يوميات الاخبار

هل تحققت نبوءة سيد البنائين؟

حازم نصر
حازم نصر

«كمهندس طالما أملك الوسيلة لإراحة الناس فإن الله لن يغفر لى أن أرفع الحرارة داخل البيت 17 درجة مئوية متعمدا .. سيد البنائين حسن فتحى» مارس 1989

سعيت جاهدا لإجراء حوار صحفى مع سيد البنائين المرحوم حسن فتحى أحسن مهندسى العالم .. قدمت من المنصورة للقاهرة آملا فى إجراء الحوار .
استنفدت كل محاولات تحديد موعد مع تلك القامة المعمارية المصرية العالمية الفريدة حيث باءت جميعها بالفشل .. لجأت للراحل الكبير الدكتور كمال الدين سامح رئيس قسم العمارة بهندسة القاهرة فى ستينيات القرن الماضى وأحد رواد العمارة الإسلامية المعاصرة نظرا لصلته الوثيقة بحسن فتحى علّه ينجح فى تحديد الموعد .. أكد لى بأن الرجل مريض ولا يرد على تليفون ولا يوجد بالمنزل إلا السيدة النوبية القائمة على خدمته وقال لى :
لا تنتظر موعدا إن أردت إجراء الحوار !
عملت بالنصيحة واتجهت إلى حيث يقيم الرجل مباشرة علّنى أحظى بوقت يسمح بطرح عشرات الأسئلة التى تزاحمت فى رأسى .
كنت قد أعددت نفسى للحوار جيدا .. قرأت الكثير مما كُتب عن حسن فتحى وفكره المعمارى بجانب تصفح كتابه الأشهر « عمارة الفقراء « الذى صدر باللغة الانجليزية وبعدها صدر مختصرا عن وزارة الثقافة المصرية عام 1969 ونال شهرته الواسعة بعد أن قام الدكتور مصطفى إبراهيم فهمى بترجمته وصدر عن مؤسسة أخبار اليوم لاحقا فى سلسلة « كتاب اليوم « حيث قدمه الراحل الكبير جمال الغيطانى ..وتمت ترجمته بعد ذلك لمعظم لغات العالم .
وفى تقديمه للكتاب قال الغيطانى :
« أصبح فكر المهندس حسن فتحى سيد البنَّائين ملكًا للإنسانية كلها ..أفكاره المعمارية تتجسد فى مصر وأمريكا وأوروبا وآسيا.. إنها ليست مجرد أفكار هندسية.. ولكنه بحث أصيل ودؤوب فى الشخصية والهوية والتراث المعمارى والفكرى والحضارى للشرق «
المنزل الأثرى الذى كان يقيم به سيد البنائين يحمل رقم 4 بدرب اللبانة بالقرب من القلعة وكان حسن فتحى قد قرر العَيْش به بعد عودته من اليونان إلى القاهرة عام 1963 بعد عدة سنوات قضاها هناك ..وظل مقيما بالمنزل بقية حياته أى أكثر من ربع قرن من الزمان حتى لقى ربه فى نوفمبر عام 1989 عن عمر ناهز التاسعة والثمانين عاما .


البيت سبقه فى الإقامة به العديد من المشاهير من المصريين والأجانب على مدار قرابة ثلاثة قرون إلا أن اسمه ارتبط به ليصبح «بيت المعمار المصرى « بعد أن تم تحويله لأثر إسلامى يحمل رقم 497 .


صعدت درجات البيت الخشبية إلى أن وصلت للغرفة التى تعلوه .. قابلتنى السيدة النوبية ببساطتها وتلقائيتها وأشارت لى بالدخول إلى الغرفة مباشرة بعد أن عرفت المهمة التى حضرت من أجلها ولسان حالها يقول لن تظفر بشىء .


الغرفة فسيحة جيدة التهوية بها فتحات متعددة من الواضح أنها لم تكن فتحات عشوائية لكن تم تصميمها بما يسمح بالحفاظ على درجات الحرارة بها لأقل ما يمكن صيفا وأعلى ما يمكن شتاء ..كما أنها حجرة بسيطة الأثاث خالية من الأجهزة الحديثة ولم يكن بها أى مظهر من مظاهر البذخ .. فبجانب السرير كانت هناك بعض الكراسى الأرابيسك التى يجلس عليها زواره بجانب ترابيزة خشبية صغيرة .


وقفت مشدوها أمام الرجل بوجهه الوضاء الذى يعكس سلامة نفسه ونقاء سريرته ..اقتربت منه وهو مستلقٍ على ظهره لعدم قدرته على الجلوس .. تبخر حلمى فى إجراء الحوار المستفيض كما كنت آمل ..فلم أرد أن أشق عليه فاكتفيت بعدد محدود من الأسئلة التى جاءت إجاباته تلغرافية عنها .
الرجل كأنه كان يستشرف المستقبل وكأنه أدرك مبكرا ما ستعانى منه البشرية من جراء التغيرات المناخية فجاء رده على الأسئلة بكلمات موجزة ومعبرة لعل من أهمها :
« كمهندس طالما أملك الوسيلة لإراحة الناس فإن الله لن يغفر لى أن أرفع الحرارة داخل البيت 17 درجة مئوية متعمدا»
كان شيخ المعماريين يحرص على عدم زيادة درجة الحرارة داخل المسكن فحرص على استخدام تلك العناصر المعمارية من قباب وقبوات كعنصر إضاءة وتهوية بإضافة فتحات بها وإضافة عناصر أخرى مثل المشربيات وملقف الهواء .
وكان يعتقد بأن لكل بلد أفكاره المعمارية وطبيعته البيئية ومواد البناء التى تصلح له ويعتبر أن من أكبر الأخطاء التى يقع فيها المعماريون هو نقل الأفكار المعمارية من بلد لآخر دون احترام الواقع المناخى المحلى .
أشار لى بتلك الفتحات فى حجرته والتى تسمح بتيارات الهواء والضوء لها فقد كان الضوء الطبيعى عنصرا هاما فى تصميماته وكانت عمارته تطلق دعوة صريحة لإيصال الضوء الطبيعى لكل رقعة فى المسكن فاستخدم عناصر تساعد على ذلك مثل عمل فتحات فى القباب والقبوات الموجودة فى السقف واستخدم أيضاً المشربيات واستغل الزخارف فى ذلك عن طريق استخدام زخارف مشعة وعاكسة لضوء الشمس مثل الفسيفساء الزجاجى ومربعات السيراميك والرخام البراق والخشب المرصع بالفوانيس والزجاج المعشق والكثير من العناصر التى تحقق هذا الغرض .


استرجعت حوارى المقتضب مع المرحوم حسن فتحى بعد قرابة الخمسة وثلاثين عاما نتيجة التغير الحادث فى المناخ ولن ننسى الارتفاع الكبير فى درجات الحرارة والرطوبة الصيف الماضى والتقلبات الحادة المتوقعة هذا الشتاء والتى عبر عنها أنطونيو جوتيريش أمين عام الأمم المتحدة مع مطلع هذا العام 2024 بقوله :
« بلغت درجات الحرارة العالية مستويات قياسية فى العام الماضى ولا تزال الظواهر الجوية المتطرفة تؤثر على الناس فى جميع أنحاء العالم .. لقد حان الوقت للانتقال من الوعود إلى العمل ..العمل المناخى الملموس «
فهل تحققت نبوءة سيد البنائين ؟!
القرية النوبية بأمريكا
لا أنسى يوم إجراء هذا الحوار لقائى بالباحث المعمارى الأمريكى الشاب راند كارتر الذى وجدته جالسا مع شيخ المعماريين يومها وكان قدم من أمريكا خصيصا لاستكمال بحثه حول :
«عمارة حسن فتحى»
فقد غادرنا غرفة الرجل سويا بعد أن أدركنا أن الرجل فى حاجة إلى الراحة واستكمال جرعات الدواء .
الباحث الأمريكى تحدث معى أثناء المغادرة عن شيخ المعماريين بفخر كبير معربا عن سعادته البالغة برؤيته وأكد لى بأنه درس قرية دار السلام بنيو مكسيكو إحدى الولايات الأمريكية حيث أقيمت القرية على مساحة 1200 فدان فى وادى نهر شاما وصممها حسن فتحى لتستوعب 100 أسرة وكانت تتكون من مسجد فى مركز القرية ومدرسة دينية وسكن المدرسين ومعهد للدراسات الإسلامية المتقدمة ومتاجر ومركز للنساء ومكتبة وعيادة طبية .


وأضاف بأن حسن فتحى زار الموقع عام 1980 وقدم تصميماته بدون أتعاب حيث أحضر معه 2 من البنائين النوبيين لنقل خبراتهما وتدريب العمالة الامريكية على تلك الطريقة التقليدية فى البناء .


وقام بشرح وعرض فكره وتصميمه أمام 300 من المعماريين ومسئولى الحكومة من كل أنحاء الولايات المتحدة .. ورغم ما واجه المشروع من تحديات بعد وفاته حيث الاختلاف الثقافى إلا أن فكره المعمارى فى تصميم القرية ما زال محل اهتمام كبير .
كارتر قال لى وقتها :
لا بد أن تستفيدوا من فكر حسن فتحى المعمارى ليس لحل أزمة الإسكان ـ التى كانت مستحكمة وقتها فى مصر ـ فقط بل استعدادا للتغيرات المناخية القادمة وما سينجم عنها من ارتفاع كبير فى درجات الحرارة .


واستطرد كارتر :
البناء عند حسن فتحى لم يكن مجرد جدران وسقف بل كان حياة وحضارة وتراثًا لم يمت بل لا زالت روحه حية ويجب أن تحرصوا على استمرار التواصل مع هذا التراث دون انقطاع .
قرية القرنة
فى عام 1946 تم اختيار سيد البنائين لتنفيذ مشروع القرنة الجديدة غرب مدينة الأقصر وانتهى منها عام 1952 ودخلت قائمة التراث العالمى 1971 ..وسجل قصة بنائها فى كتابه « عمارة الفقراء «
بدأ المشروع ببناء 70 منزلا كان لكل منها صفة مميزة عن الآخرين حتى لا يختلط الأمر على سكانها ..واعتمد فى بنائها على الخامات والمواد المحلية بجانب المسجد وقصر ثقافة على الطراز الرومانى وحمام سباحة .


واكتسبت القرية أهمية سياحية وتراثية كبيرة بعد أن تم إنقاذها مؤخرا من خلال مشروع كبير تم بالتعاون بين الجهاز القومى للتنسيق الحضارى واليونسكو .. والمشروع يعد إنجازا هاما للثقافة المصرية وتجربة رائدة للحفاظ على إرث ثقافى ومعمارى فريد .
عمارة البسطاء كانت الأمل الذى طالما راود سيد البنائين وعاش به ودفعه لمواصلة حديثه للناس ليمتلئوا بالفكرة عل أن ينجح بعضهم فى تحقيق حلمه كمعمارى مصرى عايش هؤلاء الناس وأصغى طويلاً لنغمات الجدران والأسطح فى بيوت بسطاء مصر .