ألغاز في حياة الأم .. الملاك الصغير جاء إلى الدنيا مع أغرب حكاية

عمر داخل دار الرعاية
عمر داخل دار الرعاية

  أيام «عمر» الأولى كانت أيامًا قاسية بكل ما تحمله الكلمة من معان، في البداية ولدته أمه داخل مستشفى، بعد أن نقلها فريق التدخل السريع إليها، وفي اليوم الثاني من ولادته، صدّقت النيابة على إيداعه وأمه دار رعاية، وبعد أيام تركته أمه وارتحلت مع شقيقتها، وكتب عليه وهو في أيامه الأولى أن يكون بلا أم، أما الأب فلا أحد يعلم عنه شيئًا، وبعد أسبوع من حياته أقامت له دار الرعاية التي فيها «سبوع»، حضره ما لا يقل عن ثلاثمائة شخص، جاءوا خصيصًا من أجله، تفاصيل أكثر عن حياة «عمر» ووالدته في السطور التالية.

شيء ما غامض في ملامحها، صامتة طوال الوقت وكأنها في عالم آخر غير هذا العالم الذي تعيشه، حالة الشرود التي عليها ليست وليدة اللحظة، فالناظر إليها يدرك أنها حملت في ماضيها الصعاب، وقاست ما لم يقاسه غيرها، لذلك لا غرابة عندما تحدثها ولا تجيب، هي فعلا لم تسمعك، لأن عقلها ما زال بعد حبيس ذكريات مؤلمة مرت بها.

والماضي هذا صندوق أسود، مغلق بالعديد من الأقفال، تحمله في صدرها، لا يراه أحد غيرها، هي في الأصل لا تحكي عنه شيئا، لذلك ففكرة أن تفتح الصندوق في حد ذاته قد يصل في أغلب الأحيان إلى حدود الاستحالة.

يقال أن لكل منا له حظ من اسمه، ويبدو فعلا أن هذه الحكمة صحيحة في كل الأسماء تقريبًا إلا اسمها، لان اسمها منى، وهي ليست أمنية لأحد ولا تتمنى هي أحد، هي أصلا لا تعرف معنى التمني.

الغريب أيضًا أن على كل ما فيها، وما تعانيه، وما جاءت به، إلا أن من يحدثها يدرك رجاحة عقلها، وتفكيرها السليم، وهذا الأمر كان لافتًا للنظر إلى حد بعيد، إلى حد جعل البعض يضغط على هذه الجزئية ليفهم حقيقة الأمر، لأن حديثها المرتب، والمصطلحات التي كانت تستخدمها، تدل على أنها أوتيت نصيبها من العلم، وأن نصيبها من العلم ليس بقليل.

الغريب في منى، أنها أوتيت حظها من العلم فعلا، وأنها درست لغات، بل ونالت الدكتوراة في دراستها على حد زعمها، لكن في أي جامعة درست، وأي اللغات تتقن لم تجب، وعادت مرة أخرى إلى الصمت، هي من أخبرت بهذه المعلومات عن نفسها.. ولا أحد غيرها يعرف حقيقة ما قالته من عدمه.

هذا الصمت لم يقطعه إلا صوتها وهي تقول: «دلوقتي أنا حامل في الشهر التاسع، وفاضلي أيام وأولد، وتعبانة، ومش قادرة استحمل، هتفضلوا تقولولي اسمك إي ودراستك ايه وجاية منين ورايحة فين، واللي في بطنك مين أبوه، محدش ليه دعوة، انتوا مش عايزين تساعدوني، يلا ساعدوني، أنا عايزة أروح مستشفى وأولد».

التدخل السريع

كانت منى، موجودة في أحد شوارع محافظة بورسعيد، تفترش الرصيف، حالتها صعبة جدًا، وملابسها رثة، تنام وتجلس في مكان غير آدمي، ولا يغطي جسدها إلا ما يشبه الـ»شال»، هو الآخر لا يقيها لسعات البرد.

الثلاثينية فوق ما كانت عليه، ظلت تعاني من شيء آخر أكثر قسوة مما سبق، لأنها كانت حامل في شهورها الأخيرة، وهذا واضح من كبر حجم بطنها، وهذا مازادها إعياءً على إعيائها، ومرضًا على مرضها، لذلك كانت حالتها يرثى لها فعلا.

وصل خبر حالتها إلى فريق التدخل السريع، والذي انطلق على الفور إلى المكان المتواجدة فيه، وبعد محاولات كثيرة تم إقناعها أن ينقلوها إلى مستشفى لتلد فيها، حفاظًا على حياتها وعلى حياة من في رحمها، فوافقت على مضض وذهبت معهم، وبالفعل نقلت إلى أحد المستشفيات لتلد فيها، وبعد أسبوع من تلك الواقعة وضعت منى وليدها.

تبين بعد التحدث معها أنها مضطربة نفسيًا، وهاربة من أسرتها منذ زمن، وأنها لا تعرف أي مكان غير الشارع الذي وجدت فيه، وأنها حملت من علاقة غير شرعية.

هذه التفاصيل، جعلت الأمر لا يقتصر فقط على أن تلد منى وتضع مولودها وفقط، بل نحن الآن أمام حالة لابد من التعامل معها بطريقة كاملة، بمعنى أن يتم الاعتناء بها حتى تلد، ثم نقلها ورضيعها إلى دار رعاية لتمكث فيها.

وقد كان، بمجرد ما أن وضعت رضيعها، تحرر محضر بمعرفة النيابة العامة، وأحيلت منى ورضيعها إلى دار «معانا لإنقاذ إنسان» بالدقي.

مفاجأة

ما سبق وقيل لم يكن إلا نقطة في بحر أسرار»منى»، لأن ما يعرف عنها ما زال بعد قليل، وأن الصورة التي عليها ما زالت بعد غامضة، وجزء ما من هذا الغموض تلاشى فجأة يوم أن قالت بأنها تعرف عنوان شقيقتها.

هذه المعلومة كانت مهمة للغاية، خاصة أنها ستفتح الباب لفهم تفاصيل حياتها وحياة أهلها، وهو ما يدل على أنه من الممكن أن تعود إلى أهلها سالمة مطمئنة، لكنها لم تقل شيئا غير عنوان شقيقتها، والتي بالفعل ذهب إليها موظف من الدار بصحبة مندوب من النيابة العامة، وتوصل إليها، وبالفعل حضرت واستلمت شقيقتها، لكن دون أن تأخذ الرضيع.

آثار هذا الموقف العديد من التساؤلات، لعل أبرزها هو أنه كيف لأم أن تترك رضيعها هكذا بكل سهولة وتذهب، دون أن ترعاه ودون أن تراه، لكن يبدو أن إجابة هذا السؤال كانت في تفاصيل قصتها أصلا، فقد سبق وقيل بأنها لا تريد أن يسألها أي أحد عن والد ابنها، وأن ابنها جاء بعد علاقة غير شرعية، لذلك كان من الطبيعي أن تترك ابنها وتعود مع شقيقتها.

الأمر الثالث، أن الشارع قد طبع أثره على شخصية منى، وأنها كانت في حالة نفسية صعبة، وغير مستقرة، وفوق كل هذا مريضة نفسيًا، وبالتالي من غير الطبيعي أن يترك الجنين معها وهي بعد غير مؤهلة لرعايته وتربيته.

سبوع

عادت الأم مع شقيقتها بعد أيام من ولادتها، وتركت رضيعها وحده، الأمر كان صعبًا، والوضع كان أليما، لكن هذا ما جرى.

الرضيع، أطلقت الدار عليه اسم «عمر»، لحين تحرير شهادة ميلاد له، ومع شهادة ميلاده أو بدونها، فالأكيد أنها ستثبت أن يوم ولادته، هو اليوم الذي جاء فيه إلى الدنيا كي يُعذب، وأنه سيكمل حياته داخل دار رعاية.

هذه الواقعة حدثت في الأيام الأولى من الشهر الحالي، لذلك عجّلت الدار موعد الاحتفال برأس السنة الميلادية، والتي تقيمه كل عام مع نزلاء الدار من المسنين والسيدات والأطفال، كنوع من التقارب والألفة، وجعلته لمناسبتين، أولها سبوع «عمر»، الضيف الجديد الذي حضر، والمناسبة الثانية هي رأس السنة.

تخيل معي المفارقة، وتخيل حياة «عمر» بالأمس وحياته الآن، بالأمس كان بصحبة والدته واليوم وحيدًا، بالأمس كان مجهول الهوية، واليوم ذا اسم وصفة، الأمس كان صعبًا وقاسيًا، اليوم أقيم من إجله احتفالا حضره ما لا يقل ثلاثمائة شخص، بينهم فنانين ومذيعين ورجال أعمال.

سبوع «عمر»، والذي أقامته المؤسسة الجمعة الماضية، كان أهم ما يميزه جو الألفة الذي كان عليه، الجميع حضر دون حتى أن يعرف قصة الرضيع، حضروا فقط كي يساهموا بشكل أو بآخر في إسعاده، الجميع حضر في رسالة مفادها: «حتى وإن تركتك أمك ولا تعرف أهلك.. فنحن جميعا أهلك».

 

إقرأ أيضاً : ننشر حكاية سيدة القصر التي .. تسكُن في دار رعاية


 

;