عصير القلم

كنت أحرسهم ونسيوني

أحمد الإمام
أحمد الإمام

قصة‭ ‬حقيقية‭ ‬غريبة‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬انجلترا‭ ‬عام‭ ‬1937‭ ‬عندما‭ ‬‏تم‭ ‬إلغاء‭ ‬مباراة‭ ‬في‭ ‬الدوري‭ ‬الانجليزي‭ ‬لكرة‭ ‬القدم‭  ‬بعد‭ ‬وقت‭ ‬قصير‭ ‬من‭ ‬انطلاقها‭ ‬بسبب‭ ‬انتشار‭ ‬ضباب‭ ‬كثيف‭ ‬في‭ ‬ملعب‭ ‬المباراة‭ ‬جعل‭ ‬الرؤية‭ ‬مستحيلة‭ ‬بالنسبة‭ ‬للاعبي‭ ‬الفريقين‭ ‬وطاقم‭ ‬التحكيم‭.‬

‏غادر‭ ‬الجميع‭ ‬أرض‭ ‬الملعب‭ ‬باستثناء‭ ‬حارس‭ ‬المرمى‭ ‬‮«‬سام‭ ‬بارترام‭ ‬‮«‬‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬صفارات‭ ‬‏حكم‭ ‬المباراة‭ ‬من‭ ‬صخب‭ ‬الجماهير‭ ‬خلف‭ ‬مرماه‭ ‬،‭ ‬وظل‭ ‬يحرس‭ ‬مرماه‭ ‬متحفزاً‭ ‬لأي‭ ‬تسديدة‭ ‬مباغتة‭ ‬لمدة‭ ‬15‭ ‬دقيقة‭ ‬،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬رجل‭ ‬شرطة‭ ‬من‭ ‬المكلفين‭ ‬بتأمين‭ ‬الملعب‭ ‬لإخباره‭ ‬بقرار‭ ‬إلغاء‭ ‬المباراة‭ .‬

‏وعندها‭ ‬قال‭ ‬الحارس‭ ‬بكل‭ ‬أسى‭ : ‬يحزنني‭ ‬أن‭ ‬ينساني‭ ‬رفاقي‭  ‬وأنا‭ ‬أحرسهم‭ ‬وأحمي‭ ‬ظهورهم‭ !‬

كم‭ ‬هو‭ ‬قاسي‭ ‬الشعور‭ ‬بالخذلان‭ ‬خاصة‭ ‬ممن‭ ‬تعهدتهم‭ ‬بالرعاية‭ ‬والاهتمام‭ ‬واذا‭ ‬بهم‭ ‬ينسون‭ ‬أو‭ ‬يتناسون‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬قدمته‭ ‬إليهم‭ ‬من‭ ‬جميل‭.‬

هذا‭ ‬الشعور‭ ‬ينتاب‭ ‬الوالدين‭ ‬عندما‭ ‬يلاقون‭ ‬الجحود‭ ‬والنكران‭ ‬من‭ ‬ابنائهم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بذلوا‭ ‬الغالي‭ ‬والنفيس‭ ‬من‭ ‬أجلهم‭ ‬وضحوا‭ ‬بكل‭ ‬شيئ‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬إسعادهم‭ ‬وتلبية‭ ‬طلباتهم‭.‬

هذا‭ ‬الشعور‭ ‬ينتاب‭ ‬أي‭ ‬موظف‭ ‬نشيط‭ ‬يتحمل‭ ‬كل‭ ‬مهامه‭ ‬ومهام‭ ‬زملائه‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬بلا‭ ‬كلل‭ ‬أو‭ ‬ملل‭ ‬وبدلا‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬العرفان‭ ‬والشكر‭ ‬تتسلل‭ ‬الى‭ ‬اذنيه‭ ‬عبارات‭ ‬سخيفة‭ ‬من‭ ‬عينة‭ ‬‮«‬ده‭ ‬حمار‭ ‬شغل‮»‬‭. ‬

هذا‭ ‬الشعور‭ ‬يعتصر‭ ‬قلب‭ ‬الزوجة‭ ‬التي‭ ‬تقضي‭ ‬يومها‭ ‬بين‭ ‬المطبخ‭ ‬وإعداد‭ ‬الطعام‭ ‬وتنظيف‭ ‬الشقة‭ ‬وغسيل‭ ‬الملابس‭ ‬والمذاكرة‭ ‬للاولاد‭ ‬وتفاجأ‭ ‬بنطاعة‭ ‬الزوج‭ ‬الذي‭ ‬يقتلها‭ ‬بعبارة‭ ‬بلهاء‭ ‬‮«‬‭ ‬انتي‭ ‬بتعملي‭ ‬ايه‭ ‬طول‭ ‬النهار؟‭! ‬

أذكر‭ ‬مربيا‭ ‬فاضلا‭ ‬تخرج‭ ‬على‭ ‬يديه‭ ‬مئات‭ ‬الطلاب‭ ‬أصبح‭ ‬معظمهم‭ ‬يشغلون‭ ‬وظائف‭ ‬مرموقة‭ ‬ومناصب‭ ‬هامة‭.‬

يروي‭ ‬لي‭ ‬المربي‭ ‬الفاضل‭ ‬الذي‭ ‬خرج‭ ‬على‭ ‬المعاش‭ ‬من‭ ‬شهور‭ ‬قليلة‭ ‬ان‭ ‬ابنته‭ ‬عادت‭ ‬من‭ ‬كليتها‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬وهي‭ ‬تبكي‭ ‬بحرقة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعرضت‭ ‬للتحرش‭ ‬من‭ ‬شاب‭ ‬بلطجي‭ ‬في‭ ‬الشارع‭.‬

ويقول‭ ‬المربي‭ ‬الفاضل‭ : ‬انتفض‭ ‬الدم‭ ‬في‭ ‬عروقي‭ ‬واصطحبت‭ ‬ابنتي‭ ‬الى‭ ‬قسم‭ ‬الشرطة‭ .. ‬وطوال‭ ‬الطريق‭ ‬كنت‭ ‬اتحدث‭ ‬بحماسة‭ ‬عن‭ ‬رئيس‭ ‬المباحث‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬تلاميذي‭ ‬وأكدت‭ ‬لها‭ ‬انه‭ ‬سيقيم‭ ‬الدنيا‭ ‬ولن‭ ‬يقعدها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استاذه‭ ‬ومعلمه‭.‬

وبمجرد‭ ‬وصولي‭ ‬القسم‭ ‬توجهت‭ ‬مباشرة‭ ‬الى‭ ‬مكتبه‭ ‬واثق‭ ‬الخطى‭ ‬مثل‭ ‬الطاووس‭ ‬وهناك‭ ‬كانت‭ ‬الصدمة‭ ‬التي‭ ‬زلزلت‭ ‬كياني‭ ‬وعصفت‭ ‬بكبريائي‭ ‬عندما‭ ‬قابلني‭ ‬تلميذي‭ ‬بفتور‭ ‬غريب‭ ‬وتعامل‭ ‬معي‭ ‬بلامبالاة‭ ‬غريبة‭ ‬أحرجتني‭ ‬امام‭ ‬ابنتي‭ ‬وأرسلني‭ ‬الى‭ ‬امين‭ ‬شرطة‭ ‬لتحرير‭ ‬محضر‭ ‬،‭ ‬وتمنيت‭ ‬ساعتها‭ ‬ان‭ ‬تنشق‭ ‬الارض‭ ‬وتبتلعني‭ .. ‬وشعرت‭ ‬بغصة‭ ‬في‭ ‬حلقي‭ ‬تكاد‭ ‬تزهق‭ ‬روحي‭ .. ‬هل‭ ‬كان‭ ‬عملي‭ ‬وجهدي‭ ‬طوال‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬هباءا‭ ‬تذروه‭ ‬الرياح‭ ‬هل‭ ‬كنت‭ ‬أبني‭ ‬قصورا‭ ‬من‭ ‬الرمال‭ ‬وكنت‭ ‬أظن‭ ‬انني‭ ‬ابني‭ ‬عقول‭ ‬البشر‭ ‬وامتلك‭ ‬قلوبهم‭ ‬وعرفانهم‭ ‬بفضلي‭.‬

شعور‭ ‬الخذلان‭ ‬قاسي‭ ‬وعنيف‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬وقلب‭ ‬من‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬لأن‭ ‬الضربة‭ ‬تأتي‭ ‬هنا‭ ‬من‭ ‬آخر‭ ‬شخص‭ ‬يتوقع‭ ‬منه‭ ‬الغدر‭ ‬أو‭ ‬الجحود‭.‬

الامر‭ ‬أشبه‭ ‬بمن‭ ‬يزرع‭ ‬في‭ ‬ارض‭ ‬صخرية‭ ‬لا‭ ‬تنبت‭ ‬ثمرا‭ ‬ولا‭ ‬يرجى‭ ‬خير‭ ‬منها‭.‬

لا‭ ‬تخذلوا‭ ‬شخصا‭ ‬تعب‭ ‬من‭ ‬أجلكم‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬وضحى‭ ‬براحته‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬راحتكم‭ ‬،‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬أنبل‭ ‬من‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالجميل‭ ‬ومقابلة‭ ‬الاحسان‭ ‬بالاحسان‭ .. ‬هنا‭ ‬يعتدل‭ ‬الميزان‭ ‬وتصفو‭ ‬الحياة‭ ‬بالوفاء‭ ‬والعرفان‭.‬

;