عاجل

يوميات الأخبار

إحسان عبد القدوس

رفعت رشاد
رفعت رشاد

لم يكن طريق إحسان فى الصحافة معبدا أو مليئا بالورود، لقد سدد من حريته الثمن ودخل السجن.

عندما بدأت الكتابة عن إحسان عبد القدوس وجدتنى أطرق شعابا متعددة ومتنوعة. وجدتنى أذهب إلى إحسان الصحفى الكبير الذى تربع على قمة الإدارة والتحرير فى المؤسسات الصحفية الكبيرة، وانتبهت إلى إحسان الأديب اللامع الذى أثار النقاد والقراء بموضوعات رواياته وقصصه الجريئة التى طرقت مجالات غير معهود وجودها فى الأدب العربى بشكل عام، ولكن لم أقدر على تخطى إحسان السياسى الذى خاض المعارك.

ولد إحسان فى يناير وتوفى فى يناير، يناير الأول فى 1919، ويناير الأخير كان عام 1991. نشأ إحسان فى بيت جده لأبيه محمد عبد القدوس، الشيخ أحمد رضوان الأزهرى، وكان يجتمع فى بيته رجال من نفس نوعيته. ترعرع إحسان بعيدا عن والدته روز اليوسف المتحررة التى تعمل بالفن ممثلة وبعد ذلك صحفية تملك مجلة ذات انتشار سياسى وفنى واسع. لم يستمر زواج روز اليوسف ومحمد عبد القدوس كثيرا، تطلقا بعد فترة قصيرة من الزواج. بعد ولادة إحسان تمسك جده بأن يبقى معه فى بيته بعيدا عن أمه. تولت عمته تربيته وبقى إحسان يدين لها بما قدمته له. 

كان إحسان ثمرة حب قوى بين فاطمة اليوسف الممثلة والمهندس محمد عبد القدوس الذى كان يعمل فى مصلحة الطرق والكبارى ويميل إلى العمل فى الفن والتمثيل. فى حفل للنادى الأهلى الذى كان عبد القدوس عضوا به كانت روز اليوسف ضمن الفرقة الفنية التى تقدم أعمالها فى الحفل فصعد عبد القدوس إلى خشبة المسرح وقدم فاصلا من المونولوجات المرحة فأعجبت به وتحابا وتزوجا وغضب والده على هذه الزيجة فاستقال عبد القدوس من عمله وتفرغ للفن، لكن طلاقهما كان سريعا بعدما أثمر وجود إحسان. 

روز المجلة 

فى 1925 أصدرت روز اليوسف مجلتها التى أطلقت عليها نفس اسمها. وكان محمد التابعى الصحفى الكبير صديقا لروز اليوسف عرفته من خلال كتابته النقدية عن المسرح رغم أنه كان موظفا كبيرا بالبرلمان الذى كان معطلا فى ذلك الوقت. عرضت عليه رئاسة تحرير المجلة وأن يكتب مقالات سياسية وبعد تردد وافق التابعى وكانت موافقته مكسبا كبيرا للصحافة المصرية.

أضفى التابعى على الصحافة صورة جديدة ولغة حديثة سهلة. كان التابعى مدرسة جديدة فى الصحافة تخرج فيها إحسان عبد القدوس واتبع فى كتاباته الأسلوب المناسب للغة الصحافة وحتى رواياته كانت قراءتها سهلة لكل من يقرأ. لكن لم يكن إحسان صبيا أو شابا سهل القياد ولم يكن مطيعا لكل ما تطالبه به أمه، كان له شخصيته المستقلة التى حرص على أن يظهرها لنفسه وللناس باعتبار أنه ليس «ابن الست» كما كان البعض يلمح إلى ذلك فى كل مراحل حياته. 

إحسان والفشل

فى 1942 تخرج إحسان فى كلية الحقوق. رغب فى العمل كمحام. التحق بالعمل فى مكتب أحد مشاهير المحامين لكنه لم يكن يملك أهم مهارات المحاماة وهى إجادة الكلام والبراعة فى الخطابة ومهارة الجدل والقدرة على خوض الصراعات القانونية وغيرها. كان يعوض عن ذلك بالصراخ فى المحاكم والمشاجرات مع القضاة، لكنه لم يفشل فى المحاماة فقط، فبعد زواجه كان فى حاجة ماسة للمال فقرر أن يعمل فى تجارة الأرز، وكما حدث فى المحاماة حدث فى تجارة الأرز حيث تشاجر فى صفقته الأولى مع التاجر وفشلت محاولاته فى التجارة. 

كانت زوجته سيدة رزينة فأشفقت عليه من المتاعب بينما والدته لن تتردد فى عودته للمجلة، لكن إحسان كان «رأسه ناشف»، فقرر أن يكتب سيناريوهات مستفيدا من قدراته فى الكتابة.

كتب بالفعل سيناريوهين وذهب بهما إلى محمد عبد الوهاب صديق والده وخلال صعوده إلى مكتبه قابل عزيزة أمير المنتجة المشهورة فطلبت منه الاطلاع على ما كتبه وعرضت عليه مناقشته فى مكتبها، ولما قرأت ما عرضه عليها لم تتكلم فى أى شيء، أخرجت دفتر الشيكات وحررت له شيكا بمبلغ كبير وقتها قد يكون 260 جنيها. ذهل إحسان من حجم المبلغ وهرول عائدا إلى بيته سائرا على قدميه وعندما فتحت زوجته الباب ألقى لها بالشيك وذهب ليقفز و»يتشقلب» على السرير. 

الصحفى السياسى الأديب 

بدأ إحسان حياته الصحفية بقصة طريفة. بعد ظهور نتيجة امتحان البكالوريا عام 1938 كافأته والدته برحلة إلى الإسكندرية لقضاء الإجازة. خلال وجوده تلقى من والدته مكالمة تخبره فيها أن مدير مكتب المجلة بالإسكندرية مريض وأن عليه - إحسان - أن يتوجه إلى رئيس الوزراء ليحصل منه على آخر تطورات الموقف السياسى. وضع سماعة التليفون وامتلأ قلبه رعبا من هذا الموقف غير المعتاد. نفض عن نفسه الرغبة فى العودة للنوم وأسرع لمقابلة محمد محمود باشا رئيس الوزراء - الحديدى -.

وجد الباشا وسط كوكبة من مشاهير رجال السياسة فتعثرت خطاه لينقذه الحظ بوجود الشاعر والصحفى كامل الشناوى الذى كان يعرفه فرحب به ودعاه للدخول وقدمه إلى رئيس الوزراء الذى رحب به بعدما عرفه، وتعثرت الكلمات على لسان إحسان ولم يكن منه إلا أن قال لرئيس الوزراء «أمى بتسلم على سعادتك.. وبتقولك عاوزة شوية أخبار»..

كانت موجة الضحك التى انتابت الحاضرين كفيلة بأن يغمى على بعضهم أو أن يسقط الآخرون من فوق مقاعدهم. تدخل الدكتور محمد حسين هيكل لكى يطيب خاطره وأسرع يمليه بعض الأخبار الآنية. 

لم يكن طريق إحسان فى الصحافة معبدا أو مليئا بالورود، لقد سدد من حريته الثمن ودخل السجن بعدما كتب عن حادث فبراير 1942 وإكراه الإنجليز الملك فاروق على تعيين حكومة الوفد، وكانت إقامته فى سجن الأجانب. بعد خروجه من السجن جلس إحسان فى موقع رئيس تحرير المجلة. 

الأسلحة الفاسدة

نما إحسان فى بيئة دينية فنية صحفية، واستطاع أن يصيغ لنفسه شخصية تجمع تلك المتناقضات فكان شخصا مسالما ينفر من الصراعات ولم يمارس الصراعات إلا فى مقالاته السياسية التى كانت تهز جدران الحكم فى ذلك الوقت. كانت قضية الأسلحة الفاسدة فى أربعينات القرن العشرين ومازالت أشهر التحقيقات التى نشرت فى الصحافة المصرية وكان كاتبها وناشرها إحسان عبد القدوس. لم يكتب إحسان إلا بعد أن تتبع صفقة الأسلحة منذ التعاقد مع الشركة الموردة وحصل على أسماء جميع المتصلين بالصفقة وأسماء جميع الضباط الذين كانوا على معرفة بها وأعضاء اللجان التى بتت فى الصفقة وتاريخ كل قطعة سلاح وكيف رفض المختصون تجربتها خوفا على حياتهم.

حصل إحسان على كل تلك المستندات من خلال جهده كصحفى مخضرم متقمصا دور رجال المباحث، كما كان هناك من الضباط الأحرار من مده ببيانات ووثائق، والطريف أن إحسان حوكم فى محكمة بالإسكندرية بشأن ما نشره، ولم يكن لديه المستندات الدامغة التى تتيح له أن ينفد بجلده من العقوبة، إلا أنه خلال سفره إلى الإسكندرية من محطة مصر احتك به شخص طويل القامة احتكاكا بسيطا لم يلاحظه حتى المحامى المرافق له ودس فى جيبه مجموعة من الأوراق على طريقة الروايات البوليسية، وكان هذا الشخص رسول الضباط الأحرار وكانت الأوراق عنوان الحقيقة التى قدمها إحسان فى المحكمة. 

كانت مقالاته معولا يقوض بنيان الظلم والفساد فى ذلك العهد. واصل إحسان نجاحاته الصحفية وصار نجما من كبار الصحفيين. وفى الخمسينات كتب «الجمعية السرية التى تحكم مصر» دعا فيه مجلس قيادة الثورة إلى التخلى عن أسلوب الجمعيات السرية الذى لم يعد يصلح للحكم. وكان مصيره الإيداع فى السجن ولم يفلت من العقاب إلا بقرار من عبد الناصر الذى استمر محاولا ترضيته والتخفيف عنه. وكاد إحسان أن يلقى به مرة أخرى فى غياهب السجون بتلفيق تهمة له وفى اللحظة التى كان فيها يتعرض للضغط ومطالبته بالاعتراف بجريمة الانقلاب رن جرس التليفون ليعطيه الضابط السماعة فيجد جمال عبد الناصر على الخط ويعتذر له ويطلب منه قبول اعتذار عبد الحكيم عامر المسئول عما جرى له. كانت تجربة السجن وتعرضه لها مرة أخرى سببا فى فقدانه الثقة بما كان يبشر به لذلك أعطى وقتا أطول وجهدا أكبر للأدب وكتابة الروايات والقصص. 

واصل إحسان نجاحاته الصحفية وتولى رئاسة مجلس الإدارة والتحرير فى أكبر المؤسسات وفى أخبار اليوم تخطى توزيعها المليون نسخة وأعطى الفرصة لتلاميذه لكى يلمعوا ويصيروا نجوما كبارا فى شارع الصحافة.  

تأميم الصحافة

كتبت د. أميرة أبو الفتوح «إحسان عبد القدوس يتذكر» صرح فيه إحسان بدوره فى مسألة تأميم الصحافة. قال: «كتبت فقرة صغيرة فى روز اليوسف أطالب فيها بتنظيم الصحافة داخل الاتحاد القومى - التنظيم السياسى الحاكم قبل الاتحاد الاشتراكى - بعد النشر اتصل بى عبد القادر حاتم وزير الإرشاد القومى وقال: الرئيس جمال عبد الناصر أخذ برأيك وسيتم تأميم الصحافة». 

بعد التأميم أبقى على إحسان رئيسا لروزاليوسف وكان الوحيد الذى بقى من ملاك الصحف ولحقه مصطفى أمين. أبدى إحسان ندمه بعد ذلك على مقاله بسبب ما حدث وكتب عن مشاعره تجاهه. 

اتهم إحسان بأن طليعة أدباء الفراش فى الأدب العربى، وأنه يشبه ألبرتو مورافيا فى إيطاليا. وناقش مجلس الأمة الذى كان يرأسه أنور السادات عام 1965 سؤالا للحكومة من نائب عن رواية «أنف وثلاثة عيون» التى وصفها بأنها رواية متحررة. ورد عبد القادر حاتم وزير الثقافة قائلا: الحكومة لا تتدخل فى الإبداع الأدبى ومن لديه اعتراض على أمر ما عليه أن يلجأ للقضاء. 

كان جمال عبد الناصر يقرأ لإحسان ويبلغه رأيه فيما يقرأ وكثيرا ما أمر بعدم التعرض لأعمال معينة لإحسان. وكان إحسان يبدى أسفه لأن هؤلاء المهاجمين لم يذكروا له روايات: فى بيتنا رجل، الرصاصة لاتزال فى جيبى، الخيط الرفيع، يا عزيزى كلنا لصوص، حتى لا يطير الدخان، أنا حرة، لا شيء يهم، والراقصة والسياسى وكلها روايات ليس بها ما يسمونه التحرر الزائد عن الحد. 

مراجع المقال: «إحسان عبد القدوس يتذكر» د.أميرة أبو الفتوح. «انقلاب فى بلاط صاحبة الجلالة» عادل حمودة وفايزة سعد. «انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية» شكرى عزيز ماضى. عدد مجلة القصة رقم 19 السنة الخامسة. «ذكريات فاطمة اليوسف» الكتاب الذهبى مؤسسة روز اليوسف.