماعيلية.

مدير المكتب: حاضر يا فندم.

وبعد ثواني كان اللواء رائف يتحدث الى وزير الداخلية قائلا : معالي الوزير صباح الخير يا فندم .

الوزير: صباح النور.

اللواء رائف : يا فندم قوات الاحتلال البريطاني وجهت لنا إنذارًا برحيل قوات البوليس عن مدينة الإسماعيلية، واحنا يافندم رافضين وقررنا المقاومة ومنتظرين تعليمات سعادتك.. الوزير : هتقدروا يا أحمد.

اللواء رائف: يا فندم مش هنسيب الإسماعيلية حتى لو ضحينا بآخر نفس فينا.

الوزير : ربنا معاكم .. استمروا في المقاومة.

المشهد الرابع .. مكتب القائد البريطاني بمنطقة القناة

كان القائد البريطاني ممددًا على الاريكة بمكتبه وهو يستمع الى اغنية انجليزية ذائعة الانتشار في هذه الفترة الزمنية .

يدخل مدير مكتبه وعلى وجهه علامات الانزعاج ، فبادره القائد متسائلا : المصريين اخلوا مبنى المحافظة وانسحبوا ولا لسه بيتلكأوا في التنفيذ.

تنحنح الضابط الشاب بحرج قبل أن يستجمع شجاعته ويقول : للاسف يافندم رفضوا الإنذار.

انتفض القائد جالسًا وهو يقول : يعني ايه رفضوا الانذار.. دول بيتحدوا بريطانيا العظمى .. خلاص دمروا المبنى فوق راسهم.

يتردد الضابط الشاب قليلا ولكن القائد لم يتركه لتردده وصرخ فيه قائلا : يللا نفذ الامر.

المشهد الخامس .. الساحة الكبيرة أمام مبنى محافظة الاسماعيلية

يقف اليوزباشي مصطفى رفعت أمام القائد البريطاني يؤكد عدم الانسحاب وترك مبنى المحافظة، وقال لقائد قوات الاحتلال (إكس هام): «لو لم تأخذ قواتك من حول المبنى .. سأبدأ أنا الضرب، لأن تلك أرضي، وأنت الذي يجب أن ترحل منها وليس أنا .. وإذا أردتوا المبنى .. فلن تدخلوه إلا ونحن جثثا»، ثم تركه ودخل مبنى المحافظة، وتحدث إلى جنوده وزميله اليوزباشي عبد المسيح، وقال لهم مادار بينه وبين (إكس هام)، فما كان منهم إلا أن أيدوا قراره بعدم إخلاء المبنى، وقرروا مواجهة قوات الاحتلال، على الرغم من عدم التكافؤ الواضح في التسليح؛ حيث كانت قوات الاحتلال تحاصر المبنى بالدبابات وأسلحة متطورة شملت بنادق ورشاشات وقنابل، فيما لا يملك رجال الشرطة سوى بنادق قديمة نوعا ما.

المشهد السادس .. اندلاع الاشتباكات أمام مبنى المحافظة

تبدأ المعركة من خلال قيام القوات البريطانية بإطلاق قذيفة دبابة كنوع من التخويف لقوات الشرطة، أدت إلى تدمير غرفة الاتصال «السويتش» بالمبنى، وأسفرت عن استشهاد عامل الهاتف، لتبدأ بعدها المعركة بقوة، والتي شهدت في بدايتها إصابة العشرات من رجال الشرطة واستشهاد آخرين، فخرج اليوزباشي مصطفى رفعت قائد قوة بلوكات النظام المتواجدة داخل مبنى المحافظة إلى ضابط الاحتلال البريطاني في مشهد يعكس مدى جسارة وشجاعة رجل الشرطة المصري، فتوقفت الاشتباكات ظنًا من قوات الاحتلال بأن رجال الشرطة سيستسلمون، ولكنهم فوجئوا بأن اليوزباشي مصطفى رفعت يطلب الإتيان بسيارات الإسعاف لعلاج المصابين وإخلائهم قبل استكمال المعركة، وفقا لتقاليد الحرب الشريفة التي اعتاد عليها المصريون، ولكن قوة الاحتلال رفضت واشترطت خروج الجميع أولا والاستسلام، وهو ما رفضه اليوزباشي مصطفى رفعت، وعاد إلى جنوده لاستكمال معركة الشرف والكرامة، والتي لم يغب عنها أيضا أهالي الإسماعيلية الشرفاء؛ حيث كانوا يتسللون إلى مبنى المحافظة، لتوفير الغذاء والذخيرة والسلاح لقوات الشرطة، رغم حصار دبابات الاحتلال للمبنى.

المشهد السابع .. ساحة المعركة أمام مبنى المحافظة

تستمر الاشتباكات بشراسة، وبدأت الذخيرة في النفاذ من رجال الشرطة المصرية، ولكنهم رفضوا أيضا مجرد فكرة الاستسلام، فقرأوا جميعا فاتحة كتاب الله والشهادتين، وقرروا القتال حتى آخر طلقة، وقرر اليوزباشي مصطفى رفعت الخروج من المبنى لقتل قائد قوات الاحتلال (إكس هام)، أملا منه في أن يؤدي ذلك إلى فك الحصار وإنقاذ زملائه، وبالفعل عندما خرج، توقف الضرب كالعادة، ولكنه فوجىء بضابط آخر أعلى رتبة من (إكس هام)، وبمجرد أن رأى هذا الضابط اليوزباشي مصطفى رفعت، أدى له التحية العسكرية، فما كان من اليوزباشي رفعت إلا أن يبادله التحية وفقا للتقاليد العسكرية، وتبين بعد ذلك أن ذلك الضابط هو الجنرال (ماتيوس).

وتحدث الجنرال (ماتيوس) إلى اليوزباشي مصطفى رفعت، وقال له بأنهم فعلوا ماعليهم بل أكثر، وأنهم وقفوا ودافعوا عن مبنى المحافظة ببطولة لم تحدث من قبل، وأنهم أظهروا مهارة غير عادية باستخدامهم البنادق التي معهم ووقوفهم بها أمام دبابات وأسلحة الجيش البريطاني المتعددة، وأنه لا مفر من وقف المعركة بشرف، فوافق اليوزباشي مصطفى رفعت على ذلك، مع الموافقة على شروطه، وهي أن يتم نقل المصابيين وإسعافهم بشكل فوري، وأن الجنود التي ستخرج من المبنى، لن ترفع يديها على رأسها، وستخرج بشكل عسكري يليق بها، مع تركهم لأسلحتهم داخل المبنى، فوافق الجنرال (ماتيوس) على تلك الشروط، وتم خروج قوات الشرطة بشكل يليق بها وهم في طابور منظم. لقد أسفرت تلك الملحمة التاريخية للشرطة المصرية عن استشهاد نحو 52 من رجال الشرطة، وإصابة 80 آخرين، فاستحقت أن تكون ليست يوما فقط أو عيدًا للشرطة المصرية، ولكنها أصبحت عيدًا قوميًا لمحافظة الإسماعيلية وللشعب المصرى كله. بطولات رجال الشرطة التي نراها اليوم، تعد امتدادًا طبيعيًا لتاريخ طويل من البطولات والتضحية، به العديد من المحطات التي تؤكد دوما وطنية هذا الجهاز، وحرص أبنائه على التضحية بالغالي والنفيس لحفظ أمن الوطن وسلامته، فتحية إلى أبطال يؤدون واجبهم بكل أمانة وإخلاص، ويضحون بالغالي والنفيس من أجل رفعة هذا الوطن، وتحقيق أمن وسلامة مواطنيه .. أبطال كانوا ومازالوا وسيظلوا دائما على عهدهم بالتضحية بأرواحهم من أجل حفظ مقدرات أرض الكنانة.

إقرأ أيضاً : في عيدها الـ72| أبطال الداخلية.. شرطة عصرية و«قد المسـئولية»


 

 

 

;