ما يحدث فى هدوء: غرائبية الحياة!

كتاب ما يحدث فى هدوء
كتاب ما يحدث فى هدوء

ياسمين‭ ‬مجدى

فى المنطقة بين ابتكار أسطورة جديدة أو اقتناص أسطورة قديمة، تقع قصص محمد سالم عبادة «ما يحدث فى هدوء»، وفيها يبحث المؤلف عما هو سحرى وواقعى فى الوقت نفسه. إنها رسالته عن الحياة التى تنمو فى هدوء وصمت وتبدو عادية، ومع ذلك غريبة إلى حد لا يمكن إغفاله. تبدأ الحكايات بقصة إله الشر وهو يبكى فرصه الضائعة، ثم تمنحنا فروعا خضراء فى آخر مكان يصلح لذلك!

إنها غرائبية الحياة التى تحيط بنا دائمًا والشخصيات اللافتة التى توجد حولنا، مدهشة كأنها خيال ومع ذلك هى جزء من الواقع. فيعمل المؤلف على غزل الأسطورة بأكثر من مستوى، فإما أن يصنع أسطورته الخاصة عبر الأحداث العجائبية، فتنمو فروع خضراء فى بالوعات حمام المستشفى أو يمنحنا شخصيات مدهشة لا تخضع لأحكام الواقع المعتادة. هذا جانب، وعلى جانب آخر يستثمر الأسطورة المعروفة ويعيد توظيفها وبناءها فى سياق قصصى جديد، فنجد مثلا قصة  «مواء» تستثمر الأسطورة الشعبية عن فكرة  تحول بعض البشر الى قطط، أو أن بعض القطط هى فى الأصل بشر. لا يذكر المؤلف الأسطورة الأصلية لكنه يغزل روحها عبر الأحداث التى تشكك فى تحول الأبطال إلى قطط.

تعكس المجموعة بعضًا من العوالم الذاتية للمؤلف محمد سالم عبادة، فهو يعمل طبيبًا جراحًا، لذلك نجد أجواء الطب والمستشفى وكليات الطب تغلب على كثير من نصوصه، فالشخصيات هم أطباء ومرضى، وأماكن القصص هى  كلية الطب والمحاضرات والمشرحة، بالإضافة إلى استلهامه أفكار عجائبية من موضوعات طبية، مثل فيروسات أو أمراض نادرة، فيحول الأفكار العلمية إلى براح أدبى، وهذه واحدة من السمات الأساسية لأسلوبه.

التاريخ

تأتى نصوص المجموعة من روافد فكرية متنوعة هى مصدر إلهام للمؤلف، الذى يستثمر اطلاعه على موضوعات مختلفة ليستلهم منها أفكاره، فتمثل نصوصه خلاصة ثقافته ومرآة لمطالعاته، لنجد الموضوعات الفلسفية، أو المصادر التاريخية، فيذكر مثلا: «ملامحى منذرة مثل سفر عاموس». استلهم أيضًا من الفن التشكيلى، مثل: «كانت جمانة جميلة باهتة كالشجرة التى فى لوحة (الخريف) لـ(ميلتون أفيري)»، وهو فنان تشكيلى أمريكى حديث ينتمى إلى الحركة التعبيرية المجردة. يتكرر حضور الفن التشكيلى، فى قصة «الحلوة»، التى تقارن واقع الشخصيات واللوحات التشكيلية، ونجد حضورًا لعلم الإجرام أيضًا، وحديثه عن «نظرية لومبروزو» فى الإجرام، بالإضافة إلى وجود الأسطورة الإغريقية والإشارة إلى حب الذات ونرسيس.

التاريخ هو واحد من الروافد الأساسية لقصص مجموعة «ما يحدث فى هدوء»، فتنكشف أجواء تاريخية منذ القصة الأولى حول ست إله الشر وخوفو. 

 يختلط فى النصوص الفانتازى بالواقعى، باعتبار أن هذا السحر هو جزء طبيعى من الواقع، حتى لم يعد يلفت الأنظار لغرائبيته إنما هو من نسيج الحياة المعتاد. 

استخدمت النصوص حوارًا بالعامية وهى الأقرب من لغة وعالم الشخصيات، ولم يخل الأمر من بعض الجمل التى جاءت سهوًا مختلفة عن العامية، فيقول فلاح لأخته: أهنأ الله ليلتكِ. 

استعمل عبادة لغة بسيطة، لا تخلو من بعض الجماليات، مثل وصفه للصلاة فى المسجد الليلة السابعة من رمضان: «الليلة هى السابعة بتوقيت النور. خطوت فوق عتبة الذاكرين». جاءت القصص قصيرة، دون استطرادات فى اللغة. وظهر التكثيف واضحًا فى عناوين القصص، فأغلبها من كلمة واحدة.

اعتمدت القصص فى المقام الأول على الشخصيات المدهشة التى تدفع الأحداث للتنامي. وصوت الراوى هو الصوت الأغلب فى القصص، مما يكشف القرب النفسى الذى يشعر به المؤلف تجاه الشخصيات حتى أنه يروى عنهم من الداخل. لكن فى نقطة أخرى يبدو صوت الراوى مربكًا، فالقصص تستنطق عوالم سحرية خفية لا يعلمها إلا أصحابها، بينما يروى عنهم راوى قصصهم وحكاياتهم، فكيف يمكنه إطلاعنا على أعماق السحر التى احتاجت لأصواتهم الخاصة لروايتها، لذلك تظل تلك الحكايات لا تكشف الحجب كلها لكنها تشير إليها حسب قدرة هذا الراوى العليم على الرؤية ووصف الأحداث لنا. لتبقى الغرائبيات سر أبطالها.

للريف حضور خافت، فبعض القصص تدور هناك، ونرى شخصيات ريفية من عمال وفلاحين وقارئة ودع وأسر فى بيوتهم، وتطل علينا بعض القيم التقليدية من هيمنة الذكر على الأنثى مثل الأخ الذى يصفع أخته بقوة كلما قامت تسير أثناء نومها، أو هيمنة الكبير على الصغير، مثل محاولة العم السيطرة على ابن أخيه الصغير.

الجانب الروحانى

ثمة جانب روحانى فى قصص عبادة، جانب لا يصرح به، لكن له حضور يدفع القارئ نحو تأويل القصة، فنجد بطل قصة «إياك نعبد» يعجز عن قراءة الفاتحة وهو إمام صلاة الجماعة، لا يمنحنا المؤلف مبررًا، لكنه يترك إشارة فى نهاية القصة بأن نور وجهه قد غاب تمامًا.

تتكرر نماذج الشخصيات التى تمنحنا أفقًا روحانيًا، فإحدى البطلات تستيقظ أثناء نومها لترى أحداثًا مستقبلية، لتمثل القصص نفقًا وثيق الصلة بين الوعى والغيب وهذه الموجات التى تمتد بينهما، فثمة عالم غير مرئى لكن له حضوره وتأثيره.

تكررت مفردات كشف الغيب فى قصة عبده الجامع: «أنت بتشتغل فى الحديد اللى قال عنه ربنا إنه أنزله ليعرف من ينصره ورسله بالغيب»، «وكان أن نصر الله خالى بالغيب حين كف بصره فأصبح كل شيء غيبًا، وكف عنه الحديد». ليؤكد حضور تلك المفردات البعد الغيبى أو الغرائبى الذى لا ينتمى للواقع المألوف، فتتراوح الأحداث بين الواقع وبين مساحة انكشاف هذه الغرائبيات واشتباك الأبطال معها.

يُذكر أن مجموعة «ما يحدث فى هدوء» للمؤلف محمد سالم عبادة واحدة من الأعمال الفائزة فى المسابقة الأدبية المركزية لهيئة قصور الثقافة، لعام ٢٠٢٠/ ٢٠٢١.

ما الذى يحدث فى هدوء فى هذه الحياة غير مزيد من الغرائبيات التى لا تلفت نظر أحد، فالأحداث والتحولات الكبيرة والمدهشة للأبطال تحدث فى سلاسة وهدوء كأنها أمر طبيعى، فأعواد خضراء تنبت فى الحمام، وبطل آخر يفقد قشور رأسه، ثم يفقد ذاكرته، كل ذلك فى هدوء، فالنهايات هادئة، وتعقيبات الأبطال على ما حدث عادية، ما يجعل الأشياء الغريبة التى تجرى بالواقع تحدث بهدوء كجزء من نسيج الحياة.

يبقى غلاف الكتاب عنصرًا مصاحبًا للقصص، اختارت المصممة سمر أرز أن تجعله بالأبيض والأسود، كما لو أن العالم قديم ومنذ القدم يسير كما هو فى رتابته وهدوئه المعتاد، لكن عود البسلة الأخضر الذى نما فى الحمام هذا هو الدهشة والغرائبية والشيء الأخضر الملون الوحيد اللافت فى مشهد الحياة المعتاد. 

مجموعة أخرى

لا يمكن إغفال مجموعة قصصية أخرى صدرت للمؤلف محمد سالم عبادة عام 2020، وهى «الناظرون»، واعتمدت على تقنيات الكتابة نفسها من استلهام للأسطورى والتاريخى، وتوظيف الأفكار العلمية والطبية فى سياق أدبى، مع أجواء سحرية تظهر فيها المستشفى والمرضى كمسرح للخيال. ورغم أن هذه المجموعة صدرت أولاً قبل مجموعة «ما يحدث فى هدوء» إلا أنه للتوثيق وبالرجوع للمؤلف، أكد عبادة أن مجموعة «الناظرون» هى آخر وأحدث ما كتبه، لكن جاء ترتيب النشر مغايرًا، ويبدو ذلك جليًا لما حملته مجموعة «الناظرون» من رؤية فنية أنضج.

فى مجموعة «الناظرون» يتدفق الحكى أكثر، تطول النصوص، وتتوالد الأحداث وتمنح الشخصيات حريتها لتنمو، ذلك عكس مجموعة «ما يحدث فى هدوء» التى سيطر فيها المؤلف على نمو شخصياته والأحداث فلم يسمح لهم بالتمدد، مفضلاً التكثيف. وبذلك يكون المؤلف قد أخذ خطوة فنية فى مجموعة «الناظرون» نحو تحرير الأبطال بذاتهم وروحهم، والسماح لهم بالمضى بالأحداث.

تبقى الشخصيات هى المحور الحقيقى للمجموعة، بما يمتلكونه من سمات خاصة وغريبة، تأتى من الأسطورة أو تذهب إلى الأسطورة، فنجده يحكى عن الزهرة، تلك المرأة التى تُلعن فى الأسطورة وتتحول إلى كوكب فى السماء، لكن المؤلف لا ينشغل بالأسطورة الأصلية ولا يذكرها، إنما يصنع خاصته، فنجد المرأة تواصل غواية أشخاص آخرين عبر التاريخ المعاصر بطريقتها.

النظر والرؤية هى ما تجمع الأبطال، فكل منهم له مهارته البصرية الخاصة، بعضهم قادرون على تخزين ذاكرة بصرية، ومنهم من يستمتع بالرؤية عبر الدموع، وبطل آخر يتعذب عبر رؤية تماثيل لأمه، ومنهم من له قدرة خاصة على رؤية المستقبل عبر أجساد الموتى كما يفعل طبيب التشريح، الذى تمزج قصته الأسطورة بالتاريخ، مستلهمة ما قام به الكهنة من تنبؤ بالمستقبل عبر أجساد الموتى، ويحكى قصة مشابهة لطبيب تشريح معاصر يرى المستقبل عند تشريح الأجساد فى المشرحة.. إنها هوية تحظى بها الشخصيات عبر الرؤية وتاريخ يكتبونه لأنفسهم عبر الانكشاف والبصر.

أغلب النصوص مروية بصوت الراوى البطل وهذا يعزز فكرة البصيرة والرؤية من داخل العالم، التى تتجلى معها الحقيقة بالرؤية من الداخل برواية الراوى نفسه عما يتكشف له.

يبقى أن يبحث الجميع عما يبصرونه: «أنا واحد من بلايين البشر الذين أصبحوا ينظرون بآذانهم»، أو ربما نكتفى برؤية من وراء الدموع: «الدموع تمنحك أملاً فى أن ينتهى ما تشاهدينه، لأنه محض حلم.

إقرأ أيضاً : د. محمد السيد إسماعيل: «ديك أمى» لحمدى أبو جليل