قلب وقلم

عبد الهادي عباس يكتب: فكرة بمليون جنيه

عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس

في هذه الأيام من شهر ديسمبر، وتحديدًا في الثامن عشر منه، يحتفل العرب باصطفاف لغتهم التليدة وسط اللغات العالمية العاملة، بقرار رسمي من الأمم المتحدة منذ عام 1973م، والذي يجعل من هذه المناسبة حالة خاصة بها هذا العام بعد مرور خمسين عامًا على هذا الحدث الأممي الذي رسّخته منظمة اليونسكو بأن قالت في بيانها الرسمي: "اشتهرت اللغة العربية منذ زمن بعيد بمساهمتها في الشعر والفنون فهي لغة ذات قوّة راسخة وأبدَعت آيات جمالية رائعة تأسر القلوب وتخلب الألباب؛ ولذا تقرّر أن يكون شعار الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية لعام 2023 هو "العربية: لغة الشعر والفنون".

ولأننا قد هرمنا من الصخب الهاذر غير المنتج، والمهارج التي لا تدّعي الاحتفال باللغة الأمّ في حين أن معتلي صهوة المنصَّات يهترون بلسان مشقوق، بعدما يرفعون المفعول وينصبون الفاعل، ولا يُقيمون جملة مستقيمة، دونما خطة حقيقية فاعلة لترسيخ الفصحى بين الناس؛ ليس لأنها الأقوى والأقوم فقط، بل لأنها هوية قومية تستحق أن ننافح عنها ونكافح الواغش الملتاط بها، وسط عالم شرس تسحقه العولمة الغربية وتنهش جوانبه كافة!

ولا شك أن اللغة العربية تئنّ مواجعها وسط انتشار لوغاريتمات لغوية وسط الشباب، ما بين العامية، والعامية الفجّة، والفرانكو، والإنجليزية، والإنجليزية الخليط بالعامية، بل إن هناك لغة إشارية اعتمدت على الأشكال الصورية في إيصال المعنى، مثلما كان يفعل المصريون القدماء؛ وهو ما يُنذر بخطر فادح يُهدد الأجيال المقبلة بلكانة في اللسان وسقامة في الوجدان!  

وسط هذه الصورة الضبابية لأحوال لغتنا العربية ينفلج الصبح بقرار جريء من وزير الأوقاف د. محمد مختار جمعة عن مسابقة للتحدث بالفصحى قيمة جوائزها مليون جنيه بالتمام والكمال؛ وهو الأمر الذي لم يصدر من مؤسسات كبرى منوط بها رعاية اللغة وصيانتها؛ وفي اتصال هاتفي مع د. مختار جمعة أوضح أن هذه المسابقة تأتي في إطار اهتمام وزارة الأوقاف باللغة العربية، لغة القرآن الكريم، والتشجيع على التحدث بها، وتأتي مسابقة "المتحدث الفصيح" للأئمة والواعظات والإعلاميين والمعلمين والمعلمات وأعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم وغيرهم؛ وبجوائز تنقسم إلى عدة أفرع ومستويات لتضم جميع الفئات العمرية والتعليمية وكذلك المحافظات، بمجموع مليون جنيه، مع ملاحظة أن الاختبار سيكون في المرحلة الأولى نظريًّا في ضوء كتاب : "أساسيات اللغة العربية للكتاب والمتحدثين" ، طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وتطبيقيًّا في إجادة الكتابة والتحدث باللغة العربية الفصحى، ثم يتصاعد تدريجيًّا عند التصفيات النهائية.

والحقيقة أن هذه المسابقة حجر في بركة آسنة، لا حراك بها، فاللغة العربية تحتاج إلى من يأخذ بيدها ويقيها عثرات الطريق؛ ولهذا فإنني أرى أن هذه المسابقة ستسهم- بلا شك- في إثراء الساحة اللغوية بالاهتمام المنوط بها وإذكاء أوارها في صدور الشباب والباحثين، وهو الأمر الذي نرجو أن تحذو حذوه باقي المؤسسات التعليمية المصرية لتصبح قضية اللغة أمرًا لازمًا وضروريًّا في كل مؤسسة ومنزل، لنرفع الواغش عن أنفسنا وننتفض في استقبال مستقبل مشرق حقيق بالجمهورية الجديدة.

بهذه الأفكار الناهضة تنتبه الأمم إلى كيانها الناشب في عمق التاريخ، لتحافظ عليه وتجلوه من وعثاء القنوط واليأس، فلا تنفكّ حتى يتيسر لها الطريق إلى المستقبل.. وفكرة وزارة الأوقاف من تلك الأفكار التي يُقال عنها: إنها فكرة "بمليون جنيه".