حديث الأسبوع

الغــرب أمامـنا اليــوم عاريــًا

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

نبدأ بالتفاصيل التى يكمن فيها الشيطان للكشف عن معطيات وحقائق وازنة وخطيرة دفعت بها حرب غزة إلى الواجهة وأزاحت عنها جميع أنواع المساحيق التى كانت تقدمها على غير حقيقتها.


فى الولايات المتحدة الأمريكية ارتفعت حدة التوترات داخل الجامعات الأمريكية، والتى كثيرا ما أثقلوا مسامعنا بقوة شخصيتها، التى امتلكتها من استقلاليتها وتحكمها فى قراراتها السيادية، ففى سابقة مثيرة تعرض العديد من هذه الجامعات إلى  محاكم التفتيش بسبب التعبير عن آراء تندرج فى صلب الحق فى حرية الرأى والتعبير التى روجت لها نفس هذه الجامعات كقيم إنسانية كونية ملازمة للحياة، حيث بمجرد تعالى مطالبات فعاليات داخل هذه الأخيرة بوقف الحرب فى غزة، تلقت هذه الجامعات ردود فعل صارمة من الحكومة الأمريكية ومن الممولين لها وصلت حد التهديد بإصدار عقوبات.


وفى هذا الصدد شغلت جلسة استماع لثلاثة من أهم قادة الجامعات الأمريكية،  كان موضوعها ادعاءات تتعلق بمعاداة السامية والاحتجاجات التى عرفتها هذه الجامعات ضد الحرب الدائرة فى غزة، الرأى العام الأمريكي، وانتهت بإعلان  رئيسة جامعة بنسلفانيا السيدة ليز ماجيل عن استقالتها من منصبها احتجاجا منها على هذا التدخل المشين فى شؤون الجامعة، وهى نفس الاستقالة التى كانت قد أعلنتها رئيسة جامعة هارفارد السيدة كلودين جاى لنفس السبب، وإن حاولت بعض الأوساط تغليفها بتهم تتعلق بالسرقات الأدبية، التى لم تظهر إلا حينما تحرك طلاب هذه الجامعة للمطالبة بوقف الحرب فى غزة .


وفى فرنسا هذه المرة، قررت رئيسة منطقة (إيل دو فرانس) الفرنسية سحب جائزة (سيمون فيل) التى تحمل اسم الناجية الفرنسية من محرقة الهولوكوست، من الصحافية والكاتبة المغربية السيدة زينب الغزوي، لا لشيء إلا لأن الصحافية المعنية أقدمت على إعادة نشر بيان على منصة (إكس) يتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، ويشبه سياستها تجاه الفلسطينيين بالممارسات النازية ضد اليهود إبان الحرب العالمية الثانية. ومن الصدف العجيبة التى تزيح الستار عن معطيات وحقائق أخرى، فإن الصحافية المعنية بهذا الإجراء العقابي، كانت محل اهتمام وإشادة وتضامن من طرف الأوساط  الفرنسية بالخصوص، بسبب الانتقادات التى كانت وجهت إليها بعد  قيادتها لحركة فى المغرب طالبت بإباحة الحريات الفردية، وقامت رفقة أعضاء من حركتها بالإفطار العلنى فى رمضان بالشارع العام داخل المغرب، وما إن ارتفعت أصوات مغربية تنتقد ما أقدمت عليه هذه الصحافية، حتى سارع الغرب، إلى التضامن معها ومطالبة السلطات العمومية فى المغرب بتوفير الحماية اللازمة لها، وبعد ذلك استقبلت بالترحاب  فوق التراب الفرنسي، حيث اشتغلت صحافية بأسبوعية (شارل إيبدو) المثيرة للجدل،  وتوجوا تضامنهم معها بمنحها جائزة لمواقفها وكتاباتها المرتبطة بقضايا معينة ترتبط بالدين. واليوم حينما تعلن نفس الصحافية موقفها من قضية إنسانية، وتمارس بذلك وبنفس المنطق الذى توجت به بالجائزة المسمومة تتم معاقبتها، لأنها مارست حريتها فى التعبير هذه المرة فيما هو مقدس لدى الذى يلغى المقدسات عند الآخرين. ولذلك حينما استفزت مشاعر المسلمين وانتهكت المقدس الديني، كان الغرب، وفى طليعته فرنسا مدافعا عما سماه حقها فى التعبير، لكن هذه الحرية تتوقف وتجرم ما إن تقترب من إسرائيل.
وفى جمهورية مصر العربية أعلنت الحكومة الألمانية عن إلغاء تمويل مشروع (مناهضة الاتجار بالنساء) الذى تنجزه مؤسسة (قضايا المرأة المصرية)، بسبب أن رئيسة مجلس أمناء المؤسسة، المحامية عزة سليمان وقعت رفقة رؤساء 254 جمعية أهلية من مختلف مناطق العالم، على بيان يدعو إلى وقف الحرب على غزة، وإلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية وقطع العلاقات الديبلوماسية معها، ويناشد البيان الدول الأعضاء فى اتفاقية (منع الإبادة الجماعية) مطالبة محكمة العدل الدولية بإصدار أمر ملزم بوقف إسرائيل حربها على غزة.
 وموازاة مع ذلك نظمت هذه الجمعية حملتها السنوية التى خصصتها هذه المرة لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، وشملت الحملة نساء غزة اللائى استشهدن. وفى ضوء ذلك وبسرعة فائقة تلقت المسؤولة الأولى عن الجمعية عدة خطابات من السفارة الألمانية فى القاهرة اعتذرت فيها عن تمويل حكومتها لمشاريع الجمعية، بسبب مواقفها من المجازر التى يقترفها الاحتلال الإسرائيلى فى غزة. وكشفت السفارة الألمانية فى القاهرة عن معطى مهم حينما ردت بأن القانون الألمانى لا يسمح بدعم منظمات غير حكومية تدعو إلى مقاطعة إسرائيل، وهكذا فإن الحابل يختلط بالنابل ما بين مناهضة الاتجار فى النساء والإساءة إلى إسرائيل.
وفى ألمانيا كما فى فرنسا كما فى بريطانيا مهد الممارسة الديموقراطية سارعت الحكومات إلى سن تدابير وإجراءات تحظر التعبير عن الرأي، حينما يتعلق الأمر بالتضامن مع غزة أو حتى المطالبة بوقف فورى للحرب، واعتقل المئات من المواطنين الذين تجرؤوا على خرق حالة الاستثناء التى فرضتها هذه الحكومات، حتى تفرغ قوات الاحتلال من اقتراف محارقها ومجازرها وجرائمها ضد الأساتذة.
هذه التفاصيل التى يبقى غيرها كثير، تبقى صالحة لقياس مصداقية العديد من القناعات التى أضحت من المسلمات فى الممارسة الديموقراطية فى الغرب. فمن جهة فإنها تكشف أن الغرب نفسه يقر بوجود حدود صارمة لحرية التعبير وللرأي، ولا يمكن أن تتجاوز الحرية هذه الحدود التى تبقى شديدة الارتباط بالمصالح الاقتصادية والجيواسترتيجية للدول الغربية. وهكذا فان حرية الرأى والتعبير فى مفهوم الغرب كما كشفتها حرب غزة، ليست مطلقة ولا مقدسة، بل إنها مجرد آلية من آليات تصريف السياسات الخارجية لدول بعينها.
ثم إن هذه التفاصيل تؤكد أن الغرب نفسه يؤمن بالمقدس ويصونه ويحميه ويتصدى  للمساس به، وأن هذا المقدس لا يقتصر وجوده على دول معينة تؤمن بقداسة الدين والوحدة الوطنية، والتى لم تتردد الديموقراطية الغربية يوما فى وصفها بالتخلف وبالأنظمة السياسية المغلقة والديكتاتورية. والأهم فى كل هذا مما يعود الفضل إلى حرب غزة فى الكشف، أننا فى دول جنوب القارة العجوز نؤمن بما يستحق القداسة، كالدين والوحدة الوطنية، وليس الإيمان بتقديس دولة فى وضعية احتلال غاشم، وشتان بين المقدسات هنا وهناك!
أخيرا وليس آخرا تفوقت حرب غزة فى الكشف عن حقيقة التمويلات الخارجية التى تستفيد منها مكونات مدنية وسياسية، واتضح أن هذه التمويلات فى حقيقتها إما مدسوسة فى وجبة أكل تبدو شهية ولذيذة تبرز فى شكل برامج تخدم قضايا المجتمع، لكنها فى حقيقتها دم فاسد تضخه أوساط غربية فى شرايين المجتمعات العربية والإسلامية .
هكذا نجحت حرب غزة بصمود أبطالها فى نزع الأقنعة عن وجوه لنتأكد أنها نفس الوجوه التى اقترفت جرائم الاستعمار بالأمس، وتعود إلينا اليوم بقفازات الديموقراطية وحقوق الإنسان وحريات الرأى والتعبير والاعتقاد.