«المقبرة» قصة قصيرة للكاتب حسن عبدالرحمن

قصة قصيرة للكاتب حسن عبدالرحمن
قصة قصيرة للكاتب حسن عبدالرحمن

انتفضت من مكانها فجأة وهى تنظر في مرآتها.. وكأنها رأت شبحاً.. كانت فتاة جميلة مدللة تتمتع بجمال صارخ، يحسدها عليه أقرانها.. وكانت تعرف ذلك وكانت كلما مرت من أمام المرآة تمكث أمامها وقتاَ طويلاً.. عاودها نفس الإحساس مرة أخرى بأن هناك حركة وصوتاً ما تحت السرير.

نظرت إلى المكان الصادر منه الصوت في فزع ثم خرجت مسرعة من الحجرة وأغلقت الباب خلفها الذي أحدث صريراً صم أذنيها لكنها وجدت نفسها في نفس حجرتها مرة أخرى، حاولت فتح الباب, فتحت فمها لتستغيث بأمها وأخوها.. كانت أمها وأخوها يجلسون أمام التلفاز لمشاهدة المسلسل اليومي.. فشلت محاولتها ولكنها سمعت صوتا يهمس في أذنيها يدعوها للرجوع مرة أخرى إلى الغرفة فعادت رغما عنها وجدت يد صغيرة أسفل السرير ودون إرادة منها رفعت الملاءة لتجد عين لامعة بيضاء تماماَ ولها شق من الوَسَط مثل عين القطط انتفضت ودوت صرختها أرجاء الحجرة وفقدت الوعي..

ومر وقت لا تعرف هي كم مر من الوقت.. دلف إلى حجرتها أخوها الصغير وجدها تجلس أمام المرآة دعاها إلى الغداء لكنها لاحظت إنه دخل من الباب الموصد وكانت هيئته كإنسان آلي عيناه متحجرة ووجهه يميل إلى اللون الأصفر برقت عيناها وقالت في نفسها لعله دخل من الباب وأنا لم ألاحظ، ولكنه خرج من الباب بنفس الطريقة التي دخل بها خرجت إلى حجرة الطعام حيث أعدت أمها الغداء ولكنها رأت شاباَ يجلس بجانب أخيها على المائدة عادت مسرعة إلى حجرتها وبدلت ملابسها وارتدت ملابس أكثر احتشاماً ولم تنس أن تجلس إلى المرآة وهى تتمايل هنا وهناك وتضع بعض المساحيق والعطور وتمشط شعرها تارَة وتارة أخرى تقف أمام المرآة في خيلاء.

 

في نفس الوقت امتدت يد صغيرة لونها أبيض كالثلج ولها أظفار تشبه حوافر الحيوانات وكانت تحاول أن تأخذها إلى داخل المرآة ارتدت إلى الخلف مسرعة لكنها اصطدمت بجسم خفي غير مرئي له رائحة عفنة وعندما وضعت يدها عليه وجدته لزجا وكانت أنفاسه تقترب منها وفجأة عين بزغت، كانت مستديرة وأخرجت لسان يشبه لسان الأفعى مقسوم إلى نصفين واقتربت منها ذهبت إلى باب حجرتها وخرجت بصعوبة وأغلقت الباب فاختفى...جلست بجوار أمها على مائدة الطعام ولم تستطع أن تأكل في ذلك اليوم وكانت شاردة..

ثم نظرت إلى أخيها وسألته كيف استطاع أن يدخل عليها الحجرة منذ قليل وكانت الباب موصداَ كيف؟ أكد لها أخوها إنه لم يكن بالمنزل منذ قليل وصدقت كلامه ثم نظرت إلى أخيها باندهاش..

 

استأذنتهم ودخلت حجرتها وهى مترددة من الخوف ونامت على سريرها وحاولت الهروب بالنوم.. لم تمر إلا خمسة دقائق وسمعت صوتاَ أسفل السرير نزلت من على السرير ورفعت الملاءة ببطء شديد وبيد مرتعشة فلم تجد شيئاً .. تنفست الصعداء وقالت لعله وهم .. نامت مرة أخرى وكانت تنام على جنبها الأيسر المقابل للحائط شعرت بيد صغيرة تتحسس كتفها فظنت إنها يد أخوها الصغير استدارت ببطء لتجد أخاها فعلاَ جالسا بجانبها على السرير ربما دخل الحجرة دون أن تشعر به .. ولكنها عندما نظرت إليه تحول إلى نفس المخلوق الذي شاهدته منذ قليل أسفل السرير وأخذ يردد كلمة الخلاص الخلاص عدة مرات حتى إنها كانت تتردد في أذنيها كأغنية عالقة منذ زمن ووضعت يدها على أذنيها لتوقف تلك الموجة الصارخة في عقلها.. سمعت نقرا على الباب ثم اختفى كل شيئاَ كما ظهر فجأة وسكت الصوت واختفي المخلوق..

رن هاتفها الذي كان بجانبها فارتعشت بقوة ووقت من فوق السرير كانت صديقتها المتصلة .. فصديقتها لها باع في الأعمال السفلية والدجل والشعوذة وتؤمن بهما حق الإيمان, تحدثت معها عن ما يحدث لها طيلة الأيام الماضية إلا أنها قالت لها لا يوجد غير الشيخ عليش فالحل عنده لأنه رجل مبروك وله كرامات فالخلاص من عنده والنجاة من عنده.. قالت لها نفس الجملة التي سمعتها من المخلوق وكانت تلتصق بعقلها من الداخل ومرة أخرى أخذت الجملة تتردد في أذنيها كأنها نَغْمَة موسيقية حادة.. ثم وافقت على مقابلة الشيخ عليش وهى مرغمة وكأن شيئاَ ما دفعها إلى الموافقة فاقترحت صديقتها أن يكون اللقاء بعد صلاة العشاء..

لَمْ تَنَمْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَوْ هَكَذَا ظَنَّت بَاتَت لَيْلَتِهَا فِي أَلْوَانِ مِنْ الكوابيس الْمُزْعِجَة . . لَكِنَّهَا عِنْدَمَا قَامَتْ مِنْ نَوْمِهَا قَرَّرْتَ أَنَّ تَذْهَبَ إلَى أَعَزّ صَدِيقِه لَهَا . . كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ صديقتها لَهَا بَاعَ طويل فِي الْمَسَائِلِ السُّفْلِيَّة أَوْ كَانَتْ تَدَّعِي هَذَا.. وكأن المكالمة لم تحدث وتكلمت معها من جديد.. ودار نفس الحديث مرة أخرى

تَحَدّثَت مَعَهَا واقترحت عَلَيْهَا الذَّهَابُ إلَى الشَّيْخِ عليش.. فَهُو الْوَحِيد الْقَادِرُ عَلَى فَكِّ طلَسْم الْعَمَلُ لِأَنَّهَا كَانَتْ مصْرِهِ أَنَّ إحْدَى الْفَتَيَات اللَّاتِي يحسدنها عَلَى جَمَالِهَا الْفَاتِن هُوَ مِنْ فَعْل هَذِهِ الْفِعْلَة وَدَس لَهَا الْعَمَل فِي مَكَان مَا.

وداخل صومعة الشيخ عليش الذي تملؤها رائحة البَخُور والمستكة والحبهان وتلك الأجواء السحرية وبعد أن دفعن أجر المشورة كانت تجلس هي وصديقتها في انتظار دورهن على أحر من الجمر..

عندها وعندها فقط انتظر عليش أن يخلو المكان كله من الجالسين وأخذ يعطل الوقت حتى تكون بمفردها ثم جلب مساعدته وأبعدت صديقتها بطريقة ما..وأصبحت الصومعة خالية إلا منها والشيخ عليش الذي قام بطقوسه.. كان الشيخ عليش وجهه كأي دجال تعرفون من خلال الأفلام ولا ينقص ولا يزيد إلا إنه بعين واحدة وكان يضع عليها منديل ليخفي بشاعتها أما باقي هيئته لا تختلف تماما كما تعودنا.. قام بطقوسه السحرية وأخذ يعدد الطلبات..

أخرجت تليفونها المحمول لكي تصور ما يقوله حتى تحفظه وتفعل ما يقول لأن ذاكرتها ضعيفة، ولكنه نهرها بشدة وبصوت متغير وأجش ليبث في نفسها الرعب.. وقال: لا لا هما لا يحبون الهواتف الذكية ..من الأفضل أن تكتبي بخط يدك.. هيا اكتبي طلباتهم بسرعة ..هيا..

بحثت في حقيبتها بيد مرتعشة عن ورقة وقلم فلم تجد.. ولكنها وجدت أمامها ورقة صفراء تشبه البردية وبجانبها محبرة.. ويخرج منهم رائحة السنين أو بالأحرى رائحة عفن تبدو جليه..

كتبت كل ما يملى عليها من طلبات.. وكانت تتوقف عن الكتابة عندما لا تعرف شئ عن المطلوب.. ولكن عليش طمأنها أن معظم المطلوبات ستجدها عند مساعدته.. بالطبع بعد أن تدفع لها المبلغ المطلوب والمبالغ فيه..

أصر عليش على أن تشرب من منقوع قد اخترعه بمعرفته.. فمد يده داخل جلبابه وأخرجه.. لكنها رفضت أن تشرب منه..ولكنه هددها إن لم تشرب منه كل ليلة في منتصف الليل تماماَ فإن الجن الذي يظهر لها لن يخرج منها طوال حياتها.. فتجرعت منه على مضض..فكان مذاقه كالعلقم ولكنها تحملته رغماً عنها حتى تزول الغمة.

خرجت من عند عليش ورأسها يدور بشدة ولكنها لاحظت أن ما كتبته بيدها تحول إلى خط آخر يشبه خط عليش.. عندها ناولتها مساعدته جميع الطلبات إلا الطلب الأخير.. فكان محتماَ عليها أن تأتي به هي بنفسها

فكان الطلب بشع شديد البشاعة.. حيث طلب منها الدجال أن تنتظر في ليلة حالكة السواد ويكون القمر هلال وفي منتصف الليل.. عليها أن تذهب إلى مقبرة حددها هو.. وتأتي بجثة رجل ميت حديثاَ..وتمارس عليه بعض الطقوس والطلاسم التي قد كتبها لها..وما ستفعله بالجثة حتى يذهب الجن الذي يتلبسها.

وفي غرفتها حيث دخلت.. دون أن يلحظها أحد.. دخلت وأحكمت المزلاج وأخرجت من حقيبتها الأدوات التي ابتاعتها من مساعدة عليش..ووضعتها أمامها.. ثم سحبت السجادة التي كانت في منتصف الغرفة ووضعتها على جانب وأخرجت من الأدوات قلم الوان ورسمت دائرة بقطر نصف متر.. ثم وضعت السَّجادة مرة أخرى حتى لا ينكشف أمرها ولأن الطقوس لا تكتمل الا بوجود الجثة... فقد خرجت من حجرتها وذهبت إلى الحمام وقرأت هناك بعض الطقوس كان قد كتبها لها الدجال.. وخرجت مسرعة بعد أن شعرت بشئ يهمس إليها بأن كل ما تفعله لم يجد نفعاَ معه.. فوضعت يدها علي أذنيها لتتخلص من هذا الهاجس اللعين وخرجت مهرولةَ إلي حجرتها حيث هدأ الصوت تماماَ..

لم يتبق إلا ليلة واحدةً على بلوغ الليلة الحالكة التي ستذهب فيها إلى المقبرة لاستخراج الجثة المتفق عليها..وكانت كلما نظرت إلى عقارب الساعة وسمعت صوت رنينها وصداه في أذنيها أيقنت أن الوقت قد اقترب وحانت لحظة لقاءها مع جثة ستخرجها من مكانها وتفعل بها ما أمر به عليش..

وها قد حان اليوم.........

على ضوء المصباح الذي تحمله في يديها..بزغ لها من الظلام فجأة، عينان جاحظتان بالقرب من المقبرة..انتزع قلبها من مكانه وتسمرت قدماها.. ولكنها رأت على مقربة من قدميها فَتْحَة المقبرة وذلك الرجل ذو العين الجاحظة ما هو إلا حارس المقابر قد أعد لها المقبرة وفتحها وأشار لها بالدخول فدست له النقود في جيبه. وانصرف مبتعداً عن المكان وتلاشى في جيب الظلام.

وعلى ضوء المصباح الخفيت خطت أولى خطواتها المرتعشة داخل المقبرة فانكفأت على وجهها بعد أن تعثرت في شيء ملقى على الأرض.. فرأت نفسها وجه لوجه أمام رأس بشرية ملقاة بعيدة عن باقي الجسد وعيناها تنظر إليها بحدة.

مدت يدها بأعجوبة واستطاعت أن تغلق عين الجثة ثم تنهدت وعلى ضوء المصباح وجدت باقي الجثة. ثم أخرجت الورقة التي كان قد كتبها لها عليش مسبقاَ الذي أصر أن تكون الجثة مكتملة وغير ناقصة قطعة واحدة وليس قطعتان.. ووجدت أيضا إبرة وخيط مما يستخدمه الأطباء في خياطة الجروح وكأن عليش كان يتوقع أن الجثة مقطوعة الرأس..وعلى ضوء المصباح راحت تخيط الرقبة وتلصقها بالجسد وَسَط رائحة شديدة القذارة ودماء تسيل من الرقبة هنا وهناك.. وأخيرا فرغت من تجميع الرقبة مع الجسد ثم راحت في إغماءة لمدة من الزمن.

ولما أفاقت وجدت نفسها في مكان آخر لا يقل قذارة ورائحة عن المقبرة..كانت غرفة في مكان ما تحت الأرض ولكن الإضاءة فيها لا بأس بها.. وجدت مرآة كبيرة ملتصق عليها ورقة بخط الشيخ عليش وبها بعض التعويذات والطلاسم وكيفية التعامل مع الجثة حتى يذوب الجني الذي يتلبسها وتعود إلى حياتها الطبيعية مرة أخرى.

لكنها وجدت جثة الرجل قد تغيرت بجثة صديقتها التي أحضرتها بنفسها إلى وكر الشيخ عليش وعرفتها عليه.. ولكن قال لها هاجس إنها لا ترى جيداَ ولابد إنها جثة الرجل وأن ما تراه غير حقيقي.. ثم أخرجت الزيوت ودهنت الجثة ورسمت دائرة على الأرض كما رسمتها من قبل في حجرتها وراحت تكتب فيها بعض الطلاسم والرسومات.. ثم شرعت في حرق الجثة.. ثم أخذت بعض الرماد ووضعته على جسدها وفوق شعرها وبين عينيها.. ثم ذهبت إلى المرآة تتأمل نفسها.

في اللحظة التي امتدت يدان من داخل المرآة وأخذتها إلى الداخل ثم تحولت المرآة إلى كتلة من الدُّخَان واختفت تماماَ..

وجدت نفسها في الجانب الآخر من المرآة وعلى ضوء مصباح هاتفها المحمول رأت تحت قدميها نفق تصدر منه رائحة العفن وكأنه رائحة جثة مر علي موتها عدة أسابيع لأن الرائحة حديثة كان النفق له درجات متجهة إلى الأسفل وكانت هناك بعض النقوش والطلاسم على جانبيه مكتوبة بالطريقة العكسية ويبدو أن كل شيء خلف المرآة سيكون كذلك..

كلما اقتربت من القاع زادت حدة الرائحة وعلت أصوات كأنها فحيح الأفاعي.. فجأة بزغ في الظلام المخلوق الصغير الذي كان يظهر في الحجرة وأشار لها بأصبعه أن تتبعه.. انتهت بها خطواتها إلى حجرة لها باب عندما أشار لها المخلوق أن تنتظر ثم اختفى فجأة كما ظهر فجأة.. سمعت أصوات صادرة من خلف الباب فأخذها الفضول إلى النظر من فَتْحَة الباب.. وجدت مجموعة من الفتيات قد التفت حول رجل جالس..

كانت الفتيات في منتهى الجمال يلبسن ملابس بيضاء وتمسك كل منهن مرآة في يدها..أما الرجل الجالس فكان طوله ضعف الرجل العادي له عيون مستديرة كانت تجويف العين بلا عيون وشعره أشعث ولونه أحمر وله أسنان بارزة وحادة وينزل من فمه دماء باللون الأزرق القاتم..وحوله سبع مخلوقات تشبه الكلاب وهم ليسوا بكلاب كأنهم خليط يصدرون أصوات عالية كالحشرجة تصم الأذن.. كل ذلك شاهدته من خلال فَتْحَة الباب الصغيرة.. وهي لا تقوى على الصراخ ولم تقو على أن تحرك ذراعها أو تستغيث..

كان المكان كأنه حفل عرس فبدأت الفتيات تغني وتدور حول المارد الجالس وتلف حوله بسرعة حتى تكاد أن ترى ملامحهم وكذلك الكلاب كانت تحاول أن تلتهم إحدى الفتيات وهم يصدرون الأصوات العالية.. كانت الغرفة تتلون باللون الأحمر وتتحول الألوان إلى اللون البنفسجي وتشتعل النيران أسفل الفتيات وحرقتهم جميعاَ ثم فجأة رجعت الفتيات مرةَ أخرى ولكن تبدلت هيئتهم إلى أشكال أخرى أكثر بشاعة لا يوجد لهم عيون ويخرج من أنوفهم وأفواهم دماء باللون البنفسجي وملابسهم سوداء وكانوا يرقصون كأنهم موتى.. فجأة رأت الفتاة عين أمام عينها من فَتْحَة الباب من الجهة الأخرى.. تراجعت إلى الوراء واصطدمت بالحائط وغابت عن الوعي.. ثم وجدت نفسها داخل الغرفة أمام المارد الجالس على الكرسي ينظر إليها بعينه الفارغة كان منظره بشع.. بعدها علمت إنه إله الجمال الذي يظهر للفتيات اللاتي يقفن أمام المرآة كثيراَ.. عندما همت الثلاثة فتيات بتزينها وأعدادها لكي تكون زوجة له وكانت حفلة العرس الذي شاهدتها منذ قليل كانت معدة لها ولاستقبالها.. تحول المارد إلى ثعبان لونه أحمر وألتف حولها وطوقها من قدميها إلى صدرها وقربها منه.. وكانت رائحة أنفاسه هي نفس الرائحة العفنة التي كانت تزكم أنفها عند النفق.. أخرج لسانه المشقوق إلى نصفين وأخذ يلعق في وجهها.. ثم اعتصرها بشدة..ودخل بها عبر جحر كبير يشبه الكهف داخل الحائط.