عبدالحليم قنديل يكتب: بعد اغتيال «العاروري»

الكاتب الصحفي عبدالحليم قنديل
الكاتب الصحفي عبدالحليم قنديل

لن يكون اغتيال "صالح العارورى" الحدث الأخير من نوعه، ولا هو الأول طبعا ، فقد سبقته اغتيالات "أحمد ياسين" و"عبدالعزيز الرنتيسى" و"يحيى عياش" و"عماد مغنية" و"عباس الموسوى" وعشرات غيرهم، ومن دون أن يعنى ذهاب هولاء للقاء ربهم ، سوى أنهم نالوا شرف وقداسة الشهادة التى عاشوا حياتهم لأجلها، ومن غير أن يؤدى رحيلهم الجليل إلى أى انتكاس فى سيرة حركات المقاومة من نوع مختلف، التى أشعلت حروبها مع كيان الاحتلال "الإسرائيلى" فى العقود الأخيرة، وتحدت دعوى السلام الخانع والتطبيع الذليل كخيار استراتيجى عليل ، وقدمت المقاومة والتحرير كخيار استراتيجى أصيل، وعلى قاعدة الدم الذى يهزم السيف ، ودخلت المقارعة الكبرى بالحس الاستشهادى كأرقى قيمة إنسانية، صارعت بها أعلى قيمة تكنولوجية يملكها العدو ورعاته الأمريكيون ، وثبت فى مجرى الصدامات والجولات الحربية على جبهة لبنان وجبهة فلسطين فيما بعد، أن القيمة التكنولوجية المضافة التى يحوزها العدو ، ليس بوسعها اكتساب مكافئ للقيمة الاستشهادية، بينما الأخيرة طورت عملها على الدوام، واكتسبت قيما تكنولوجية متحدية لتكنولوجيا العدو الحربية، أعجزت كيان الاحتلال عن كسب أى نصر فى أى معركة دارت فى لبنان، وفى غزة بالذات، وإلى أن صارت أقدار الهزيمة المحققة من نصيب الكيان حصرا، على نحو ما جرى ويجرى منذ هجوم السابع من أكتوبر المزلزل حتى تاريخه.

وبحسب قواعد وأصول عمل المقاومة الجديدة، فلن يكون لذهاب الشهيد "العارورى" وصحبه الكبار فى عملية الضاحية الجنوبية ببيروت، لن يكون فى اغتيالهم أى معنى لنصر حقيقى لكيان الاحتلال الإسرائيلى، الذى نفذ عملية الاغتيال بغارة لطائرة مسيرة متقدمة تكنولوجيا ، وتصور أن إقصاء "العارورى" وإخوته ، قد يؤثر سلبا على مقاومة "حماس" و"كتائب القسام" من جنوب لبنان والضفة الغربية بالذات، فقد تكون "حماس" خسرت بالاغتيال قادة مجربين ، لكن ما لا تفهمه "إسرائيل" ولا "أمريكا" ولا الغربيون عموما ، أن اغتيالات قادة المقاومة يزيدها لهيبا وليس العكس ، وأن تنظيمات المقاومة الجديدة بعقائدها الاستشهادية وطرق هيكلتها المتقنة، تبدى مقدرة خارقة على الإحلال الفورى لقادة بدلاء ، وبذات الكفاءة ، إن لم تكن أكبر ، فكل قائد يرحل له خمسة بدلاء على الأقل، وهو ما ثبت يقينا مع كل عملية اغتيال كبرى ، فلم تنته "حماس" مع اغتيال مؤسسها الشيخ "أحمد ياسين"، ولا انتهت سيرة التطوير التكنولوجى وتصنيع السلاح مع اغتيال المهندس العبقرى "يحيى عياش"، ولن ينتهى طبعا دور "حماس" فى لبنان أو فى الضفة ، مع اغتيال الشيخ "العارورى" ، الذى كان ـ كما هو معروف ـ قائدا لحركة "حماس" فى الضفة الغربية والقدس المحتلة ، وكان له الدور الأبرز فى إعادة تنظيم حركة "حماس" فى الضفة، وزيادة شعبيتها فى إطراد ، وتطوير عمل المقاومة ، وتزويدها بما تحتاجه من سلاح وخبرات تصنيعه محليا، بعد إبعاد الرجل قسرا وتغريبته الممتدة ، التى انتهت به إلى "بيروت" ، وكان قد جرى أسره وسجنه من قبل كيان الاحتلال مرارا وتكرارا، وكان استشهاده ذروة حضوره الفلسطينى العام ، فقد عاش فى الضفة والمهاجر لسنوات طويلة، وكان دأبه المتصل الهادئ أهم ما يميز شخصه ، وعرف بين قادة "حماس" بنزعته الوطنية الجامعة، وسعيه إلى وحدة وطنية فلسطينية ، جعلت حركة "فتح" ـ خصم حماس التقليدى ـ من أول المبادرين إلى نعيه وإدانة جريمة اغتياله ، التى كان "العارورى" نفسه ينتظرها من سنين ، وكان اسمه على أول قائمة الاغتيالات المعلنة من كيان الاحتلال رسميا ، وربما تكون "إسرائيل" فرحت بإقصاء "العارورى" عن الحياة واتصال قيادته للمقاومة ، لكن العدو الجهول لا يفهم ، أنه حقق للشهيد أمنيته الغالية المعلنة ، فقد قال مرات أنه يتمنى الشهادة ، وشاء الله أن يبلغه مراده ، وكان لردود فعل أمه وأخته مغزى لافتا ، فلم تبك أمه المسنة المقعدة ، بل هنأت نجلها الشهيد بنوال أمنيته ، وراحت أخته تهنئ أسرتها والشعب الفلسطينى باستشهاد شقيقها ، وتعتبر أن النصر قادم وصبر ساعة ، وهو ما يبرز الفارق الثقافى والأخلاقى المهول بين الفلسطينيين وعدوهم ، الفلسطينيون لا يخافون الموت ، ويعتبرون الاستشهاد جائزة ومنحة ربانية هى الأعظم ، بينما "الإسرائيليون" على العكس تماما ، وهو ما يجعل عمليات الاغتيالات الإسرائيلية بغير نفع أو أثر لصالح العدو ، ويوحى بمآلات المعارك الجارية فى الحال والاستقبال ، وهو ما صار يدركه حتى بعض الجنرالات الكبار فى كيان الاحتلال اليوم ، خذ عندك ـ مثلا ـ الجنرال "إيهود باراك" ، وقد عمل رئيسا للوزراء ، وقبلها وبعدها كرئيس أركان ووزير لجيش الاحتلال ، ومبكرا كرمز بارز فى عمليات اغتيال قادة المقاومة الفلسطينية ، منذ عملية "الفردان" التى قادها فى بيروت عام 1973 ، وارتدى فيها "باراك" زى امرأة للتخفى ، وتسلل إلى مخادع قادة "فتح" الثلاثة "يوسف النجار" و"كمال عدوان" و"كمال ناصر"، وقتلوا جميعا ، ومن دون أن يعنى رحيلهم نهاية لحركة "فتح"، ولا جرى شئ من ذلك ، حتى بعد تطور عمليات الاغتيال إلى قتل "أبو إياد" و"أبو جهاد" وحتى "ياسر عرفات" نفسه ، وكانت تلك الدماء الشهيدة وقودا يلهب خيال أجيال المقاومة الجديدة ، حتى بعد أن انتقلت راية المقاومة من "فتح" إلى "حماس"، وقفزات المقاومة العفية إلى مرحلتها الراهنة ، واكتساب قوة المزاوجة بين الحس الاستشهادى مع ما تيسر من تكنولوجيا السلاح، إضافة إلى عقيدة القتال ووسائله المبدعة، على نحو ما جرى ويجرى فى حرب "طوفان الأقصى"، وبما دفع الجنرال "باراك" ، وهو فى شيخوخته، ومن خلفه تاريخه الطويل فى تدبير وتنفيذ عمليات اغتيال القادة الفلسطينيين الكبار، دفعه إلى مراجعة الحصاد المفجع لجرائم كيان الاحتلال، وإلى فضح أكاذيب "إسرائيل" حول مستشفى "الشفاء" ، واعترف علنا بأن "إسرائيل" ـ وليس "حماس" ـ هى التى حفرت نفقا تحت المستشفى فى سبعينيات القرن العشرين ، وأبدى جزعه ومخاوفه من تداعى مقدرة "إسرائيل" على البقاء طويلا ، واعترف بأنه لا سبيل أمام "إسرائيل" لكسب أى نصر ، وقال أنها ـ أى إسرائيل ـ خسرت الحرب الجارية كلها ونهائيا منذ السابع من أكتوبر ، وهو ما يؤكد أن عمليات اغتيال القادة ، لن تمنح "إسرائيل" فرصة لاصطناع نصر موهوم ، بينما كل جيشها وأجهزتها الأمنية فى حالة إذلال .

نعم، عمليات اغتيال "العارورى"، ومن يأتى عليه الدور بعده من قادة "حماس" وجناحها العسكرى "كتائب عز الدين القسام" ، إضافة لمجازر الإبادة الجماعية فى "غزة"، والقصف الهمجى البربرى للبشر والحجربعشرات آلاف الأطنان من الصواريح والقنابل الذكية والغبية ، وزلازل التدمير الكلى وتفجير شلالات الدماء ، وقتل وجرح نحو مئة ألف فلسطينى ، أغلبيتهم الساحقة من النساء والأطفال والرضع ، ومحو كل موارد البقاء على قيد الحياة، وهدم المخابز والمطاحن ومحطات المياه ومخازن الدواء والمستشفيات والمدارس والجامعات ودور العبادة ، كل ذلك لن يغير أبدا رغم مراراته ومآسيه من المغزى التاريخى للحرب الجارية، فلم يعد بوسع "إسرائيل" أن تحقق نصرا عسكريا، وهى تواجه قتالا متفوقا من كتائب المقاومة الفلسطينية، وتواجه صمودا أسطوريا من الشعب الفلسطينى الأعزل، الذى لن يحقق للعدو هدفه فى تهجير الفلسطينيين خارج أرضهم المقدسة ، رغم آلاف المجازر المتواصلة، ورغم التنكيل والتجويع والتشريد والدمار وتقطيع أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ ، وذهاب "العارورى" نائب رئيس المكتب السياسى لحركة "حماس" ، لن ينهى الأثر الملهم لسيرة كفاحه ، و"كل طفل فلسطينى سيكون قائدا" ، كما قالت شقيقة "العارورى" ، وقد تذهب تحليلات الوقت إلى توقعات فى اتجاه أو آخر ، من نوع توقع رد مباشر مكافئ من "حماس" أو من "حزب الله" ، وقد كان "العارورى" همزة الوصل الموثوق مع قيادة "حزب الله" ، ومع زعيمه "حسن نصر الله" بالذات ، وقد يجرى الرد الانتقامى أو يتأخر وقته ، وقد تؤثر عملية إسرائيل الجبانة فى خلط سير الحوادث الحربية ، وقد تزيد من مستويات الاشتباك بالنار على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة ، وكل ذلك مفهوم ، لكنه ليس العنصر الحاسم فيما جرى ويجرى ، فليست القصة فى انتقام موقوت ، ولا فى الثأر القبلى ، بل الأساس فى الحرب الجارية على الأرض الفلسطينية ، وفى غزة بالذات ، فلم تنفذ حركة "حماس" انتقاما وقتيا لاغتيال زعيمها المؤسس الشيخ "أحمد ياسين" ، وفضلت الرد فى الميدان ، بتعزيز قوتها وصناعة أسلحتها ، وخوض حرب تحرير حقيقية ، لا تشغل بالها كثيرا بدوائر انتقام لأشخاص مهما علا قدرهم ، فحتى لو جرى اغتيال "يحيى السنوار" شخصيا ، فلن يعنى ذلك أبدا نهاية المقاومة ، ولا نهاية سيرة عبقريتها وإبداعها القتالى المذهل .

[email protected]