الشمعة 105 لأمير الرواية الرومانسية إحسان عبد القدوس

إحسان عبد القدوس يتأمل تمثاله المقيد بسلاسل المعتقل الحربى
إحسان عبد القدوس يتأمل تمثاله المقيد بسلاسل المعتقل الحربى

تعود أمير الرومانسية الروائية الكاتب الصحفى الراحل إحسان عبد القدوس أن يجمع الاحتفال بعيد ميلاده فى الأول من يناير مع الاحتفال بليلة «رأس السنة»، ومن مصادفات القدر أن كاتبنا الكبير الذى كان يحتفل بعيد ميلاده فى أول يناير رحل فى الحادى عشر من نفس الشهر عام 1990 عن عمر يناهز 71 عاماً لأنه من مواليد عام 1919، ولم يكن العمر بالنسبة له يُحسب بعدد الأعوام فهو من قال فى رواية «أين عمرى»: «إن العمر لا يُحتسب بالسنين، ولكنه يُحتسب بالإحساس.. فقد تكون فى الستين وتحس أنك فى العشرين، وقد تكون فى العشرين وتحس أنك فى الستين» !
وكالمعتاد احتفل موقع البحث جوجل فى الأول من يناير 2024 بذكرى ميلاد كاتبنا ومبدعنا الكبير إحسان عبد القدوس القامة والقيمة الكبيرة فى تاريخ الرواية والصحافة المصرية، وصفحة «كنوز» تشارك عشاق إبداعاته بإضاءة الشمعة 105 لصاحب القلم المتميز الذى تألق على صفحات «روزاليوسف» و«آخر ساعة» و«أخبار اليوم» التى تولى رئاسة تحريرها ورئاسة مجلس إدارتها، وظل الروائى الأشهر الذى عاشت السينما على مائدة رواياته التى تناول فيها قضايا المرأة والوطن وعالج سلبيات التفكير المنغلق، وخاض معارك كثيرة ذهبت به إلى السجن مرتين، الأولى فى عهد الملك فاروق التى قضى فيها 4 أيام خلف القضبان بسبب مقال «الرجل الذى يجب أن يذهب» الذى طالب فيه بطرد المندوب السامى البريطانى اللورد كيلرن من مصر، ودخل السجن للمرة الثانية فى عهد صديقه الرئيس جمال عبد الناصر بسبب مقال «الجمعية السرية التى تحكم مصر» وقضى بسببه 95 يوماً فى السجن الحربى، وكان يعتز كثيراً بالتمثال الذى صنعه صديقه النحات فتحى محمود وهو حافى القدمين ببدلة السجن ومقيد بسلاسل حديد وكان يضعه أمامه على مكتبه، وكان يحتفظ بالكوب النحاسى المصروف له بالسجن الحربى المُخصص لزنزانة 19 التى قضى بها حبسه، وكاتبنا الكبير إحسان عبد القدوس يشكل تاريخاً طويلاً فى بلاط صاحبة الجلالة الصحافة كواحدٍ من أهم روادها، وعلامة بارزة فى مسيرة الرواية العربية والنضال من أجل الحرية بمفهومها الشامل، وقد كُتب عنه الكثير من الدراسات التى تتناول حياته ومسيرته ومشاغباته وصداماته ومقالاته النقدية، ونختار من بينها: كتاب «إحسان عبد القدوس أسطورة روزاليوسف» للكاتب الصحفى الكبير رشاد كامل، ونختار من بين صفحاته المقال الذى كتبه إحسان بعنوان «أول يناير» ويقول فيه : 
«فى مثل هذا اليوم، وفى منتصف الليل تماماً وبينما كان التاريخ يقلب المصريين فى ثورتهم يحصدهم رصاص الإنجليز ليُخمد فى حناجرهم صوت الحرية والاستقلال، دوت «واء.. واء» فى أذن الوجود تبشر بمولدى السعيد ! 
واستمرت حياتى إلى اليوم، صورة من ليلة مولدى، رقص ودموع، وخمر ودم وقبلات ولكمات، وضحكات وعرق، وظلمات تبددها الأنوار، ولا أذكر فى حياتى أننى ربحت ربحاً سهلاً أو حققت أمنية بمجرد أننى طلبتها من الله، أو خطوت خطوة اعتمدت فيها على الحظ وحده. كتبت أول قصة فى حياتى عندما كنت فى العاشرة من عمرى، وكانت قصة تمثيلية أردت من أطفال الحى أن يقوموا بتمثيلها، ولكن أحد أقربائى - وكان يقوم بالإشراف على حياتى المدرسية - لمح القصة فى يدىّ فضربنى ضرباً ما زالت آثاره فوق جسدى، ومزق القصة، فحاولت الانتحار ثم فضلت عنه أن أهرب من المنزل، وقد هربت ليلتها وأعدت كتابة القصة على ضوء مصباح الشارع وقمنا بتمثيلها فى اليوم التالى، وكتبت أول خبر صحفى عندما كنت فى السنة الرابعة الابتدائية بمدرسة خليل أغا الملكية، وكان خبراً عن نجل المغفور له زكى الإبراشى باشا وكان طالباً معى فى نفس المدرسة، وقدمت الخبر إلى مصطفى أمين بك وكان يتولى تحرير باب الطلبة فى «جريدة روزاليوسف» فهنأنى عليه ثم مزقه وأعاد كتابته وعرضه على الأستاذ التابعى فهنأه عليه ثم مزقه وكتبه من جديد، وعلم ناظر المدرسة أنى أنا الذى أوصل الخبر إلى الجريدة، فضربنى «قفا» ثم صادرنى من المدرسة لأنه لم يستطع أن يصادر المجلة.. ورفت! 
وعندما كنت فى الرابعة عشرة من عمرى أردت أن أسافر إلى الإسكندرية فى الصيف فمنعنى والدى ومنع عنى النقود وكان لى حصالة، صغيرة كنت أحتفظ بها للأيام السود وكانت تحوى تحويشة العمر كله.. واعتقدت أن أيام الصيف فى القاهرة هى الأيام السود فحطمت الحصالة وكان بها خمسة جنيهات أخذتها وهربت إلى الإسكندرية، وقضيت هناك ثلاثة وثلاثين يوماً كنت خلالها أطهى طعامى بنفسى وأغسل ثيابى بيديّ وأكنس وأمسح الكابين الصغير الذى كنت أقيم فيه.. وكتب عنى يومها الأستاذ فكرى أباظة بك فى جريدة المصور مشيداً باعتماد الشباب على نفسه، وقد اعتبرت نفسى يومها عظيماً من العظماء الذين تكتب عنهم الصحف، رغم أنه كان يسرنى أن أعتمد على والدى لا على نفسى فى التصييف!!
وأول قطعة أدبية نُشرت لى فى «جريدة روزاليوسف» اليومية عام 1935 كانت من الشعر المنثور وعنوانها «أخيراً وجدها»، وقد أرسلتها إلى الجريدة بالبريد وبلا إمضاء، فنشرت فى الصفحة الأدبية، وذهبت بعدها إلى والدتى السيدة روزاليوسف لأكشف لها عن شخصية الكاتب العظيم صاحب هذه القطعة الأدبية الخالدة ولكنها ما كادت تعلم أن هذا الكاتب العظيم هو أنا حتى ثارت فى وجهى وحرمتنى من مصروف يدى، فقد كان موضوع القصة الأدبية يدور حول فتاة وخمر، وكانت والدتى تظن حتى ذلك الحين أنى أجهل ما هى الفتاة وما هى الخمر!! 
وعندما نلت ليسانس الحقوق ورفضت وظيفة سكرتير عرضها علىّ المرحوم أمين عثمان باشا ورفضت أن ألتحق بعدة شركات قررت أن أشتغل بالصحافة مدة خمس سنوات فإن لم أنجح فقد بقى لى من عمرى ما يكفى لأن أتجه اتجاهاً آخر، وقد بدت جميع المقدمات تبشر بفشلى فى الصحافة.. فقد طُردت من «روزاليوسف» لأنه كانت لى آراء لم يوافق عليها رئيس تحريرها فى ذلك الوقت، ورفضت الاشتغال فى مجلة «الاثنين» لأن رئيس تحريرها مصطفى أمين رفض أن يوقع باسمى مقالاً كتبته ونشره، ثم عملت فى «آخر ساعة» وارتقيت فيها إلى حد كان الأستاذ التابعى يعهد إلىّ بالإشراف على تحريرها أثناء غيابه فى رأس البر، ورغم ذلك فلم يكن لى حق الإمضاء إلا بالحرف الأول من اسمى «إ»، ثم أصبح إمضائى مقصوراً على اسمى دون لقبى فكنت أوقع «إحسان»، وكان أغلب القراء يعتقدون أن الكاتب فتاة !!
وتركت «آخر ساعة» لأبحث عن جريدة ترضى أن أوقع اسمى كاملاً، ولكنى لم أجد، وكنت قد تزوجت فى ذلك الحين، وكانت عائلة زوجتى تستنكف أن أكون صحفياً حتى أنهم كتبوا فى بطاقة الدعوة إلى عقد القران إنى محامى لا صحفى، وكانوا يلحون علىّ أن أهجر الصحافة لأشتغل بالمحاماة ولكنى رفضت أن أهجرها قبل مضى الخمس سنوات التى حددتها للتجربة، ووافقتنى زوجتى على رأيى فكان أن قضيت ثلاثة أشهر عاطلاً لم يزد دخلى خلالها على ستة جنيهات فى الشهر، وكنت كلما عرضت علىّ جريدة أن أعمل بها اشترطت أن أضع اسمى كاملاً متى أردت وفى أى صفحة أردت فكان رؤساء التحرير يرفضون!! 
وفى الشهر الثالث فكرت فى أن أكتب قصصاً للسينما، فكتبت ثلاث قصص فى يومٍ واحد اشترتها منى السيدة عزيزة أمير بمبلغ ٢٤٠ جنيهاً، وعندما أمسكتُ بالشيك فى يدىّ لم أستطع أن أقول لصاحبته شكراً بل جريت إلى بيتى وما كدت أدخل إليه حتى وضعت رأسى فى الأرض «وضربت بلانس»، وكان أول وآخر بلانس فى حياتى، وضعت الشيك فى يد زوجتى فبكت، وعدت إلى «روزاليوسف» وقد أصبح لى حق الإمضاء، ولكنى طالبت بأن أكون رئيساً للتحرير، فرفضت والدتى واستمرت فى رفضها إلى أن بدأت حملتى على اللورد كيلرن ودخلت السجن، وعندما خرجت كافأتنى بأن عهدت إلىّ برئاسة التحرير وعندما خرج اللورد كيلرن من مصر كافأتنى بمائة جنيه، وبقى حساب السير هدلستون حاكم السودان!! 
هذه هى قبلات الزمن وصفعاته، ودموعى وبسماتى، ولا تزال أمامى قبلات وصفعات ودموع وبسمات، فأنا أعتقد أننى لم أبدأ بعد حياتى ؟».
إحسان عبد القدوس
 8 يناير 1947