حصاد 2023| العدوان على غزة.. انتفاضة الضمير العالمية تعيد الزخم للقضية الفلسطينية

شعار الأغنية السويدية «تحيا فلسطين» فى المظاهرات
شعار الأغنية السويدية «تحيا فلسطين» فى المظاهرات

كتبتنوال سيد عبدالله

شهد عام ٢٠٢٣ أحداثا جساما.. لكنه قد يظل مرتبطا فى الذاكرة باندلاع العدوان الوحشى الإسرائيلى فى غزة.. هذا العدوان الذى مارس أقبح صور الإرهاب بحق الأهالى الفلسطينيين العزل.. لم يستثن أحدا.. ولم يعبأ برأى عام دولى ينتفض لنصرة الإنسانية... ربما لا يمكن رؤية أى حدث آخر غير محرقة غزة.. فرغم أن العام المنصرم شهد عددا من الكوارث الطبيعية فى منطقتنا المجاورة أسفر عن مقتل وإصابة وفقد عشرات الآلاف، إلا آن معدل هذه الخسائر يظل متواضعا أمام محرقة جارية فى القطاع استشهد فيها أكثر من عشرين ألفا ربما يقترب الأطفال من ثلثهم فى وقت قصير نسبيا.. وتم قصفهم بأطنان قياسية من القنابل والمتفجرات.. تجاهلت اسرائيل كل الأعراف الدولية ومارست العنف فى أبشع صوره لتكرر محرقة طالما انتقدها العالم على مدى عقود.. والآن تتكرر هذه المحرقة.. على مرأى ومسمع من العالم.. فضحت محرقة غزة أيضا عجز التنظيم الدولى وعدم قدرته على فرض وقف لإطلاق النار فى القطاع... وأظهرت كيف ان الولايات المتحدة لا تزال قادرة على فرض إرادتها على العالم أجمع.. وكأننا نعيش وفقا لقانون الغاب.. فقد شلت قراراتها محاولات عديدة من مجلس الأمن لوقف الحرب.. كما تجاهلت فى ذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذى طالب بوقف فورى لإطلاق النار.. وفى هذا السياق، فضحت الحرب الاسرائيلية العدوانية فى قطاع غزة عدة أكاذيب تتعلق بحرية التعبير وحقوق الانسان التى تدعو لها الولايات المتحدة وتضعهما فى مكانة متميزة فى أولويات سياساتها-كما تزعم-هذا البلد الذى يسعى جاهدا ليحرّم على مواطنيه معارضة اسرائيل وتأييد حقوق الفلسطينيين.. فأطاح بحرية التعبير.. والتزم الاعلام الغربى انحيازا اهدر كل رصيده فى المصداقية.. كما استخدمت واشنطن حق الفيتو عدة مرات فى مجلس الأمن الدولى لتسمح لاسرائيل بمزيد من العنف وتعطيها الضوء الأخضر لمزيد من القتل.. فأطاحت بمبادئ حقوق الإنسان.

لكن رغم هذه المساعى غير الإنسانية، لم تستطع كبح جماح انتفاضة الاخلاق والضمير العالمي، فخرجت حشود بأعداد قياسية فى الولايات المتحدة نفسها وفى دول وعواصم أوروبية أخرى تدعو لإنهاء العنف الجارى فى غزة.. ربما أعطت هذه الحشود زخما للحل السياسى فى فلسطين.. وربما كانت هى السبب وراء تبدل نسبى فى لهجة بعض الساسة الذين استهلوا مواقفهم بانحياز أعمى لإسرائيل ثم عادوا واعتدلوا قليلا.. هؤلاء القادة الذين كانوا تبنوا موقفا فى حرب أوكرانيا مستخدمين ألفاظ «حقوق الإنسان» قبل أن تفضح محرقة غزة نواياهم.. وبالفعل تبدو حرب أوكرانيا صغيرة ومحدودة مقارنة بما يحدث فى غزة.. هذه الحرب المندلعة منذ عامين وربما تقترب من نهايتها بالفعل-بحسب محللين- باعتبار أن واشنطن منشغلة الآن بتوجيه دعمها العسكرى لإسرائيل فى قتلها الفلسطينيين.

فى خريف عام 2023، شهد العالم طفرة متجددة فى زخم القضية الفلسطينية، غذتها الغارات والعدوان الوحشى الذى تشنه إسرائيل على غزة منذ السابع من أكتوبر الماضى. وقد أيقظت هذه الهجمات البربرية ضمير الناس فى جميع أنحاء العالم. مما أدى إلى مظاهرات غير مسبوقة فى الولايات المتحدة وبريطانيا. ولم تحطم هذه الاحتجاجات الأرقام القياسية من حيث الأعداد فحسب، بل أيضًا من حيث مدتها الطويلة وأشكالها المبتكرة. وعودة الزخم إلى القضية الفلسطينية فى عام 2023، أشعلت انتفاضة الضمير العالمى.

اقرأ أيضاً | قائد الحرس الثورى: «طوفان الأقصى» عملية فلسطينية ولم تكن انتقاماً لسليماني

راقب المجتمع الدولى بقلق متزايد تصاعد المأساة الفلسطينية ليس فى القطاع المحاصر فقط، ولكن فى عموم الأراضى المحتلة، مما أدى إلى موجة كبيرة الغضب الشعبى والدعم للقضية الفلسطينية.

ومع تدفق صور الدمار وجثامين الشهداء الفلسطينيين، خاصة من الأطفال والنساء وكبار السن العزل، إلى وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعى، تحرك الناس فى جميع أنحاء العالم إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم. وضرب الظلم والمعاناة التى يواجهها الشعب الفلسطينى على وتر حساس لدى لدى شعوب العالم حتى فى الدول التى حكوماتها تؤيد الكيان الصهيونى، متجاوزين الحدود والاختلافات الثقافية. وبدأ المجتمع الدولى فى التعبئة لدعم الفلسطينيين، داعياً إلى إنهاء الحرب على غزة وإيجاد حل عادل ودائم للقضية عن طريق إحياء حل الدولتين.

وجاءت نقطة التحول مع تنظيم مظاهرات حاشدة، خاصة فى الولايات المتحدة وبريطانيا. لم تحطم هذه الاحتجاجات الأرقام القياسية من حيث الحضور فحسب، بل تميزت أيضًا بمدتها الرائعة وأشكالها المبتكرة.

وفى الولايات المتحدة، اجتمع ائتلاف من جماعات المناصرة، ومنظمات حقوق الإنسان، والمواطنون المعنيون لتنظيم أكبر مظاهرة فى تاريخ البلاد. وشهدت المدن من الساحل إلى الساحل خروج عشرات الآلاف من الأشخاص إلى الشوارع، مطالبين بوقف فورى لإطلاق النار وإعادة تقييم السياسة الخارجية الأمريكية فى المنطقة. إن ما يميز هذه المظاهرة لم يكن حجمها فحسب، بل زخمها المستمر، حيث اعتصم المتظاهرون فى الأماكن العامة لأيام متتالية، مما يضمن عدم تجاهل أصواتهم بسهولة.

وعلى نحو مماثل، فى بريطانيا، خرجت أعداد غير مسبوقة إلى المدن فى مختلف أنحاء البلاد، للتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطينى وإدانة الهجمات الإسرائيلية. وقد جذبت الاحتجاجات، التى نظمتها مجموعة متنوعة من الحركات الشعبية، انتباه الجمهور لأسابيع. ومن المسيرات التقليدية إلى أشكال الاحتجاج الإبداعية، مثل الحشود السريعة والمظاهرات الافتراضية، أظهرت الحركة قوة الوحدة والعمل الجماعى.

وكان حجم هذه المظاهرات واستمرارها بمثابة دعوة للصحوة وللاستيقاظ، ليس فقط للقادة السياسيين ولكن أيضًا للمواطنين العاديين الذين ربما كانوا غير مبالين أو غير مطلعين على تعقيدات الاحتلال الإسرائيلى. وسلطت الانتفاضة العالمية الضوء على الحاجة إلى إعادة تقييم السياسات الدولية، مع التركيز على أهمية حقوق الإنسان والعدالة والتوصل إلى حل دائم للقضية.

ولم تمر المظاهرات مرور الكرام على القادة السياسيين. وأجبرت الضغوط الناجمة عن موجة الرأى العام الحكومات على إعادة تقييم مواقفها وسياساتها. وقد اكتسبت الدعوات إلى التدخل الدبلوماسى، وتقديم المساعدات الإنسانية، والالتزام بالسلام العادل، زخماً على الساحة الدولية.

وفى السويد، أصبحت الأغنية السويدية «Leve Palestina» التى تعود إلى سبعينيات القرن الماضى، والتى تعنى «تحيا فلسطين»، نشيدًا للمحتجين الذين خرجوا إلى الشوارع فى جميع أنحاء أوروبا ضد الحرب الوحشية التى تشنها إسرائيل على غزة.. وذات مرة، حاولت السلطات السويدية، التى كانت قريبة من الصهاينة، أن تستنكر أغنية فرقة «كوفية»، إلا أن كلماتها القوية صمدت وأصبحت مرة أخرى وسيلة للفلسطينيين والمتضامنين معهم للتعبير عن المقاومة ضد الاحتلال. وقال جورج توتاري، مؤسس الفرقة: لقد أنشأت هذه المجموعة الموسيقية، «كوفية»، لكى أروى للناس قصة بلدى.

وفى عصر وسائل التواصل الاجتماعى، أصبح من الصعب على الحكومة الإسرائيلية إخفاء الفظائع التى تتكشف فى الأراضى المحتلة. لكن الحكومات، من الولايات المتحدة إلى ألمانيا، تقوم بقمع الأشخاص الذين يعارضون العدوان الإسرائيلى على غزة بحجة القضاء على المسلحين.

ومع ذلك، فإن هذه المحاولات لإسكات الموسيقى الفلسطينية لم تنجح إلى حد كبير. وشارك آلاف السويديين فى مسيرات مؤيدة للفلسطينيين، وغنوا «Leve Palestina» بأعلى صوتهم.

وفى الولايات المتحدة، وعلى مدار ما يقرب من 3 أشهر من الحرب على غزة، تغير الرأى العام الأمريكى حول القضية الفلسطينية بشكل عام. ولكن مازالت هناك فجوة ثابتة بين آراء الأمريكيين الأكبر سنًا والأصغر سنًا، والتى ظهرت خلال الحرب وفى السنوات التى سبقتها، بحسب تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست.

ويعد استطلاع الرأى الذى أجرته مؤسسة يوجوف فى أواخر أكتوبر الماضى توضيحيًا. ووجدت أن عدد الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا يتعاطفون مع الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين فى الحرب الحالية- وهى الفئة العمرية الوحيدة التى تتبنى هذا الرأى (28% أعربوا عن تعاطف أكبر مع الفلسطينيين مقابل 20% للإسرائيليين).

وكانت المجموعات الأكبر سنًا أكثر عرضة للتعاطف مع الإسرائيليين من الفلسطينيين أو كلا المجموعتين على قدم المساواة، وخاصة أولئك الذين يبلغون من العمر 65 عامًا فما فوق. ويقول الخبراء إن هناك تفسيرات متعددة وراء كون العمر عاملاً فى آراء الأمريكيين بشأن إسرائيل وعلاقتها بالفلسطينيين.

وقال دوف واكسمان، مدير جامعة كاليفورنيا فى لوس أنجلوس ومركز ثريا نازاريان للدراسات الإسرائيلية، إن كل فئة عمرية لديها «ذاكرة أجيال» مختلفة عن إسرائيل. وقال إن المعتقدات حول العالم تميل إلى التشكل فى أواخر سن المراهقة وأوائل العشرينات، وغالباً لا تتغير.

وقال إن الأجيال الأكبر سنًا، التى لديها إحساس أكثر عمقًا بالمحرقة، تميل إلى رؤية إسرائيل باعتبارها ملجأ حيويًا لليهود، وترى قصتها كواحدة من شعب يعود إلى الأمان فى وطنه بعد أن عاش 2000 عام مشتتًا.

ولكن بحلول الوقت الذى بدأ فيه جيل الألفية فى تكوين فهمه للأحداث العالمية، كان عنف الانتفاضة الثانية قد انتهى فى منتصف العقد الأول من القرن الحادى والعشرين مع بناء الجدران والحواجز المعززة بين إسرائيل والضفة الغربية، ثم غزة. وقد كوّن هذا الجيل فكرته عن إسرائيل من تقارير عن حرمان الفلسطينيين من الوصول إلى المياه وحرية الحركة والمحاكمات العادلة، تحت السيطرة العسكرية لما كان فى ذلك الوقت قوة غنية نسبياً ومسلحة نووياً.

وقال جوى أيوب، كاتب ومذيع بودكاست وأكاديمى فلسطينى لبنانى، إن عام 2014 هو عام محورى فى فهم الجيل الجديد للصراع. ففى نفس الوقت تقريبًا الذى اندلعت فيه الاحتجاجات فى فيرجسون بولاية ميزورى، بسبب إطلاق الشرطة النار على رجل أسود أعزل.

وأضاف: «كان الأمريكيون الفلسطينيون يغردون نصائح للأمريكيين من أصل أفريقى حول كيفية التعامل مع الغاز المسيل للدموع، على سبيل المثال».. «لقد كان هذا شيئًا قويًا من الناحية الرمزية.»

وقال الخبراء إن أحد التفسيرات لهذا الانقسام بين الأجيال هو أن عددًا أقل من جيل Z وجيل الألفية يعتبرون محافظين- وهى فئة سكانية أكثر عرضة للتعاطف مع إسرائيل - مقارنة بالمجموعات الأكبر سنًا. ويعتقد بعض المحافظين، وخاصة بين الإنجيليين الذين من المرجح أن يتعاطفوا بشكل خاص مع إسرائيل، أن إسرائيل هى وعد لليهود من قبل الله، وأن عودة اليهود إلى إسرائيل تحقق نبوءة الكتاب المقدس عن الأحداث التى ستسبق المجىء الثانى للسيد المسيح.