يوميات الأخبار

ميثاق التابعى !

محمد الشماع
محمد الشماع

كان كاتباً شجاعاً، كما يجب أن يكون صانع الرأى العام، عارفاً بدور الصحافة الحقيقى فى المواجهة والكشف، مؤمناً بقدرة الكلمة المكتوبة على تقويم المعوج وتصحيح الخطأ

مرت أيام على الذكرى السابعة والأربعين لرحيل رائد الصحافة المصرية والعربية وأسطورة الصحافة على مدى نصف قرن الكاتب الصحفى محمد التابعى أحد أبرز من عمل فى بلاط صاحبة الجلالة ومن شرفاء العلم وفرسانه ووضع ميثاقا غير مكتوب لشرف وأخلاقيات مهنة الصحافة. نال العديد من الألقاب منها طائر الصحافة المغرد وأسطورة الصحافة المصرية وأميرها المتوج ودونجوان الصحافة!

كان أول صحفى مصرى يسجن فى الفترة ما بين عامى ١٩٢٩- ١٩٣٣ مرتين بسبب نقده لوزير العدل والنائب العام، وصفه صديق عمره وتلميذه مصطفى أمين قائلا: عاش حياته بالطول والعرض وذاق مر الفراق وذاق الفقر واستمتع بحياة الملايين.

لعل حياة محمد التابعى نفسها قصة تستحق أن تروى بالتفاصيل فى كتاب أو كتب، وهى قصة أخّاذة مشوقة فصولها ووقائعها ومشاهدها، إضافة إلى ذلك فلعلها قصة مليئة بالدروس التاريخية والمهنية الصحفية بل ميثاق شرف صحفى متكامل والإنسانية قبل الاثنين.

سر المهنة

ويقول الأستاذ محمد التابعى فى كتابه الأشهر من أسرار الساسة والسياسة: اقترح علىّ كثيرون من الأصدقاء أن أكتب مذكراتى عن الساسة والزعماء والنساء والرجال الذين عرفتهم فى حياتى وعن الحوادث والأزمات.. إلى آخره.. ورفضت.. وكانت حجتى أننى لم أدون مذكراتى إلا فى فترات متقطعة.. متباعدة.. فالتسلسل مفقود والسياق مضطرب والدقة فى الرواية غير مأمونة أو مضمونة.

ثم شيء آخر وهو الأهم عندى.. من الذى يستطيع دائما أن يقول الحق.. كل الحق ولا شيء غير الحق.

وإذا نشرت مذكراتى فهل أقول فيها كل ما أعرف، وكل ما سمعت، وكل ما رأيت.. وبين الذين سوف تتناولهم هذه المذكرات أشخاص قد انتقلوا إلى رحمة الله، ونحن اليوم نحيطهم بهالة من الإجلال والإكبار.. وبينهم من لا يزال على قيد الحياة ومن هو معدود من الأعلام والصفوة الممتازة فى هذا البلد.. هل أقول كل ما أعرف عن هؤلاء وهؤلاء؟

هل أروى مثلا حديث الزعيم فلان عن الزعيم فلان؟ وهو حديث مملوء غيرة وحقدا؟ وهل أروى مثلا وأصف صور الضعف والاستهتار.. صور الخنوع والذل والاستمساك بالحكم بأى ثمن؟ وصور الطمع والجشع والنفاق وعدم الوفاء؟.. وقصص الخلاعة والمجون وأبطالها زعماء وساسة مبرزون؟
ميثاق التابعى

ثم مسألة أخرى.. ما هو الحد الفاصل بين ما يجوز نشره وما لا يجوز نشره؟.. والأمانة الصحفية وسر المهنة؟.. ما  حدود هذه الأمانة وهذه السرية؟
لقد اشتغلت بالصحافة ثلاثين عاما، وعرفت فيها عشرات وعشرات من الزعماء والساسة وربطتنى ببعضهم أواصر الصداقة والثقة، وبوحى هذه الصداقة والثقة أفضى إلىّ بعضهم بأسرار كثيرة.. وكشف أمامى بعضهم عن مكنون صدره بل عن خفايا ضعفه.. فهل أروى اليوم كل ما سمعت أو بعض ما سمعت؟
ورواية الكل قد تنفع المجموع، وتؤذى الفرد، ورواية البعض قد لا تفيد المجموع ولا تؤذى الفرد أى الزعيم المروى عنه.. وإذن ما الفائدة وما الغاية من نشر رواية ناقصة أو مبتورة؟

وفى نشر رواية كلها فضيحة أو خيانة للأمانة.

وفى خلال هذه الثلاثين عاما التى اشتغلت فيها بالصحافة قابلت كثيرين من الساسة وقادة الرأى العام فى مصر وفى بلاد غير مصر، بل قابلت رؤساء دول ورؤساء حكومات، وكثيرا ما تحدث إليّ الواحد منهم وأطال الحديث ثم قال:

- تستطيع أن تنشر كذا وكذا.. ولكن لا تنشر كيت وكيت.

وبعض هذه الأحاديث قد مر عليها عشر سنوات أو عشرون سنة.. وأتساءل اليوم: هل «حظر النشر» لا يزال قائما؟

هل «سرية المهنة» سرية مطلقة مؤبدة.. أو موقوتة بفترة من الزمن.. وما طول هذه الفترة؟ هل تكفى مثلا العشرة أعوام أو العشرون عاما لكى تحل الصحفى من وعده بعدم النشر، أى هل استطيع أن انشر اليوم ما وعدت منذ عشرين عاما بعدم نشره؟

هل أستطيع أن أنشره دون أن يتهمنى أحد بخيانة الأمانة والخروج عن مبدأ سرية المهنة وهو المبدأ الذى تقدسه الصحافة ويحترمه الصحفيون؟
ثم اعتراض رابع أو خامس.. هل يستطيع الصحفى أن يقدم دائما واجب المهنة على كل اعتبار؟ هل يستطيع أن يذكر دائما أنه صحفى.. وينسى دائما أنه إنسان؟

لقد قابلت مثلا ملك الأفغان الأسبق الملك أمان الله، قابلته مرتين.. فى سويسرا فى مدينتى مونتريه وزيوريخ.. وكان أمان الله فى المقابلتين رجلا كسير الخاطر محطم الآمال.. كان يمشى تحت وابل المطر.. يتسكع ـ كما قال هو نفسه ـ ليقتل الوقت.. وكتبت عنه فى المرتين ورويت الحديث الذى دار بيننا.. إلا جزءا منه.. إلا جزءا خاصا بزوجته السابقة الملكة ثريا.. لقد أبقيته حتى اليوم فى صدرى.. هذا الجزء من حديث الرجل الكسير الخاطر المحطم الآمال.. كتمته ولم أنشره لأننى لم أستطع أن أنسى أننى ـ قبل أن أكون صحفيا ـ أننى إنسان.

الملك يبكى!!

وكتبت عن الملك فاروق بعد خلعه وطرده.. كتبت ولم أرحمه، وأسهبت فى سرد قصص مخازيه وفضائحه، ومع ذلك فإننى لم أنس فى كل ما كتبت أننى إنسان.. فلم أذكر مثلا لماذا بكى ذات يوم فى دار صغيرة فى حى جناكليس برمل الإسكندرية فى صيف عام ١٩٣٧؟.. وكان فاروق يومئذ لا يزال الملك المأمول.. لم تفسده الدنيا، ولم ينس ربه ودينه.. بكى كالطفل الصغير حتى بلل الدمع خديه.. لم أكتب ولم أذكر التفاصيل، لأن فاروق بكى ساعتئذ كإنسان.. لا كملك.. ولأننى لا أستطيع أن أنسى دائما أننى إنسان.

الذكريات كثيرة.. وما أعرفه كثير.. وما وقع لى فى حياتى مختلف الألوان.. والصعوبة فى الاختيار.. أيها يصلح للنشر.. وأيها لا يصلح؟

أيها يجوز نشره؟ وأيها لا يجوز؟ وأيها يرضى أصحابه وأشخاصه وأبطاله.. أو يسكتون عن نشره.. وأيها الذى لا يرضيهم نشره؟ هل أروى مثلا ما سمعته من الدكتور محمد صلاح الدين أيام اشتداد الخلاف بين رئيس الوفد مصطفى النحاس وسكرتير الوفد مكرم عبيد؟

ومن هم الذين سعوا مخلصين لتسوية أسباب الخلاف والإبقاء على وحدة الوفد.. ومن هم الذين سعوا وعملوا على توسيع شقة الخلاف بين مصطفى النحاس ومكرم عبيد؟

وهؤلاء وهؤلاء من أعضاء الوفد أو من كبار الوفديين. وهل أستطيع مثلا أن أروى تفاصيل حديث دار فى مسكنى ذات مساء فى شهر مايو أو يونيه عام ١٩٤٢، بين فؤاد سراج الدين وبينى عن مكرم عبيد؟ وهل من الصواب فصله الآن من الوفد أو الانتظار.. والأسباب «الوجيهة» التى أبداها الأستاذ فؤاد سراج الدين للتعجيل بفصل الأستاذ مكرم عبيد؟.. وهل أذكر الحديث الذى دار بالتليفون بين مصطفى النحاس وكان فى فندق مينا هاوس، ومكرم عبيد وكان فى المنيا ذات مساء إبان الاستعداد للانتخابات التى جرت بعد قيام وزارة ٤ فبراير عام ١٩٤٢؟.. وهل أروى ما سمعته من فم رئيس الوفد ورئيس الوزارة مصطفى النحاس عن «الملك فاروق» وموقف الوزارة منه ومن الإنجليز؟

الأمانة الصحفية

وهل من الأمانة الصحفية أن أروى حديثا أو كلاما لم يقله مصطفى النحاس أمامى إلا وهو مطمئن إلىّ وواثق منى!؟.. وهل أستطيع أن أروى كل ما أعرف وكل ما سمعته من صديق راحل كريم هو أحمد محمد حسنين، وللصداقة حقوق، وعليها واجبات؟.. وهل مما يستقيم مع حقوق الصديق ولا يتنافى مع واجبات الصداقة أن أروى وأذكر كل ما عرفت وكل ما سمعت؟.. هذه هى الصعوبة، بل هذا هو الصراع بين الصحفى والأمانة الصحفية.. وبينه وبين سرية المهنة.. ثم الصراع بين الصحفى والإنسان.

لم يكن محمد التابعى صحفيا موهوبا فقط بل إنه أيضا كان كاتبا شجاعاً، كما يجب أن يكون صانع الرأى العام.. عارفا بدور الصحافة الحقيقى فى المواجهة والكشف، مؤمنا بقدرة الكلمة المكتوبة على تقويم المعوج وتصحيح الخطأ.. مشوار حياة يستحق أن يعرفه القراء وقبلهم العاملون والدارسون للصحافة والإعلام فى المعاهد والكليات!.. لأننا أحوج ما نكون إلى تطبيق هذه القيم والمبادئ الصحفية والإنسانية فى زماننا.