د. أحمد زايد أستاذ علم الاجتماع الشهير ومدير مكتبة الإسكندرية

«الأخبار» تحاور رموز الفكر حول «تجديد الخطاب الثقافي» «4»

د.  أحمد زايد خلال حواره مع «الأخبار»
د. أحمد زايد خلال حواره مع «الأخبار»

لا أدعى معرفة سابقة ب الدكتور أحمد زايد، أستاذ علم الاجتماع الشهير، والرئيس الحالى لمكتبة الإسكندرية، ولكن الصورة الذهنية التى يمكن أن تبوح بها سطور سيرته الذاتية، المليئة بمحطات مهمة، أبرزها تولى عمادة كلية الآداب جامعة القاهرة، هى صورة أستاذ الجامعة بزيه الرسمى، ومفرداته التى تكون أكثر رسمية من أزيائه، ولكن كانت أزياؤه «الكاجول»، التى استقبلنا بها، كاشفة عن رجل يعشق الأفكار المتحررة من القيود، وهو ما ظهر خلال الحوار الذى امتد لأكثر من ساعة ونصف الساعة، ضمن سلسلة حوارات «تجديد الخطاب الثقافى».. وبدون تقعر وبسلاسة يُحسد عليها وابتسامة لا تُغادر وجهه، كان الدكتور زايد بارعًا، رغم «دسامة» موضوع الحوار، فى تبسيط المصطلحات والاستشهاد بقصص وحكايات تقرب المعانى التى يحاول توصيلها، وهو ما جعلنى على موعد مع حوار ممتع، حمل رؤية مختلفة، بداية من الاعتراض على استخدام مصطلح «تجديد الخطاب»، ومرورًا بتوضيح العلاقة بين الخطابين الثقافى والدينى، وانتهاءً باعتراض آخر سجله على سؤال عادةً ما يطرح نهاية النقاش حول مشكلةٍ ما، وهو عن اقتراح الحلول.. وإلى نص الحوار:

 بداية، لماذا لا تحظى قضية تجديد الخطاب الثقافى بنفس زخم «تجديد الخطاب الدينى»؟

أشار بسبابته قائلًا، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة: دعنى فى البداية أسجل اعتراضى على مصطلح «تجديد الخطاب»، سواء ثقافيًا أو دينيًا، فكلمة التجديد تعنى التدخل لإحداث ذلك، وهذا سيكون تأثيره محدودًا فى أمور الثقافة والعقيدة.

 أخذتنا منذ البداية فى منطقة شائكة.. فلماذا ترى ذلك؟

تختفى الابتسامة لتفسح المجال لعلامات الدهشة على وجهه ليقول بنبرة متسائلًا: نحن نتحدث عن تجديد الخطاب الدينى منذ 20 عامًا، عندما أصدر المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد كتابًا بهذا العنوان، وأنا شخصيًا كتبت فى هذا الموضوع منذ 12 عامًا، فهل الخطاب الدينى تجدد، فقد تسمع المصطلح فى الندوات ووسائل الإعلام ولكن الواقع يشير إلى أنه لم يتجدد، ونفس الأمر ينطبق على الثقافة.

تجديد تلقائي 

 وما المطلوب حتى يتجدد الاثنان؟

تعود الابتسامة لوجهه وهو يقول: من وجهة نظرى لا شىء يجدد، فالحياة تجدد نفسها، لأنك عندما تتدخل من أجل التجديد، فقد يحدث تغيير، يكون محدود التأثير، لكن لو أن السياق نفسه يتغير فى اتجاه معين، عبر سياسات معينة وتدخلات مدروسة، فهذا الذى يعطى الفرصة، لكى ينمو الفكر والثقافة، وهذه خصوصية لأمور الفكر والثقافة والعقيدة، فالتدخلات لتجديد الاقتصاد أو التكنولوجيا باستبدال القديمة بالحديثة، قد يكون مقبولًا، لأنها أشياء مادية، ولكن فى أمور الثقافة والعقيدة، يحدث التجديد، عندما يتجدد السياق العام فى المجتمع.

 إذن هو تجديد يحدث بشكل تلقائى وبدون تدخل؟

يومئ بالموافقة قبل أن يقول: السؤال الأساسى فى هذه القضية.. هل الثقافة متغير مستقل أم تابع؟ أو بمعنى آخر على الثقافة تغيير المجتمع أم أن المجتمع هو الذى يغير الثقافة؟ الحقيقة هى أن الثقافة متغير تابع، فإذا ارتقى المجتمع، وارتقى التعليم والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد، وأصبح المواطنون أكثر ميلًا نحو قيم المواطنة والقيم المدنية الحديثة، فستجد الثقافة تتغير من تلقاء نفسها، لذلك لا سبيل لتغيير الثقافة بدون إحداث تغيير فى المجتمع، والأمل أن يتغير المجتمع خلال السنوات العشر المقبلة نحو هذا الاتجاه الذى نأمله، ويتخلى المواطنون عما يقيد قدراتهم على الانطلاق.

الثقافة «قدرة مُعممة»

 أفهم من ذلك أن السياق الحالى لا يسمح بثقافة متجددة ومتطورة؟

يصمت لوهلة قبل أن يقول: لا أريد أن يُفهم من كلامى أنه ليس لدينا ثقافة، فيوجد لدينا على سبيل المثال، زخم فى قطاع الرواية، وكتاب للرواية على درجة عالية من الإبداع، كما يوجد لدينا شعراء يكتبون أشكالًا جديدة من الشعر، ولكن فى المقابل، لا يوجد قراء كثيرون للرواية أو الشعر، لأن الثقافة ليست من أولويات الناس، لأنها ليست «قدرة مُعممة» فى المجتمع.

 ماذا تقصد ب «القدرة المُعممة»؟

يبتسم قائلًا: عذرًا، فلم أجد أفضل من هذا المصطلح الذى نستخدمه فى علم الاجتماع لتوضيح الفكرة، وهو يشير إلى شىء شائع بين الناس بدرجات مختلفة، والمثال الأشهر ل «القدرة المُعممة»، هو النقود، فالجميع لديه منها، لكن بنسب مختلفة، ومعنى أن تكون الثقافة «قدرة مُعممة»، أن تصبح الرغبة فى المعرفة وتعلم شىء جديد كل يوم، جزءًا من تكوين حياة الإنسان، ولا أقصد هنا، أننا نطمح الى أن يعرف الانسان عن كل شىء، حتى الذرة مثلًا، لكن المطلوب أن يتعلم شيئًا جديدًا كل يوم، حتى لو كان بسيطًا.. وللأسف، فإن الثقافة بهذا المعنى ليست موجودة فى المجتمع.

 لماذا يغيب هذا المعنى للثقافة عن مجتمعنا؟

يطلق تنهيدة عميقة استعدادًا لإجابة طويلة، استهلها بقوله: دعنا فى البداية نوضح ماهية الثقافة، حتى نعرف عن أى شىء نتحدث، فهى مجموعة من المعارف العلمية والأدبية والفنية التى تشكل جزءًا من العقل، بما يجعل الإنسان قادرًا على تذوق الجمال، فيستطيع مثلًا عندما يشاهد فيلمًا أن يتلمس مواطن الجمال فيه، وينظر له على أنه «فن»، وكذلك نفس الشىء مع الرواية والدراما وغيرهما، فهذه العقول المنفتحة، هى البيئة المثالية التى «تعشش فيها الثقافة»، وفى المقابل، فإن العقول الضيقة، التى تنظر لهذه الفنون على أنها «حرام»، ليست بيئة خصبة للثقافة.

فلو تصورنا الحياة مجموعة من حقول، ثقافية واقتصادية ودينية وأسرية، فأنت تتحرك فى يومك عبر هذه الحقول، لكن المشكلة أنه خلال الأربعين عامًا الماضية، حدث تغول للحقل الدينى بفهم معين، وبمعنى الوصاية على الحقول الأخرى، وتوسعت دائرة التحريم، وتم خلق أشكال جديدة من التحريم والمساءلة عن كل سلوك.

وأنا لا أقصد هنا تغييب الحقل الدينى، فوجوده مطلوب ومهم، لكن ما أعنيه أن يكون له استقلاليته وتفاعله المنضبط مع الحقول الأخرى، بحيث لا يطغى عليها ويفرض عليها وصايته، فهذا من شأنه أن يؤدى إلى تقلص الحقل الثقافى، لأن من يكتب الرواية مثلًا، ستحكمه توجسات ومخاوف عن مدى رضا الحقل الدينى عن إنتاجه الأدبى.

فرض الوصاية

 هل أفهم مما ذهبت إليه أنك تتفق مع آراء مفكرين رأوا أنه لن يحدث تجديد فى الخطاب الثقافى قبل تجديد الخطاب الدينى؟

دعنا نتخلى عن كلمة «تجديد»، ولكن ما أعنيه بحديثى هو أن يتمركز الخطاب الدينى داخل حقله يُعلِّم الناس الدين الصحيح ويبحث فى الشريعة، لكن لا يفرض وصايته على الحقول الأخرى، لأن ذلك خلق نخبًا دينية، حَوَّلت الدين بما فيه من سماحة إلى عصا تعاقب بها الآخرين، ويصل الأمر فى أقصى درجات الشذوذ الفكرى إلى قتل الناس، كما تفعل داعش.

 ولماذا حصرت المشكلة فى الحقل الدينى، رغم أنك قلت فى البداية إن تجديد الثقافة يحتاج لتغيير شامل فى السياق المجتمعى؟

تخرج الكلمات من فمه سريعة قائلًا: المشكلة الأهم هى وصاية الحقل الدينى، لكن حتى يحدث التغيير نحو الأفضل فى الثقافة، يجب أن يتفتح الأفق الحداثى فى المجتمع، عبر إلزام الحقل الدينى بعدم الوصاية على الحقول الأخرى، وإحداث نهضة شاملة فى التعليم، يصاحبها رغبة فى المعرفة لدى المواطنين، ولكن الحال الآن، يكشف عن جنوح شديد فى المجتمع نحو الاستهلاك والاهتمام بالطعام، وهذا تسبب فى خلق ما أسميه ب «ثقافة الثريد»، و»مثقفى الثريد».

 وما مواصفات «مثقف الثريد»؟

هو شخص قد تجد عنده عشرات الكتب فى مكتبته، لكنه لا يقرأها، وقد انتبه الكاتب الشهير عبدالله النديم لهذا المسلك فى القرن التاسع عشر فى كتابه الشهير «سلافة النديم»، عندما أشار إلى صالونات كبار القوم المليئة بالكتب الفاخرة، التى لم تُفتح، وهذا نتاج «ثقافة الثريد»، وما يصاحبها من اهتمام بالمظاهر والمبالغات فى كل شىء، من استهلاك الطعام وحتى الحديث.

 وكيف يصبح الإنسان مثقفًا حقيقيًا وليس ممن أسميتهم ب «مثقف الثريد»؟

يشير بأربعةٍ من أصابعه قبل أن يقول: هناك أربعة شروط، أولها التعليم الجيد، وبعدها يأتى الشرط الثانى، وهو الأساس التكوينى، الذى يتضمن أن يكون مُلمًا بتراث الإنسانية من «حمورابى» إلى الآن، وقارئًا لهذا التراث الملىء بالفكر والثقافة والأدب والفن قراءة دقيقة، ويكون لديه إلمامٌ بالاتجاه العام فى هذه المجالات، ويتحدث فقط فيما يعرفه، ويكون قادرًا على أن يقول لا أعلم دون خجل، ثم يأتى بعد ذلك الشرط الثالث، وهو أن يكون لديه شغف المعرفة، أى أن عقله منفتح ويقبل الآخر، وفكره راقص وليس متحجرًا، وأخيرًا، يكون له حضور فى المجتمع وتأثير فى المجال العام.. وللأسف إذا طبقت هذه الشروط، فستجد أغلب المثقفين فى المجتمعات العربية ينتمون إلى ما يمكن تسميته ب «المثقف العضوى»، أى شخص لديه بعض المعلومات ويتفاعل مع الناس ويحل مشاكلهم.

 بعض ممن تحدثت معهم قبلك حول نفس القضية «تجديد الخطاب الثقافى»، يرون أننا بحاجة الآن إلى هذه النوعية من المثقفين، وليس المثقفين الذين يعيشون مُنعزلين فى أبراج عاجية.

يشير بإصبعيه السبابة والوسطى قائلًا: نحتاج إلى الاثنين، فالمثقف الذى يعيش منعزلًا قد لا يفهم فى زمنه، ولكن مخرجاته تبنى عليها لاحقًا أفكار ونظريات، مثل المفكر والفيلسوف الألمانى الشهير نيتشه، الذى عاش منعزلًا، ولم يحظ كتابه الشهير»هكذا تكلم زرادشت» بالتقدير فى حياته، ولكن بعد وفاته، بنيت عليه نظريات حديثة.

النزعة «الماضوية»

 ولكن النوعية الأخرى من المثقفين «غير العضويين» أحيانًا ما يأخذوننا لقضايا من الماضى تاركين الحاضر بتحدياته الراهنة.. فكيف سيشعر الناس إذن بأهمية وقيمة الثقافة؟

لم ينتظر استكمال السؤال وقال بنبرة متحمسة: هذه النزعة نحو الماضى (الماضوية) سببها تمدد الحقل الدينى، فالماضوية ملاذ العجزة، غير القادرين على استهلاك الحداثة والمدنية، لأن المشروع الحداثى ثقيل وله شروط، منها أنك تتعلم جيدًا وتقرأ كثيرًا، ولكن فى النزعة الماضوية، تجد أن الحل لكل مشكلة موجود فى الماضى، وهذا يجعلهم يلوون النصوص الدينية المُقدسة، حتى تحقق هدفهم وفكرتهم التى تقول إننا لسنا بحاجة لمنتجات الحضارة الحديثة، فيظهر مثلًا اتجاه «العلاج بالقرآن»، مع أن الدين الإسلامى أمرنا بالأخذ بالأسباب وتلمس أسباب الشفاء.

 أفهم من فكرتك التى عبرت عنها أكثر من مرة أنك تريد الدين منعزلًا فى حقله لا يتفاعل مع الحقول الأخرى السياسية والاقتصادية والثقافية؟

يومئ بالرفض، قائلًا بنبرة صوت مرتفعة: لم أقصد ذلك على الإطلاق، فالدين موجود بداخلنا نمارسه فى يومنا، كما نمارس السياسة فى تعاملاتنا مع الآخرين، والاقتصاد فى البيع والشراء، وكذلك الثقافة، لكن ما أقصده، هو أن الدين يتفاعل مع الحقول الأخرى بتوازن، فلا يفرض وصايته عليها، ولكن كما قلت سابقًا، إن النخب الدينية دعمت هذه الوصاية، حتى تستفيد من تغول الدين على الحقول الأخرى، وهو ما ساعد بعض الجماعات على توظيف الدين لأغراض سياسية، وتم استغلال الدين لأغراض اقتصادية، فظهرت برامج قائمة على «الخرافة» مثل «تفسير الأحلام»، وتم إلباسها لباس الدين، ولكن الشكل الصحيح للدين، هو الذى يمثله فى رأيى «شيخ الأزهر»، فهو لا يفرض وصايته على أحد، وصاحب عقل متفتح ومثقف.

رجل الدين المثقف

 إذن أنت تتفق مع آخرين ممن تحدثت إليهم قبلك فى قضية «تجديد الخطاب الثفافى»، ورأوا أن ذلك يمكن أن يتحقق عندما يكون لدينا رجل الدين المثقف؟

يومئ بالموافقة قائلًا: بالطبع نحتاج لذلك، فهذا يجعل خطابه عصريًا، ويجنح نحو الحداثة، بدلًا من خطاب الماضوية (العودة إلى الماضى) والأخروية (الحديث عن الآخرة)، حيث سبق أن نشرت دراسة توصلت فيها إلى أن أغلب الخطابات الدينية لا تخرج عن هذين الاتجاهين.

 وما الحلول المتاحة التى تجعل لدينا رجل دين بهذه المواصفات؟

يبتسم قبل أن يقول بنبرة صوت متحمسة: لا أفضل الحديث عن حلول فى هذه المشكلة، ومن يضع وصفات جاهزة للحل فهو مخادع، فكما قلت لك فى البداية، عندما يتغير المجتمع نحو الأفضل فى التعليم والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد، ويصبح المواطنون أكثر ميلًا نحو قيم المواطنة والقيم المدنية الحديثة، ستخلق هذه الحالة بشكل تلقائى رجل الدين المثقف، ولا يصبح حينها لرجل الدين «الماضوى» مكان، ولكن المشكلة أن هناك كوابح تجعل المجتمع أسيرًا للماضى، مثل نزعات الأبوية والذكورية والعائلية، فمثل هذه النزعات تجر المجتمع للخلف وتدفعه للتقزم، فالإنسان الحديث يعرف نفسه، ليس بأبويته أو عائلته، ولكن بإنجازه وقدرته على العطاء.

 لدىَّ سؤال أريد ان أختم به الحوار، وأرجو ألا تتهمنى بأنى مصاب بداء «الماضوية»، وهو: لماذا كان لدينا مثقفون كبار وعظماء فى الماضى، ولم يعد لدينا الآن مثقفون على نفس المستوى؟

ترتسم على وجهه علامات الدهشة قبل أن يقول متسائلًا: لماذا تقول ذلك، فهناك الراحل أحمد خالد توفيق، على سبيل المثال، وكان روائيًا عبقريًا من وجهة نظرى، ولو عاش فترة أطول، لفاقت شهرته ومكانته نجيب محفوظ، فالمجتمع المصرى لم يمت، واستدعاء الماضى دومًا، والقول إنه أفضل من الحاضر، ومقارنة أنفسنا بمجتمعات ساهمنا فى صناعتها، هو انعكاس لنجاح الفكر الدينى المنحرف فى تأكيد النزعة الماضوية، فنحن بحاجة إلى الثقة بأنفسنا، لأن إحساسنا بالأزمة يخلق النوستالجيا (الحنين إلى الماضى)، والحقيقة أن ماضينا لم يكن بأى حالٍ من الأحوال أفضل من حاضرنا، فأنا ابن قرية مصرية، وعاصرت القرية فى الماضى، وأشاهدها الآن فى زياراتى لعائلتى، وأستطيع القول بمنتهى الصدق والأمانة، إنه فرق السماء من الأرض بين الماضى، حيث مظاهر الفقر المُسيطرة على القرية، والحاضر حيث تشاهد القرية وقد امتلأت شوارعها بالسيارات الفارهة.