حسام المقدم يكتب .. شرارة سوداء

أبداع
أبداع

أجلس على نار فى انتظار أن تكتمل الكراسى. عيناى تَمرَّان على وجوه الرُّكّاب فى الأتوبيس، أحملُ هَمًّا يُقطِّعني: أن أرى «علاء» جالسا بينهم، أو قادما للركُوب. حينها سأكون مُضطرّا إلى ابتسامة صعبة، تُحرّك عضلات وجهى بالإجبار. لسانى سيقول كلمة أو كلمتين من تحت الضّرس. أنظر فى الساعة، أنفخُ، أشعر بِضَربات فى رأسى تتجسّد وتتجاوز إيقاع النبضات، شيء فى بطنى يتكوّر ويلفُّ مُحدِثا وجَعًا. 

  أَعدُّ الكراسى الباقية: اثنان، ثلاثة، أربعة فقط ونتحرّك. 

  على وشك أن أُرحَم من وجهه، من عينيه اللتين لا أرى فيهما تعبيرا عن هدوء أو استكانة أو غضب. نظرتُه إلى الأمام، دون أى لفتة إلى اليمين أو الشِّمال. فمه المقفول على كلمات لن تخرج. سُكوته غير الشّجى، سُكوت شخص غير مشغول بى وبنظراتى التى تُقلّب فيه. أكظِمُ لسانى الراغب فى الصراخ: «انتَ يا بنى آدم، اتكَلّم يا أرخَم خَلق الله». 

  أكثر من  خمسة عشر عاما، وعلاء يعمل فى نفس المدينة. فى الصباح نركب المواصلات من قريتنا. يخرج هو قبلى فلا أراه، وفى الرجوع نتقابل فى حدود الثانية أو الثانية والربع ظهرا. طوال تلك السنوات وأنا مُحتشِد بالتفتيش فى الوجوه، حتى إذا اكتمل العدد وتحرّكَ الأتوبيس أو الميكروباص بدونه؛ أتنفّس من أعماقى، أُكافئ نفسى على المصادفة الحلوة بنظرة سارحة تطوف بارتياح على وجوه الشارع ومحلاته. أعيش لحظتى، أطردُ أى لمحة تفكير فى قلق الغد والانضغاط القادم. أما إذا سبقنى وجلس فيا سواد نهارى، تضطرب ساقاى فى الطُّرقة بين المقاعد، تَغُزُّنى فى رأسى إِبَر وذَبذبات وامضة: هل أتخطّى كُرسيه كأننى لم أره، أم أكتفى بالسلام العابر وأُنهى توتُّرى بالإسراع إلى آخر الأتوبيس؟ أقطعُ عِرْقَ الارتباك بسرعة بأن أميل وأرمى جسدى فى أقرب مكان خالٍ.  

  يمكننى أن أعدّ الكلمات التى تبادلتُها معه. أقول له: «إيه الأخبار؟»، يردّ: «مفيش جديد». فى مرة أخرى أحاول أن أناقشه فى أى شىء، مثل احتمال تغيير التوقيع فى دفتر الحضور والانصراف إلى نظام بصمة الوجه. يكون ردّه: «مُمكن». لا يصلنى شيء من «مُمكن»، لم أسأله لحظتها: «مُمكن إيه؟». يمرُّ بى خاطر أنه يُخفى أشياء لا يريد الكشف عنها، أو هو فى الأساس لا يستريح للكلام معى، رُوحه تستقبل منى النّفور فتردُّه بأحسن منه. الغريب أننى بعد كل مرة أتلقّى فيها رُدوده الشحيحة؛ أُوشكُ أن أخلع حذائى وأُنَفِّض رأسى. أتمادَى فى تأنيب نفسي: أستأهل ما يحدث لى، طالما أتكلم مع هذا الكائن. أتردد فى الاعتراف أنّ مغناطيسا يجذبُنى إلى مَنْ أكرههم. أُفكر فى انشغالى بهؤلاء، أكثر مِن الذين أُحبّهم ويُحبوننى. سبقَنى «كاظم الساهر» فى أُغنيته الغريبة التى لازَمَتنى أيام الجامعة: «أَكرَهُهَا وأشتَهِى وَصْلَها، وإنّنى أُحِبُّ كُرهِى لَها..». أبدأ فى إحصاء المكروهين، تطول القائمة لتصل إلى أسماء تُربِك تَوقُّعاتى.

  ما معنى هذا؟

  لم أجد وقتا كى أصل إلى إجابة، انحَبسَ نَفَسى فى صدرى. عيناى تجمَّدتا على «علاء» الواقف بين المقاعد. خطا نحو المكان المُتبقّى فى الكرسى الأخير. فى مروره بجوارى رآنى. التقت عيوننا فى نفس الجزء من الثانية، لكنه حوَّلَ نظرته بخطفة بارعة، خطفة تنزع العين من العين دون أن ينحرف مُؤشر الزمن. تَصرُّف مُتَعمَّد تمَّ بمنتهى التلقائيّة. عضضتُ شفتى، تلاحقت أنفاسى. أغمضتُ عينَيّ على زغلَلَة بصريّة، جَسَّدها ذهنى المشحون. رأيتُه يرفعنى بقوة ويضعُنى فى كرسى آخر، ثم يعود ويقعد مكانى. أتفاجَأ بنفسى فى بيته، أتجوّل فى الحجرات، أُبصر امرأة تقف فى ركن، وهو هناك فى مُواجهتها. من جسديهما تخرج أشعة صفراء قوية تتداخل فى دوَّامة كبرى. صدرى مُعبّأ بدُخان ضاغط. سأقوم حالا وأخنقه، لن أتركه حتى تخرج روحه. آه لو أرى روحه، أتأمّل شكلها، أقترب منها وألمسها. تحدث المعجزة، أَمدُّ يدى، وبمجرد أن أمسك ذلك الشىء وأتحسس رخاوة المطاط اللاصق؛ تَرجُّنى رعشة قوية، أرميه وأجرى. 

  أفيق من تَوهُّماتى، أتململ فى الكرسى.

  أنا وهو فى مكان واحد، يجرى بنا الأتوبيس إلى نهاية الخَطّ. أستبشِرُ بأننى أجلس أمامه، وبالتالى سأنزل بسرعة دون إعطائه فرصة ليتخطَّانى. فى مرات سابقة حين حدث ذلك؛ كنتُ أتَتبَّعُ ظهره ثم أنحرف عن الشارع الذى يمشى فيه. أتشاغَل بالنظر إلى اليمين عبر الزجاج، تنبسط ترعة مملوءة بماء جارٍ. أتحوَّل إلى الشِّمال، حيث وجوه الجالسين فى مُوازاتى، وفرار البيوت والغيطان وأعمدة الكهرباء. على بُعد خطوتين تجلس أُم حبيبة، زميلتى البيضاء المعسّلة، التى تُعاتبنى دوما على سرعة انفعالى فى مواقف لا تستدعى. أطوف بوجوه أغلبية الرُّكاب المُنكفئين فوق شاشات التليفونات. لا أنظر إلى الخلف، لو انطبقت السماء على الأرض لن أنظر خلفى. فى اللحظة التى سألتفت فيها ستقع عيناى فى عينيه. أُردّد بلسانى داخل فمي: لا تلتفت، إياك أن تُدير رقبتك، وجهه فى انتظارك، يترصّدكَ أينما كُنتَ. أُريح رأسى على مسند الكرسى. يُشتّتُنى هاجس أنه ينظر ناحيتى بمُعدّل نظرة كل ثانية، يفكر فى لحظة التقاء نظرتينا، فى الشرارة السوداء التى ستنفجر فى منتصف المسافة بيننا. لابد أنّ ما يتلوَّى بداخلى قد وصل إليه، والدليل إحساسى بموجات ساخنة، قادمة من الخلف وتكاد أن تُشعِل قفاى.

  يرتجُّ الأتوبيس فى لفتة غشيمة. 

  تتعالى الأصوات: «بالرَّاحة شويّة يا أسطَى». 

  آخر ما يخطر على بالى، فى أسوأ الظّروف القَدَريّة، أن ننقلب فى الترعة، وأكون مع هذا الشخص فى عناق إجبارى، يستميت على النجاة. سأدفعه عنى بكل طاقتى المكبوتة، لا يمكن أن يكون وجهه آخر الوجوه التى آخُذها معى إلى الأبد.

  انتفضتُ واقفا، وخطوتُ إلى الباب. أشرتُ للسائق: «على جَنب يا أسطَى». 

  نَويتُ أن أتمَشَّى المائة متر الباقية.

إقرأ أيضاً : محمد خلفوف يكتب .. الجميلة النائمة