ميرفت عمر تكتب عن النغمات الشاذة في "بطن الحوت"

مرفت عمر
مرفت عمر

لا أنكر انحيازي الشديد للفنان الذي يخلق عالما خاصا به في كل أو أغلب أعماله، حتى أني دون النظر لتيترات العمل الفني أكتشف أجواءه وأشير إليها، وهو ما دفعني لمتابعة مسلسل "بطن الحوت" لحلقته الأخيرة بذات الشغف والانجذاب اللذان تملكاني في حلقتيه الأولى والثانية.

 

فقد اختار المخرج أحمد فوزي صالح مساحته التي يبحر في عوالمها عملا بعد الآخر، تلمس عشقه للأماكن الحية ومفرداتها التي تلهمه الحكايا والأسرار المثيرة والجاذبة، فلا يتهاون في التعامل معها حتى لا تفقد بريقها، تستشعر دراسته الجادة للعمل الفني من اهتمامه بكل التفاصيل، وإدارته لكل عناصر العمل بوعي وثقة من موسيقى وديكور وملابس وحوار وتمثيل وغيرها.

 

تزامن البدء في عرض المسلسل مع ضجة أحدثها الدكتور أشرف زكي نقيب المهن التمثيلية بقرار غير مدروس يقضي بقطع التعامل مع مخرجه، تهافت الكثيرون على مشاهدة المسلسل لاكتشاف نوازع تلك الثورة وهذا "التيك توكر" المجهول الذي أثار تواجده حفيظة النقيب، تلك الجموع دخلت عالم صالح ولم تخرج منه، وتحول "مروان مشاكل" الذي لم يكن معروفا إلا في نطاق ضيق إلى اسماً شهيراً يتم ترديده في اللقاءات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، قد يدفع البعض الكثير من الأموال لإحداث ضجة كتلك لتحقيق أكبر عدد من المشاهدات.

 

كان حرص أحمد فوزي صالح على اختيار مواقع حية لأحداثه واحدا من أبرز عناصر نجاح المسلسل، فقد كانت فرصة رائعة لمشاهدة أجواء مصر القديمة التي تجهلها الأجيال الحديثة وغير المصريين، بل لا أبالغ أنني لم أشاهدها قبلا رغم عملي وحياتي في القاهرة وهو ما قد ينطبق على غيري، واستخدام زوايا واسعة للتصوير في بعض المشاهد وأخرى ضيقة جدا على مسافات طويلة أعطت بعدا أخر للعمل، أسكنتك داخل شوارعه وحاراته وأسطح منازله، كما لا يقل عنصر الضوء عن سابقيه بل مكملا للأجواء العامة والنفسية، أما الموسيقى التصويرية فقد كانت حدث ولا حرج من حيث اختلافها كليا وجزئيا عن أي عمل فني أخر، وعلى الرغم من توفيقها في أغلب المشاهد إلا أنها خرجت عن السياق في مشاهد أخرى.

 

الأداء التمثيلي لأغلب الفريق كان موفقا إلا أن باسم سمرة يسجل هدفا جديدا ينازعه فيه عصام عمر وعبد العزيز مخيون فقط، أما محمد فراج وأسماء أبو اليزيد وسماح أنور وبسمة ومحمد علاء والسوداني محمود السراج فقد حافظ كل منهم على موقعه دون تراجع، بينما كان واضحا بزوغ نجوم منهم ابنة هلال الصغرى التي قدمت دورا مميزا وحسام الحسيني الذي دخل عالما مختلفا أبرز قدراته التي لم نشاهدها قبلا، وتامر حبيب الذي قدم نفسه ممثلا بمساحة غير قليلة ومبشرة، وأحمد أبو زيد الذي قدم أولى بطولاته في فيلم "اختيار مريم" أوجد مكانه في الأعمال التليفزيونية، وبشكل عام جاء توظيف الممثلين مميزا ومانحا إياهم فرصا جديدة.

 

حمل المسلسل أبعادا متباينة وإسقاطات على مراحل معاصرة بأسلوب سلس، كان منها الفرصة التي استفادت منها الجماعات الإسلامية للظهور بعد سنوات من العمل في الخفاء، ودوافعها للدعم اللامحدود فيما يخدم مصالحها وخواءها إذا وضعت في نصابها الصحيح، أيضا النتيجة المتوقعة من التفرقة بين الأبناء في التعامل وهي الانتقام في أبشع صوره، إلى جانب الفرصة التي قد يتم استخدامها خاطئا ممن لا يملكون مفاتيحها، والقسوة التي تفرز عوالما مغايرة للأبناء.

 

النغمات الشاذة في المسلسل كان أبرزها السيناريو والحوار "بركات محمد" اللذان تعثرا قليلا بعد الحلقة السابعة، حيث اعتمدا على اخفاء بعض التفاصيل ثم كشفها في افتتاحيات الحلقات التالية، إلا أن وجود بعض الشخصيات لم يكن مبررا ولم تكشف الأحداث حتى نهايتها ضرورة لخلقها، أبرزها شخصية أمينة خليل التي أبرزت هيمنة "هلال" على الحياة الخاصة لأهالي منطقته، ظهور تلك الشخصية بهذا الكم من الاستسلام ثم التفكير في الانتقام والقتل كان ذا أبعادا نفسية لم تأخذ حقها في الكتابة، فخرجت ممزقة غير متناسقة مع سياق الأحداث، أيضا شخصية محمد علاء الذي كان لديه الدافع للتخلص من الشقيقين "هلال" و"ضياء" موجودا في هذا العالم الذي يقدمه المسلسل" إلا أن موعد قيامه به وشكله لم يكن موفقا إلى حد كبير.

 

الانتقام من قاتل ابنة الأخ لضياء "محمد فراج" بدى مبالغا فيه حتى الدقائق الأخيرة من انتهاء الأحداث، وعدم توضيح الرؤية للأب القاتل لابنته بأنها كانت متزوجة ولم تلحق العار به ليكون مصيرها القتل، واصرار الأم "سماح أنور" على غلاف القسوة مع ابنها "ضياء"  رغم توددها لأهل البيت من أجل ابنيها، وعدم توظيف ضيفة شرف كأمينة خليل فيما يخدم الأحداث، وموقف قاتل ابنة هلال الذي كانت عودته بعد هروب طويل غير متناسقا مع مجرم عتيد، فقد كان القتل نقطة تحول في شخصيته التي من المتوقع أنها قتلت وتلطخت بالدماء قبلا.


الموسيقى التصويرية "خالد الجابري" حالة خاصة جدا من الجمال خرجت عن السياق في بعض المشاهد، تلك المشاهد كانت فقدت التعاطف معها أو التأثر بها بسبب عدم التناسق مع الموسيقى الخلفية للأحداث، وعلى الرغم من ذلك فإن الحالة الموسيقية العامة للمسلسل ستظل متفردة ويسهل التعرف على المسلسل بعد أعوام من خلالها فقط، كما كانت طوال الأحداث عنصر فاعل وجاذب بل ربما آثر، ويضاف لقائمة النغمات التي شذت في بعض مشاهد مسلسل ناجح جدا خاتمة المسلسل التي ربما أرادها كذلك المخرج إيذانا بجزء جديد، أو إحداثا لصدمة ما عن المشاهد، إلا أنني أراها غامضة وسط مصير "بكر" غير واضح المعالم، خاصة وأن زوجته تعلمت استخدام المسدس للانتقام له.

 

يعد أحمد فوزي صالح مخرج المسلسل وفريق عمله بالكامل نغمة نشاذ وسط الكم الهائل من الأعمال الدرامية، ألا أنهم صنعوا حالة خاصة بهم واقتنصوا اهتماما كبيرا لمتابعة الأحداث، هذا ربما يؤكد نظرية اهتمام صناع الأعمال الفنية بضرورة خلق بصماتهم الخاصة مهما كانت نغماتاً شاذة.