هل يمكن أن تنتقل تفاصيل عالم السينما من وجود مخرج للعمل يتولى إدارته بالكامل وكتابة سيناريو محبوك ودقيق لايحيد عن أحداثه الممثلون فى الفيلم حتى يقتنع المشاهدون بالحبكة الدرامية وينبهرون بأداء صناع الفيلم ويحقق النجاح، أيمكن لكل هذه التفاصيل الانتقال إلى عالم السياسة ؟ رغم مايبدو أن عالمى السينما والسياسة بعيدين عن بعضهما البعض لكن فى كثير من الأحيان يقتبس الساسة فى قراراتهم روح عالم السينما من أجل تحقيق أهداف استعمارية ودعائية تجعل كافة الأطراف المشاركة فى اللعبة السياسية أو الفيلم السياسى فى النهاية رابحين.
منذ إيام نفذت إيران ضربتها بمسيرات وقيل صواريخ ضد إسرائيل ردًا على استهداف إسرائيل السفارة الإيرانية فى دمشق ومقتل عدد من قادة الحرس الثورى الإيرانى وقت أن كانوا يعقدون اجتماعًا داخل مبنى السفارة.
بعد الضربة الإسرائيلية أعلنت إيران أنها سترد بعنف ضد إسرائيل وما بين الإعلان الإيرانى والهجوم على إسرائيل دارت أحداث غرائبية أو فيلم سياسى بقيادة المخرج الأمريكى وحبكة السيناريست الإسرائيلى مع أداء بارع من فريق التمثيل الإيرانى.
للمرة الأولى عندما تقرر دولة شن هجوم على دولة أخرى تخطر إيران وهى الدولة المهاجمة عن طريق المخرج الأمريكى إسرائيل بأن الهجوم سيكون محدودًا ومعروفًا موعده وعقب الهجوم وفى تصريحات علنية قال وزير الخارجية الإيرانى حسين أمير عبد اللهيان فى اجتماع مع السفراء الأجانب فى طهران أن إيران أخبرت الولايات المتحدة بأن الهجوم الإيرانى سيكون محدودًا.
صرح مسئولون فى الحكومة الإسرائيلية للصحافة أن إسرائيل تتسامح مع هجوم إيرانى لايحقق خسائر !.
كأن مشاهد "الهجوم" التى أدارها المخرج الأمريكى وحبك السيناريو لها السيناريست الإسرائيلى وأداها فريق التمثيل الإيرانى كان متفقًا عليها بين الأطراف الثلاثة من صناع هذا الفيلم السياسى الذى تميز بمشاهد الأكشن المثيرة من إطلاق مسيرات وإعلان الجيش الإسرائيلى إسقاط 99 % منها.
هذه النتيجة المرتفعة سببها أن الدفاعات الجوية الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية كانت تعلم ميعاد انطلاق المسيرات وما قيل عن الصواريخ وفى فقرة كوميدية تخفف من حدة الأكشن فى الفيلم السياسى الذى عرض علينا قال المتحدث العسكرى الإسرائيلى إن المسيرات الإيرانية انطلقت من إيران وتصل فى الثانية صباحا بتوقيت إسرائيل ونحن فى انتظارها !.
فى نفس هذا الفيلم السياسى نجد إسرائيل تعلن بعد الهجوم الذى لم يسبب أى خسائر فى تل أبيب أنه من غير المؤكد أن ترد إسرائيل برد عسكرى مباشر على إيران فمن الواضح بعد هذا التصريح أن السيناريست الإسرائيلى ومن قبله المخرج الأمريكى يفضلون النهايات السعيدة للفيلم الذى يقومون بصناعته وأيضا فالنهاية السعيدة للفيلم تحقق لفريق التمثيل الإيرانى مزيدًا من النجومية على الساحة الدولية.
الحقيقة أن صناعة الأفلام السياسية بين فريق التمثيل الإيرانى والمخرج الأمريكى حتى بدون السيناريست الإسرائيلى لها تاريخ طويل لأن كلا من واشنطن وطهران يقومان على خدمة بعضهما البعض لتحقيق أهدافهما التوسعية فى المنطقة وإن اختلفت الأساليب.
لعل أقرب مثال على هذا عملية اغتيال قاسم سليمانى قائد فيلق القدس الذى اغتالته الولايات المتحدة فالمخرج الأمريكى أو الرئيس السابق دونالد ترامب الذى أمر بتنفيذ العملية لم يحتفظ بسر الصنعة وأعلن فى أحد مؤتمراته الانتخابية أن طهران اتصلت به عقب عملية الاغتيال واتفقت معه على ضرب أهداف أمريكية بالعراق وبشكل محدود جدا، وأعطت المخرج أو الرئيس ترامب ميعاد الضربة ونوعيتها وأين ستقع حتى لاتحدث خسائر فى القوات الأمريكية.
بل أن عملية اغتيال قاسم سليمانى نفسها بها العديد من الإشارات الغامضة وكأنها حدثت بضوء أخضر من أطراف داخل النظام الإيرانى بعد تضخم سلطات قاسم سليمانى هو وجناحه فى الحرس الثورى وأصبح يهدد سلطة المرشد الأعلى خامنئى، ومن ضمن الإشارات أيضا التى تؤكد هذا الضوء الأخضر أن قاسم سليمانى وجناحه فى الحرس الثورى كانوا وراء مقتل هاشمى رفسنجاى رئيس إيران السابق ورجل الغرب القوى فى النظام الإيرانى والمسئول عن عقد الصفقات السرية بين النظام الإيرانى والولايات المتحدة وعلى رأسها فضيحة أيران كونترا حيث تم تزويد إيران بأسلحة أمريكية عبر إسرائيل وقت الحرب العراقية/الإيرانية فى الثمانينيات من القرن الماضي مقابل إطلاق سراح رهائن أمريكيين فى لبنان.
اغتال سليمانى رفسنجاى بإغراقه فى حمام سباحة قصره وهو ما ألمحت إليه ابنته فائزة رفسنجانى قبل اعتقالها من قبل الحرس الثورى كان سبب اغتيال رفسجانى الذى يمثل جناحًا قويًا فى نظام الملالى أنه أصبح يمثل تهديدًا لمخططات سليمانى والحرس الثورى باعتراضه الدائم على أرتماء طهران بكل مقدراتها فى أحضان بكين وتقطع صلاتها تماما بالغرب وهو التوجه الذى كان يقوده سليمانى بعد أن أدخل كل الأرباح التى تحققها الكيانات الاقتصادية التابعة للحرس الثورى وهى بالمليارات فى دورة الاقتصاد الصينى مبتعدًا عن النظام الغربى.
لكن رغم كل هذه الاتفاقات بين المخرج الأمريكى والسيناريست الإسرائيلى وفريق التمثيل الإيرانى حول هذا " الهجوم " من أجل أن يظهر بتلك النهاية السعيدة إلا أن الممثلين فى النهاية يحتاجون إلى أجر نظير قيامهم بأدوارهم فى هذا الفيلم السياسى، يقودنا موضوع الأجر هذا إلى حادثة وقعت قبل ساعات من " الهجوم " السعيد.
وقعت الحادثة عندما تحركت بحرية الحرس الثورى وقرصنت إحدى السفن البرتغالية فى مضيق هرمز وعليها شحنة حاويات لم يعرف محتواها حتى الآن ولكن الأهم أن السفينة المقرصن عليها من قبل الحرس الثورى تعود ملكيتها إلى الملياردير الإسرائيلى أيال عوفر، قد يبدو الأمر طبيعيًا أن يهاجم الحرس الثورى سفينة إسرائيلية ويختطفها لكن بالعودة إلى تاريخ عائلة عوفر أو الشقيقين أيال وأيدان عوفر فنحن أمام تاريخ طويل من الصفقات السرية بين المخابرات الإسرائيلية والنظام الإيرانى وكان منفذ الصفقات فيها شركة الإخوان عوفر وقت أن كان والدهما سامى عوفر هو من يدير الشركة وتوفى فى ظروف غامضة بتل أبيب بعد أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الشركة لخرقها الحظر المفروض على إيران بسبب أنشطتها النووية.
إن تاريخ هذه الشركة شركة عوفرلم يكن بسيطًا فى العلاقة السرية بين المخابرات الإسرائيلية والنظام الإيرانى فعلى مدار سنوات قبل وفاة الأب سامى عوفر كانت الشركة عن طريق سفنها هى ما تنقل البترول الإيرانى أثناء الحظر والعقوبات الأمريكية بل قامت بشراء سفن وباعتها إلى النظام الإيرانى .
بسبب هذه العلاقة السرية التى فضحتها واشنطن تم فرض عقوبات من الولايات المتحدة على الشركة وبعدها بأسبوع فقط توفى سامى عوفر الأب بعد أن كان مطلوبًا فى تحقيقات موسعة ستجريها الولايات المتحدة فكان يجب أن يصمت إلى الأبد رغم ماقدمه من خدمات حتى لايكشف تفاصيل الصفقات السرية بين تل أبيب وطهران التى كانت تجرى من خلف ظهر الولايات المتحدة.
تسببت هذه الفضيحة فى إثارة غضب واشنطن بشدة نتيجة للخيانة والصفاقة الإسرائيلية لأن إسرائيل كانت فى العلن تدفع الولايات المتحدة على فرض مزيد من العقوبات على إيران وسرًا كانت أجهزة مخابراتها تدير الصفقات مع نظام طهران عن طريق شركة عوفر وكان المحرض الأول على فرض العقوبات هو بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل الحالى وكان وقتها أيضا رئيسًا للوزراء.
تدخلت حكومة نتنياهو وأجهزة المخابرات الإسرائيلية بقوة لغلق هذا الملف الذى يكشف حقيقة العلاقة بين إسرائيل وإيران فاللجنة الاقتصادية بالكنيست الإسرائيلى قررت فتح تحقيق فى طبيعة ماحدث لكن بعد دقائق من بدأ الجلسة على الهواء وصلت إلى رئيس الكنيست رسالة من أجهزة الأمن الإسرائيلية بإنهاء الجلسة فورًا لأن النقاش فى هذا الموضوع يسبب أضرارًا فادحة للأمن القومى الإسرائيلى.
رغم أن رئيس الكنيست لم يكشف محتوى الرسالة والجهة التى أرسلتها إلا أن التسريبات التى نشرتها الصحف الغربية وقتها أشارت أن من وراء الرسالة هى أجهزة الأمن الإسرائيلية التى كانت تدير هذه الصفقات بين إيران وإسرائيل بل خرج بنيامين نتنياهو فى تصريح شهير مشيدًا بسامى عوفر قائلا أنه كان صهيونيًا حقيقيًا.
يبدو أن شركة عوفر لم تتخل عن دورها القديم فى خدمة العلاقات شديدة السرية بين طهران وإسرائيل وإن اختلفت التفاصيل فبدلا من نقل البترول المحظور يمكن تسليم إيران شحنة لا يعرف أحد محتواها تحت غطاء قصة الخطف تلك بمعنى آخر هذا أجر فريق التمثيل و الأمر الآخر أنه بالتأكيد المخرج الأمريكى لن يغضب هذه المرة من تل أبيب وشركتها لأن كل ما يتم فى هذا الفيلم السياسى و"الهجوم" السعيد يتم تحت إشرافه ورعايته.
إن الأفلام السياسية التى يتولى صناعتها الثلاثى الأمريكى / الإسرائيلى / الإيرانى طوال الفترة الماضية والى الآن تؤكد شيئًا واحدًا أن الأغراض الاستعمارية والتوسعية لهذا الثلاثى هدفها الأول والأخير السيطرة على مقدرات وثروات وطننا العربى.