يوميات الاخبار

كوابيس جالانت

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

نصحته زوجته بالذهاب إلى طبيب نفسى. قال لها: لا يصح أن يذهب الرجل الذى كانت الدنيا كلها تناشده أن يوقف القتل والهدم للطبيب النفسى

جالانت هو وزير الدفاع الإسرائيلى المسئول عن قتل عشرات الآلاف من أهل غزة، وفقدان عدة آلاف منهم تحت الأنقاض، وإصابة ما يزيد على ستين ألف فلسطيني، بعد السابع من أكتوبر 2023. وقد وجدت خلال قراءتى التاريخية أن كل القادة الذين يقتلون الناس بغير حساب تنتابهم كوابيس تسرق النوم من عيونهم حين تستيقظ ضمائرهم، لذلك أرى أن جالانت لا بد أن يصيبه ما أصاب هؤلاء القتلة جميعًا لو استيقظ ضميره يومًا، وهذه رؤية خيالية للكوابيس التى قد تصيبه.

الكابوس الأول
رأى السيد جالانت فيما يرى النائم أنه يسير بموكبه الأمنى فى شوارع تل أبيب متجهًا لمنزله. فجأة وجد نفسه يسير فى طريق شبه صحراوى، خال من البشر ومن مظاهر الحياة. لا يدرى كيف حدث هذا. أثناء سير السيارة وجد أحجارًا كثيرة تسد الطريق. توقف السائق. نزل جالانت ليرى ما جرى. فجأة خرج له الملثمون بملابسهم السوداء وأقنعتهم السوداء. لا يعرف من أين جاءوا. مد يده ليسحب مسدسه. لم يجد المسدس. وصل إليه الملثمون. أمسكوا به. قاومهم بضراوة. سيطروا عليه بصعوبة. دفعه أحدهم بقوة. انكفأ على الأرض. اعتمد على يديه لينهض. لاحظ أثناء نهوضه أن شخصًا ما يقف أمامه مباشرة شامخًا. رفع رأسه ليرى من يكون. فوجئ بأنه أحد أبناء غزة. داخله الرعب. مد يده ليجذبه من قفاه. نهض وهو يرتعش، حاول أن يتماسك. قال له: أنت الذى قتلت أبناء وطني؟
قال: أنتم الذين بدأتم. كنا ندافع عن أنفسنا.


- تدافع عن نفسك بقتل أكثر من عشرين ألف إنسان؟ تدافع عن نفسك بتجويع الغزاويين ومنع الماء والكهرباء والوقود عنهم؟
- قد أكون بالغت فى رد الفعل، لكنى ....
نظر إليه نظرة يطل منها الشرر: لكن ماذا؟ جاء وقت الحساب.

الكابوس الثاني
رأى فيما يرى النائم أن الدنيا حوله ظلام حالك. نظر يمينًا ويسارًا فلم ير شيئًا. حاول أن يرى يديه فلم يستطع لشدة الظلمة. سمع خلفه زئير أسد. أرهف السمع. سمع وقع خطواته يقترب. نظر خلفه فرأى عينيه تلمعان فى الظلام. أدرك أنه صار قريبًا. جرى. كان صوت لهاث الأسد لا يبارح أذنيه. أسرع أكثر، كلما أسرع صار الأسد أقرب. وجد نفسه أمام جبل شاهق. صعد دون تفكير. كانت الصخور حادة كالسكين. أدمت يديه، قدميه، جسمه كله. لهاث الأسد لم ينقطع. واصل الصعود. وصل لقمة الجبل. انزلق الحجر من تحت قدميه. هوى. صرخ رعبًا وهو يهوى: النجدة.. أدركوني. النجدة.
أيقظته زوجته، وهى تسأله: ألا زالت الكوابيس تطاردك؟
- إنها لا تفارقني. صرت أخشى النوم بسببها.
همس لنفسه: ماذا يكون الأسد الذى يطاردنى هكذا؟  

الكابوس الثالث
رأى فيما يرى النائم أنه يريد أن يأوى إلى فراشه، لكنه كان يقاوم النوم حتى لا يرى الكوابيس مرة أخرى. غصبًا عنه غمضت عيناه. لم يلبث أن رآها. طفلة فلسطينية صغيرة. كانت تلعب ببراءة أمام بيتها. فى شعرها «فيونكة» بيضاء على شكل فراشة. فجأة ظهرت الطائرات فى السماء. أرسلت موجات من القنابل. ظهر الرعب فى عينى البنت. نظرة البنت علقت فى ذهن جالانت. أصابتها قذيفة مباشرة هدمت البيت ومزقتها. الفيونكة التى على شكل فراشة غطاها التراب. فوجئ بوجه البنت يطل عليه من بين الأنقاض معاتبًا: أليست لديك بنات مثلي؟ هل تحب أن تصيب إحداهن قذيفة مثل التى أصابتني؟  
استيقظ فزعًا. كان يدرك أنه قتل آلاف الأطفال. حين استيقظت زوجته لترى ما به، قال لها: كل ما حدث كوم ونظرات هذه البنت كوم وحدها. عيناها كلها لوم، عتاب، تأنيب. ماذا فعلت؟ كل هذا لإرضاء نتنياهو وبن غفير؟. من يحتمل ما احتمله من كوابيس؟

الكابوس الرابع
 رأى فيما يرى النائم أنه فى مكتبه بوزارة الدفاع. رسم على وجهه علامات الجدية. الجنود يجب أن يروه عابسًا، جادًا. الرجل الذى يأمرهم بالقتل يجب ألا يعرف وجهه الابتسامة. فجأة دوت صفارات الإنذار فى سماء تل أبيب. الكل جرى إلى المخابئ. لم يلتفت إليه مخلوق. قرر أن يسرع هو الآخر إلى المخبأ. قبل أن يتحرك انهار المبنى من حوله. وجد نفسه يقف وحده فى العراء. بلا حوائط، ولا حرس. أحس بالخوف. نظر حوله ليتأكد أن لا أحد من المقاومة قريب منه. فوجئ بأبى عمار شخصيًا أمامه. قال له: ارحمنى يا أبا عمار. ماذا تريد منى أنت؟ أنا أطلب منكم الصفح والمغفرة. أرجوك. لم تعد عيناى تريان النوم. أريد أن أغفو لحظة. لحظة واحدة. ابتسم أبو عمار. لم ينطق بكلمة. هز رأسه ومضي. ناداه: انتظر يا أبا عمار. انتظر. أنا أعتذر لك ولكل من تسببت فى قتلهم.


ابتسم أبو عمار ابتسامة غامضة ومضي. ناداه مرة أخرى. لكنه ابتعد دون أن يلتفت إليه. جاءت الزوجة كما تفعل كل ليلة لترى لم كان يصيح باسم أبى عمار أثناء نومه. قال لها: إنها الكوابيس الملعونة.


قالت له: ليتك لم تكن وزير دفاع أبدًا. كان يومًا أسود هذا اليوم الذى توليت فيه مسئولية هذه الوزارة.
كادت الدموع تسيل من عينيه، لكنه أمسكها، فمثله يجب ألا يبكي. يجب أن يظل متماسكًا ولا ينهار. لكن خطر بباله خاطر: لماذا لا يبكي؟ ربما لو بكى زالت عنه الكوابيس، فبكي. بكى بحرقة، وهو يتمتم دون أن تسمعه زوجته: أريد أن أنام. أريد أن أنام.
الكابوس الخامس
رأى فيما يرى النائم امرأة فلسطينية تخرج له من بين الأنقاض فى خان يونس. كانت المرأة عجفاء. ملابسها ممزقة. جريحة الذراعين. لم تعرف أنه وزير الدفاع. سمعها تدعو الله: اللهم انتقم من الظالم. اللهم انتقم ممن جوعنا، وعطشنا، وحرمنا من العلاج، وهدم المستشفيات فوق رءوس المرضي. اللهم إنك أنت السميع المجيب فاستجب لى وانتقم منه.


كلماتها كانت توخز ضميره. لكنه قال لنفسه: مثلك يا جالانت يجب ألا يهتز ضميره لكلمات هؤلاء القتلة. لقد قتلوا جنودك، وضيعوا مستقبلك، وأحلت للمحاكمة بعد انتهاء القتال بسببهم. الذين فعلوا بك كل هذا يجب ألا تتعاطف معهم وألا يهتز ضميرك من أجلهم.


اختفت المرأة من أمامه لكن صورتها لم تفارق عينيه. كم جاءته فى منامه لتفسد عليه نومه. كم تردد صوتها فى أذنيه: اللهم انتقم من الظالم. اللهم انتقم ممن جوعنا، وعطشنا، وحرمنا من العلاج، وهدم المستشفيات فوق رءوس المرضي. اللهم إنك أنت السميع المجيب فاستجب لى وانتقم منه.
كالعادة سألته زوجته: مالك؟
- إنها الكوابيس الملعونة. آه لو يدرى الفلسطينيون كيف أعذب مثلما عذبتهم وأكثر. اللهم رحمتك.


الكابوس السادس
رأى فيما يرى النائم أنه يخرج من باب الوزارة فى وقت متأخر من الليل. يسير نحو سيارته المصفحة. يهم بالركوب، فجأة اختفى كل شيء حوله. صار وحده فى مكان خالٍ تمامًا. أحس بالخوف. فتح باب السيارة ليركب. وجد بداخلها رجلا ملثمًا. أغلق الباب بسرعة. وجد أمامه ملثمًا آخر. شعر بالرعب.. أمسك يده وهو يصيح: لا أريد أن أموت أيها الملثم. لا تقتلني. أرجوك. أخرج الملثم الأول يده من نافذة السيارة، صرخ.. وسقط وهو يصيح: لا أريد أن أموت. لا أريد أن أموت.


ما بعد الكوابيس
نصحته زوجته بالذهاب إلى طبيب نفسي. قال لها: لا يصح أن يذهب الرجل الذى كانت الدنيا كلها تناشده أن يوقف القتل والهدم للطبيب النفسي. قال: سأتحمل العذاب لأنه قدرى. لكن لا بد من الإشارة أن هذا كله لن يحدث إلا إذا استيقظ ضميره، فهل يمكن أن يستيقظ ضميره؟