القاهرة مؤرخة: لمحات من التاريخ العمراني لمدينة آسرة

د. فكرى حسن  القاهرة مؤرخة: لمحات من التاريخ العمرانى لمدينة آسرة
د. فكرى حسن القاهرة مؤرخة: لمحات من التاريخ العمرانى لمدينة آسرة

لا يخفى على أحد ما للقاهرة من سحر خاص لكل من يقطنها وكل من يكون من حظه أن يتجول بين ربوعها أو يقطن واحدا من أحيائها على اختلاف مبانيهم وأهاليهم.

ويكمن سحر القاهرة فى هذا التنوع وفى دهشة اكتشاف ما هو غير مألوف لمن يقطن واحد من أحيائها عندما تسنح له الظروف بأن يشاهد معالم حى آخر من أحيائها التى تتعدد فى تموضعها وعمارة مبانيها وأنشطتها على ما يزيد الآن على ما يقارب 1481 عاماً.

كما أن من عاش فى القاهرة خلال الخمسينيات من القرن الماضى وطال به العمر ليشهد ما جرى للقاهرة خلال الستينيات والسبعينيات، ثم ما جرى بعد ذلك بداية مع الثمانينيات وأخيرا ما يجرى حاليا، لابد وأن يندهش من حيوية هذه المدينة وصراعها مع البقاء والتجديد، مع ما قد يخامره من الحنين إلى الماضى والشوق إلى المعالم التى عايشها فى صباه وشبابه بين أحياء للسكن ومقاصد للتعليم ومنتزهات للترويج عن النفس، ويختلط كل ذلك بالحياة المعاشة بألوانها وروائحها ومذاقها وأفراحها وأتراحها.

ومن هذا المنطلق قدم د. نزار الصياد، وهو الباحث المتميز فى العمارة والتخطيط وتاريخ العمران كتاب «القاهرة مؤرخة» (دار العين) من جزئين، وتم تدشين الجزء الأول فى 14/11/2023 ببيت السنارى ويشمل «فقرات من تاريخ وعمران المدينة عبر الزمن». ويتم تدشين الجزء الثانى ويشمل على «مشاهد من ثقافة وتمثيل المدينة عبر الزمن» موعد لاحق. 

اقرأ أيضاً| للمناضل الفلسطينى جمال زقوت .. غزاوى: سردية الشقاء والأمل وتوثيق الحكاية

ويؤكد الجزء الأول على التحولات العمرانية للقاهرة الفاطمية وما سبقها من مدن بدأت ب الفسطاط ثم العسكر لتنتهى بالقطائع الطولونية قبل أن يتم تخطيط القاهرة كعاصمة ملكية للفاطميين لتبدأ رحلتها عبر الزمن فى متتابعة من التحولات التى أضفت على المدينة تنوعا عمرانيا فريدا، صاحبه وصاحب توسع جغرافى ونمو أفقى ورأسى ولتصبح المدينة موزاييك معقد من الأحياء والأنشطة العمرانية.

اجتهد الصياد لتجميع نخبة من الباحثين لتقديم «فقرات» من هذا «النص» العمرانى المعقد والمركب لتشى بما وراء النص من نصوص قديمة، ونسخ، ومسخ، وإضافات، وتحوير، وتجديد، ومحو، وصون.

وفى استعراض زمنى بدأ «عبد الرحمن الطويل» بتأسيس الغزاة العرب للفسطاط (642م) بجوار الحصن البيزنطى فى المنطقة المعروفة حاليا بمصر القديمة لتكون ثكنات لقوات القبائل العربية ومنهم أيضا قوات موالية من الفرس والروم على طبيعة المساحات المفتوحة المألوفة فى البادية. ولم يكن مألوفا أن يقام سور لهذه التجمعات التى كانت تتصدر مع الوقت، وشمل هذا التمدد القرافة التى نشأت فى خطة سكنية عند سفح جبل المقطم.

استمر نمو الفسطاط تحت حكم الأمويين، ولكنها سرعان ما سقطت أمام جيوش العباسيين الذين قاموا بتأسيس «العسكر» كثكنات (مرابط) لجنودهم فى 750م مع الحفاظ على الفسطاط لتظهر «مصر» كاسم لمجموع المدينتين.

وفى 868م نجح ابن طولون فى الاستقلال بمصر من حكم الخلافة العباسية فى بغداد وقام بمشروعات عمرانية من الهدم والبناء فى المنطقة الواقعة إلى الشمال الشرقى من «مصر». وكما سبق، خُصصت أقسام من المدينة الجديدة كأحياء للفئات المتعددة التى صاحبت ابن طولون من سامراء لمصر.

ويوضح «د. طارق سويلم» تصورات مهمة لتخطيط هذه المدينة ونموها تحت حكم خمارويه وكيف تميزت المدينة الجديدة بمظاهر حضارية ملحوظة شملت قصرا وبستانا مزدانا بالنباتات والأشجار النادرة وحديقة حيوان جمعت الأسود والأفيال والزرافات والفهود وبيمارستان واستراحة (قبة الهواء) وساحة استعراض مفتوحة للعلب البولو يزيد طولها على 600م يحيط بها سور وعرض الخيول تتخلله بوابات مخصصة لفئات مختلفة فى المجتمع.

كما تميزت هذه الحاضرة المنعمة بالأسواق وقيساريات، ومنظومة لتغذية المدينة بالمياه من النيل. وتزينت المدينة بمسجد جامع مهيب، هو كل ما تبقى الآن من هذه الحاضرة العمرانية الخلابة التى تخللها شارع أعظم يربط القصر بالمسجد، دُمر القصر عندما اجتاحت القطائع جيوش القائد العباسى محمد بن سليمان الذى ألحق الدمار بالمدينة وسواها أرضا فى 804/905م.

وفى ذلك الوقت كان الفاطميون يخططون فيه للاستيلاء على الخلافة من العباسيين وكانوا قد لجأوا إلى تونس وشمال أفريقيا لتجهيز الجيوش وإعدادها لغزو بغداد. كانت مصر محطة فى مخططهم، ولكنهم لم يواصلوا رحلتهم واستقروا بها ليشيدوا المدينة التى ما زالت تعرف بالقاهرة، لتصبح مقر حكمهم وعاصمة دولتهم التى دامت من 969 إلى 1171م.

عندما نجح الفاطميون فى الاستيلاء على مصر، كانت المدينة قد مرّت بعصر العباسيين الثانى (904-933م) وخلال هذه العصر اختلف على مصر ولاة استبد بهم الجند وأصحاب الخراج حتى تولى الأمر ولاة الإخشيديين الذين استقلوا بالحكم، ولكن الفتن والشقاق وانخفاض فيضانات النيل والقحط تسببت فى انحطاط العمران وفساد المجتمع.

ولكن «مصر» تلقت قبلة الحياة عندما قرر الفاطميون أن يؤسسوا القاهرة على أطرافها الشمالية، وكانت مدينة القاهرة والفسطاط تجمعان كمدينة «مصر القاهرة»، وعندما خربت الفسطاط ظل اسم «مصر» للقاهرة وحدها، وهو الاسم الجامع للقاهرة الفاطمية وتوسعاتها فى الخطاب الشعبى حتى الآن.

خطط الفاطميون لتأسيس مدينة ملكية مخصوصة وسرعان ما أحاطوها بالأسوار تخترقها سبعة أبواب، ويبقى من مبانيها جامع الحاكم بأمر الله والجامع الأزهر والجامع الأقمر وجامع الجيوشى وجامع الصالح طلائع بن رزيك، والعديد من مزارات أهل البيت. وتبقى فى الذاكرة «ما بين القصرين» –القصر الشرقى الكبير والقصر الغربى الصغير، وأسماء مرجوش والجمالية (امير الجيوش بدر الدين الجمإلى ) واندثرت «المناظر» المحاطة بالبساتين التى كان الخلفاء يقصدوها للتريض أو مشاهدة الاحتفالات، وخزانة الكتب التى احتوت على مليون وستمائة ألف كتاب وكان موقعها مكان مارستان قلاوون.

تحولت القاهرة إلى مدينة مفتوحة (1074-1094) بعد أن تعرضت لتهديدات الأتراك والصليبيين والصراعات الداخلية والمجاعات التى تسبب فيها انخفاض فيضانات النيل. وخوفا من الصليبيين، فكر شاور أمير جيوش العاضد فى إحراق مدينة الفسطاط ليعيق تقدم الصليبيين إلى القاهرة. استمر الحريق 45 يوماً وقضى على الفسطاط قضاءً مبرماً فى 1164م. 

وفى «القاهرة مؤرخة»، يؤرخ «حسن حافظ» لمحاولات الفاطميين الإسماعيليون استمالة المصريين السنيين إلى مذهبهم «الباطنى» ولكن جهودهم باءت بالفشل بعد أن استولى على المدينة صلاح الدين الأيوبى الذى خطط للترويج للمذهب الأشعرى (الذى يتميز به الأزهر حاليا). كما أنشأ صلاح الدين ومن جاء بعده المدارس الشافعية، ومازال منها ضريح الإمام الشافعى الملحق بالمدرسة الصلاحية (1176م) ومدرسة ومدفن الملك الصالح نجم الدين أيوب (1244-1243) وهو أول من قرر تدريس الفقه على المذاهب الأربعة، والمدرسة الكاملية التى أنشأها الملك الكامل محمد بن العادل الأيوبى لدراسة الحديث فى 1225م. لم ينجح الأيوبيون فى محو آثار الوجود الفاطمى الشيعى/الإسماعيلى، التى مازالت حية فى الممارسات الشعبية الدينية والاحتفالات والمزارات المرتبطة بأهل البيت. ومن المفارقات التاريخية أن تأتى طائفة من أتباع الإسماعيلية الطيبية بالهند، وهم «البهرة» ليؤموا المساجد الفاطمية، بل وليسهموا فى ترميمها.

خلص لصلاح الدين الأيوبى حكم مصر فى 1174م ليواجه الصليبيين وينزل بهم هزيمة ساحقة فى يوليو 1187م. وتحت حكمه، وحد صلاح الدين عواصم مصر الأربع القديمة وأحاطها بسور قوى، وفتح القاهرة لسكنى العامة وشيد قلعة منيعة بجبل المقطم وأمدها بالمياه من النيل وحفر لها بئرا لإمدادها بالماء عند حصارها.كما شهدت القاهرة فى عصره الحمامات العامة المرخمة والبيمارستانات والمدارس الدينية وفى عهد خلفاء صلاح الدين أنشأ الكامل دار الحديث الكاملية (جامع الكاملية حاليا)، كما أسس الملك الصالح نجم الدين أيوب مدرسة خصصت للمذاهب الأربعة.

مهد حكم الصالح نجم الدين أيوب لحكم المماليك وكان قد استكثر من شرائهم ليكونوا خاصته وأمراء دولته واتخذ لهم قلعة قرب مقياس النيل بالروضة على «بحر» النيل وزودها بالقصور والدور والرياض، ولذلك عرفوا بالمماليك البحرية.أما المماليك الذين اشتراهم السلطان قلاوون وكانوا من الشراكسة وأسكنهم أبراج القلعة فعرفوا بالمماليك البرجية ودام حكمهم من 1382 إلى 1517م.

تتعرض «د. أمنية عبد البار» لعصور المماليك فى «القاهرة مؤرخة» إذ نتحدث عن دور المماليك فى مجالات البناء والعمارة وتتبع التحولات العمرانية من تعمير القسم الشمإلى من المنطقة الوسطى بين القاهرة والفسطاط لربط قلعة الروضة وقلعة الجبل عبر جسر عند مدخل الخليج المصرى إلى هدم قلب القاهرة الفاطمية وإعادة بنائها، وإعمار المنطقة حول مسجد ابن طولون وعند سفح القلعة ومد شارع رئيسى من باب زويلة إلى ضريح السيدة نفيسة، مما أدى إلى قاهرة مملوكية تحتوى على بعض الآثار الفاطمية أهمها جامع الحاكم بأمر الله والأقمر وبوابات النصر والفتوح وزويلة.

ومن آثار المماليك المتميزة، القرافات المملوكية التى اختاروا لها الشريط الممتد تحت سفح هضبة المقطم، فيما عرف بصحراء المماليك، وهى ما شكل معلما رئيسيا للقاهرة فى طرف القاهرة الشرقى.

وفى فصل تال، يعنى «د. ناصر الرباط» بالمشاريع العمرانية المملوكية فى الدرب الأحمر عصب الانتقال من قلعة الجبل التى أصبحت مركزا لحكم المماليك والقاهرة الفاطمية. وعلى طول هذا الدرب، وعلى طول الشوارع الرئيسية أنشأ الأمراء والسلاطين قصورا ومبانى خيرية ومبانى ريعية تستعرض سلطانهم وثرواتهم.

وكانت هذه الثروات وراء ازدهار العمارة والمنشآت التى مازالت تخلب الألباب برونقها ورشاقتها وزخارفها وقبابها ومآذنها وأسبلتها وتكاياها ومدارسها وأضرحتها وكتاتيبها، وكان المصدر الرئيسى لهذه الثروات التى ملأت خزائنهم بالأموال الطائلة من المكوس على التجارة الشرقية التى كانت تخترق مصر والشام فى طريقها إلى أوروبا. واستلزم النشاط التجارى بناء الخانات والوكالات والفنادق والأسواق.

انتهى عصر المماليك باستيلاء السلطان سليم الأول العثمانى على القاهرة فى 1517م، ولكنه ترك مصر للولاة الذين سرعان ما أصبحوا تحت رحمة أمراء المماليك بما له من ميليشيات مكنتهم من السيطرة على جباية الضرائب. وظهر من هؤلاء الأمراء «على بك الكبير» الذى انتهز فرصة اشتباك الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا (1769م) لإعلان استقلاله بمصر ولكن سرعان ما استعاد العثمانيون الحكم من خلال المملوك محمد أبو الدهب الذى خلفه البكوات المماليك إسماعيل وإبراهيم ومراد حتى داهمتهم الحملة الفرنسية فى يوليو 1798 لتقضى على حكم البكوات المماليك.

وفى عصور العثمانيين والولاة والأمراء المماليك سادت الاضطرابات والفساد والظلم والتعسف فى جباية الضرائب والإتاوات، كما أدى تحول التجارة الشرقية البحرية عن مصر إلى رأس الرجاء الصالح إلى فقد مصدر رئيسى للثروات مما أسهم فى تفاقم الفقر والبؤس ولذلك لم يطرأ على تخطيط القاهرة أى تغيير ملحوظ ولم تتسع مساحتها.

وبدلا من ازدهار العمارة والبناء ظهرت الخرابات ودرست القصور والدواوين والمدارس، ولم تبق من العمائر سوى مساكن الأمراء والبكوات حول بركة الأزبكية، وتميزت المساجد حينذاك بالطراز البيزنطى الذى جلبه الأمراء الأتراك فى القسطنطينية ومنها المآذن الرفيعة الممشوقة.

ويعتبر الأمير عبد الرحمن كتخدا من أهم الأمراء الذين اهتموا بالعمارة. ومن المنازل التى حفظها الزمان بيت السحيمى وبيت الكريدليه ومنزل جمال الدين الذهبى.

وبدلا من ازدهار العمارة والبناء ظهرت الخرابات ودرست القصور والدواوين والمدارس، ولم تبقى من العمائر سوى مساكن الأمراء والبكوات حول بركة الأزبكية، وتميزت المساجد حينذاك بالطراز البيزنطى الذى جلبه الأمراء الأتراك فى القسطنطينية ومنها المآذن الرفيعة الممشوقة.

ويعتبر الأمير عبد الرحمن كتخدا من أهم الأمراء الذين اهتموا بالعمارة. ومن المنازل التى حفظها الزمان بيت السحيمى وبيت الكريدليه ومنزل جمال الدين الذهبي.

ولتأمين المدينة ومواجهة الاضطرابات والجرائم قام العثمانيون بإسناد حراسة المدينة لطائفة الإنكشارية بمساهمة القاضى الشرعى، و «المحتسب» المسئول عن الأسواق كما يوضح خالد فهمى فى فصل عن «تأمين القاهرة فى القرن التاسع عشر» 

ويشير «معاذ لافى»، فى فصل عن «القاهرة العثمانية بين منزلين»، إلى نمو طبقة من التجار استفادوا من توريد واستيراد الأقمشة والتوابل والعبيد والبن وكان منهم المغاربة والأتراك والشوام واليمنيون. وفى مقابل ذلك أدى الفقر والمجاعات إلى ثورات شعبية ومظاهرات ونهب لصوامع الغلال فى حى القلعة مما أرغم الأمراء والبكوات إلى هجرة حى القلعة المتاخم لمركز الحكم.

وفى تحول لم يكن فى الحسبان، عصفت حملة نابليون (1798-1801) بالحكم العثمانى وفى السنوات القليلة التى مضتها الحملة بالقاهرة، وفى سياق قصف القاهرة بالمدافع دمرت المساكن والدور وقطعوا الأشجار والنخيل لبناء استحكاماتهم، كما تهدمت خطط بأكملها كخط الحسينية والخروبى بمصر القديمة وبركة الفيل. ولتأمين المدينة لجأ الفرنسيون إلى تقسيم إلى ثمانية اخطاط تحت رئاسة قائد عسكرى، كما ازالوا المصاطب أمام الحوانيت ونزع أبواب الحارات لتسهيل حركة الجنود لمواجهة الثورات الشعبية. ويضيف خالد فهمى أن الفرنسيين كلفوا شيوخ الحارات بالمشاركة فى حفظ الأمن. 

تمكن أسطول بريطانى من تدمير اسطول نابليون وسرعان ما عاد حكم مصر إلى العثمانيين، ولكن القاهرة كانت مع ميعاد لضابط مقدونى من أصل البانى، محمد على، الذى نجح فى أن يستولى على حكم مصر مؤسسا لأسرة حاكمة نجحت فى فترة تالية للاستقلال بمصر. 

اختار محمد على أن يحكم من جبل المقطم وبدأ فى بناء المسجد المعروف باسمه بالقلعة فى 1830م، بجوار دار المحفوظات، ودار الضرب، وقصر الجوهرة وقصر الحرم. كما بنى محمد على قصرا فى شبرا الخيمة وقصور أخرى لكريمتيه فى الأزبكية وقصر النيل. كما أنشأ أسبلة على الطراز العثمانى منها سبيله بالعقادين والنحاسين.

برز إبراهيم باشا أبن محمد على كقائد حربى مظفر، ويطلعنا د. محمد حسام الدين إسماعيل، فى «القاهرة مؤرخة» على تحول وجه القاهرة عندما أمر إبراهيم باشا بإزالة الكيمان وبناء القصور وغرس البساتين ومنها قصر القبة إلى الشمال فيما يعرف بالعباسية حاليا فى طريق الخانقاه. كما يطلعنا أيضا على ما قام به الخديوى إسماعيل حفيد محمد على فى سعيه لتصبح القاهرة قطعة من أوروبا. وما من شك أن قاهرة إسماعيل كانت أهم إضافة ليس فقط فى تمديد المدينة بصورة غير مسبوقة منذ تأسيس القاهرة الفاطمية، ولكن أيضا فى أن تصبح القاهرة مدينتين متجاورتين – مدينة أوروبية المظهر والمخبر وقاهرة تاريخية عريقة قديمة شرقية، متصلتان بعض الاتصال، متباعدتين فى مشاربهما وأهاليهما وثقافتهم. 

ومع ظهور القاهرة الخديوية ظهرت وسائل الانتقال الحديثة (1865-1908). وفى الفصل المعنون «مدينة شكلتها القضبان» يقدم عمرو عصام نبذة مهمة عن ربط المدينة وضواحيها من خلال السكة الحديد والترام والكبارى التى ربطت القاهرة من محطة باب الحديد والزيتون والمطرية وعين شمس والمرج، وباب الحديد بالقلعة عبر العباسية، ومن القلعة إلى طرة وحلوان، ومن باب اللوق إلى المعادى وحلوان. ومن ميدان العتبة امتد الترام إلى القلعة وبولاق، وفى 1908 انطلق الترام من العباسية إلى ضاحية مصر الجديدة شمال سراى القبة. وتلا ذلك انطلاق ثلاث خطوط المترو من باب الحديد إلى مصر الجديدة. انحسر بذلك دور الحمير والمركبات التى تجرها الجياد والبغال، ولكنها مازالت ممثلة فى «العربيات الكارو» والحنطور اللتين ادخلهما الإيطاليون فى عهد محمد على.

 تكاملت شبكات السكة الحديد مع شبكات الترام مما أدى إلى تحولات ملحوظة فى النمو العمرانى وتكثيف العمران على طول مسارات المواصلات، وظهور مناطق للتنزه والتسوق والترفيه فى الفضاءات والميادين التى تخترقها مسارات الترام. اقتربت القاهرة فى مخططها العام من المخطط الذى مازال فى اذهان المخضرمين من سكان القاهرة. 

 ومن خلال تأثير وسائل النقل والمواصلات على التحولات العمرانية فى القاهرة ندخل فى مجال مهم من الدراسات العمرانية وهو ما يختص بتقصى أسباب وديناميكيات التوسع والتمدد والنمو والمحو والإضافة والتوزيع الحضرى للأنشطة المختلفة والوظائف التى تحيا من خلالها المدينة، وهو ما يستشرفه «د. عاطف معتمد» فى الفصل الأخير المعنون «من النهر إلى البحر».

وفى هذا الفصل المهم يمكننا أن نبدأ فى تحديد العوامل التى تتحكم فى مورفولوجية القاهرة من الماضى إلى الحاضر والتى يمكننا من خلالها استشراف المستقبل، وهو بالتحديد ما قدمه «جمال حمدان» فى أطروحته الرائدة عن القاهرة فى هذا المجال (القاهرة 1993)، وهو الجغرافى اللامع الذى يغلف أسلوبه الأدبى الرفيع، نظريته التحليلية للجغرافية البشرية فى سياق التفاعل بين المكان ومكونات المجتمع والظروف التاريخية. ويفند فيه عن حق أطروحة حمدان عم «الحتمية البيئية» (ص 341) على ضوء ما يحدث من توغل استيطانى شرس لهضبة المقطم شرقا، وكان حمدان يعتبرها عقبة صارمة للتوسع العمرانى.

وفى أى عصر ترتبط مورفولوجيا المدينة بالبنية المجتمعية وتحولاتها، وما يترتب عليها من وظائف وأنشطة وأهمها فى تاريخ القاهرة مركز الحكم وما يتصل به من قصور وبساتين ومساكن للجيوش وحصون أو أسوار وساحات استعراض الخيول والاحتفالات.

وحتى ظهور القاهرة الخديوية الأوروبية كان للمسجد أهمية خاصة كما ظهرت بعد ذلك الحاجة إلى المدارس والكتاتيب مع التحول المذهبى لأولى الأمر من الإسماعيلية الباطنية إلى المذهب الشافعى. كما أن مورفولوجيا المدينة تعتمد على الثبات النسبى لمنشاتها أما لخصائصها المعمارية (أسوار القاهرة الفاطمية والأيوبية) أو الوظيفية (أبواب القاهرة) أو قداستها (المساجد والجوامع)، لتصبح هذ الثوابت نقطا مركزية جاذبة للعديد من الأنشطة الحضرية والعمرانية فى مدارها. كما أن هناك عنصر الزمن لأن ما يتبقى من العصور الأقرب لنا يكون أكثر عددا من آثار العصور القديمة. 

كما تنعكس التحولات الاقتصادية والسياسية على المورفولوجية العمرانية للمدينة. وعلى سبيل المثال، عندما أصبحت التجارة الخارجية مصدرا مهما للدخل كما فى عصر المماليك ظهرت الحاجة للوكالات والقيساريات والحانات وازدهرت الحوانيت والأسواق. كما تتأثر مورفولوجيا المدينة بالغزوات التى قد تقضى على ما سبق من عمائر كما حدث للفسطاط والقطائع مما يستدعى اختيار أماكن جديدة تربطه بالموقع الأصلى ما تبقى من معالم ومزايا الموقع الأصلى وهو بالإضافة إلى ما سبق سهولة الحصول على أحجار البناء (من المقطم) والعمالة من العوام والحرفيين من قاطنى المدن السابقة.

كما لعبت المجاعات كالشدة المستنصرية والحروب الأهلية والطاعون فى عهد الناصر محمد دورا هاما فى تخريب المدينة وتفتيتها. كما أسهم فى توسع المدينة وامتدادها هجرة السكان من الريف كما حدث فى العصر العثمانى عندما هجر الفلاحون قراهم هربا من الضرائب المجحفة فى زمن كان يمكنهم أن يوجد أعمالا متدينة على هامش ازدهار التجارة فى الأحياء التى أصبحت نواة الأحياء الشعبية فى العصر الحديث 

ومع بوادر العصر الحديث ونقل مركز الحكم من القلعة إلى عابدين والتوجه إلى قاهرة أوروبية باريسية ظهرت الشوارع الطويلة المستقيمة لتربط القلعة بعابدين والأحياء الجديدة والحدائق والقصور والكبارى والضواحى والمؤسسات الحكومية والوزارات والعلمية والمتاحف ودار الأوبرا.

وظهر الاهتمام بالصحة وأضيئت شوارع القاهرة بغاز الاستصباح فى 1868م كما تم تعميم توزيع المياه بالأنابيب فى 1865م. ومن أهم المتغيرات فى التاريخ العمرانى للقاهرة تنامى دور الصناعة فى عصر محمد على فى بولاق والسبتية والمبيضة وما زلنا نرى ملامح ذلك فى انتشار الورش والمصانع والمعامل الصغيرة.

وفى سياق الحرب العالمية الثانية تمركزت صناعات الغزل والنسيج فى شبرا الخيمة، كما واكب التحول الحضارى فى عهد الخديوى إسماعيل ظهور المدارس الأولية والمدارس العليا، وبعدها ظهور الجامعة فى عهد الملك فؤاد. كما ظهرت المؤسسات الصحية منذ محمد على حول القصر العينى وحدد أماكن المستشفيات عند أطراف المدينة وكانت حينذاك العباسية التى أقيمت بها المستشفيات العقلية والحميات والصدرية.

ويسهم فى توسع المدينة وامتدادها تواجد الأراضى التى يمكن استغلالها. وبالتأكيد كان لحركة النيل نحو الغرب وظهور أراض فيضية إلى الشمال من الفسطاط ثم إلى الشمال الغربى فى الفترة الزمنية من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر أعظم الأثر فى امتداد القاهرة فى هذا الاتجاه.

ومع التوسع والامتدادات العمرانية تظهر الحاجة إلى محاور انتقال رئيسية ومواصلات تساهم فى نقل الأهإلى والبضائع. وكان لظهور الآلة البخارية والترام والقطار والأتوبيس والمركبات الخاصة بعد المركبات التى اعتمدت على الخيل والحمير دور مهم فى تسهيل التوسع نحو الأطراف بل ونحو ضواحى جديدة كمصر الجديدة والمعادى وحلوان.

ومن خلال ذلك يمكننا أن نتفهم أهمية «باب الحديد» (ميدان رمسيس) ومحور بولاق أبو العلا وباب اللوق ودور خط السكة الحديد إلى المرج فى ظهور ضواحى سكنية فى هذا الاتجاه كما يوضح الباحث عمرو عصام فيما سبق. كما يتضح بجلاء دور «العتبة الخضراء» المركزى فى ربط أحياء القاهرة فى منظومة غير مسبوقة.

كان هذا الترام الذى يمر من العتبة إلى العباسية وما تبقى من الخليج المصرى الذى كان قد تم ردمه (الآن شارع بورسعيد) أول ما شكل وعيى شخصيا بمورفولوجيا القاهرة فى صباى. ومن هذه الفترة التكوينية تنامى اهتمامى بهذه المدينة الخلابة فى تنوعها وما تحتويه أحياؤها من تراث حى، تشكل من خلاله شغفى بالقاهرة وتاريخها. وكان من الكتب، وهناك المئات من الكتب عن القاهرة، التى أسهمت فى تعميق إدراكى بالقاهرة «كتاب القاهرة» للبكباشى الدكتور عبد الرحمن زكى (1904-1980م) الذى ظهر فى جزئين طبعة 1934م وسنة 1935م والذى أعيد طبعه فى 1943م و1966م. وعلىّ أن أنوه هنا أيضا «بكتاب القاهرة» الذى ظهر فى 3 أجزاء من تأليف «فؤاد فرج»، المهندس بإدارة البلديات العامة، الذى ظهر منه الجزء الأول فى 1943م والثانى فى 1944م والثالث فى 1946م. كما أصدر «شحاتة عيسى إبراهيم» فى 1959م كتابا تاريخيا يضم ما استجد من عمران فى القاهرة فى منهج كرونولوجى يبرز فيه العلاقة بين العمران والتحولات المجتمعية، كما ترجم كتاب جاستون فييت «القاهرة مدينة الفن والتجارة» فى 1990، و كتاب اندريه ريمون «القاهرة، تاريخ حاضرة» فى 1994. وبمناسبة مرور 1000 عام على تأسيس القاهرة الفاطمية، أصدر عبد الرحمن زكى «موسوعة مدينة القاهرة فى ألف عام (1969) وأصدرت جانيت أبو لغد «القاهرة: ألف عام وعام للمدينة الظافرة «باللغة الإنجليزية (1971)، الكتاب الذى كان مرجعيا فى تصحيحها للمركزية الأوروبية على أساس ما كانت للقاهرة وغيرها من العواصم العربية قبل تنامى الهيمنة الأوربية كما جاء فى كتابها «قبل الهيمنة الأوروبيّة: النظام العالمى بين 1250-1350» (1989) نظام ما قبل الحداثة. 

ونقترب من نهاية القرن العشرين بكتاب محمد حسام الدين إسماعيل « مدينة القاهرة من ولاية محمد على إلى اسماعيل 1805-1997» (1999)، وخلال العقدين الماضيين صدر باللغة الإنجليزية « فهم القاهرة-منطق مدينة خارج السيطرة» (2012 د.شمس) و«القاهرة الكوزموبوليتانية –السياسة والثقافة والفضاء العمرانى فى عالم الشرق الأوسط المعولم» (ديان سنجرمان وبول عمار2009) و«اختلاق القاهرة القرنوسطية» (بولا ساندرز» 2008) وكانت قد أصدرت مقالا فى 2003 عن «الاختراع الفيكتورى للقاهرة القرنوسطية». وباللغة العربية أصدرت سهير حواس «القاهرة الخديوية رصد وتوثيق عمارة وعمران القاهرة» (2001) وأصدر أيمن فؤاد سيد «القاهرة-خططها ونموها العمرانى» (2015)

د. نزار الصياد أستاذ اكاديمى مرموق فى العمارة والتخطيط وإدارة المدن بجامعة بكاليفورنيا بيركلى ومؤسس الجمعية الدولية لدراسة البيئات التراثية، قد أسهم بكتب قيمة فى عدة مجالات فى تخصصه، ولكننا محظوظون لأنه ثابر عبر عقود لاستجلاء التاريخ العمرانى للقاهرة من زوايا مختلفة وأضاف إلى المكتبة العربية «القاهرة: تواريخ مدينة» (2023) وكان قد صدر له « الكتاب المرجعى للقاهرة- تواريخ وتمثيلات وسرديات » باللغة الإنجليزية (2022) وكتاب آخر ترجم إلى العربية بعنوان «القاهرة و عمرانها تواريخ وحكام و أماكن» (2018) وغير ذلك من كتب ومقالات تمتد من القاهرة السنيمائية إلى القاهرة الافتراضية.

تحفل القاهرة بتراث معمارى يشى بتاريخ مصر الاجتماعى عبر العصور وتقف آثارها المادية فى نسيج عمرانى حى شاهدا بتحولاته التى تركت معالمها على الحجر والبشر، ولكن هذه الشواهد تتطلب نصوصا تفسيرية وشروحا لتستنطق الحجر حتى يصبح نصا فى سرد تاريخى يعمق فهمنا بديناميكيات البنية المجتمعية ومتغيراتها التى شكلت رؤيتنا للعالم ومجتمعنا وذواتنا- التاريخ الذى يومئ إلينا من خرابات الفسطاط إلى قلعة الجبل، ومن القصر الخديوى بعابدين إلى قصر شبرا، ومن العتبة الخضراء إلى ميدان الرماية، ومما تبقى من الأزبكية إلى حديقة الحيوان. مع كل خطوة ومع كل مبنى حياة انسان ارتبط بحى ما من احيائها وقصص عائلات منها ما نزح فى القرن الماضى من الريف إلى السيدة زينب أو باب الشعرية ومنها الذين قدموا إليها من أبناء أعيان الريف فى القرن التاسع عشر ومنهم الأزهريون وكبار الموظفين، لكل من هؤلاء قصص التعايش مع مدينة جبارة بتعقيداتها وتجاذباتها والفرص السانحة لتحسين الحال.

 اندثر ما اندثر وبقى من عمرانها مازال يغوينا من سحرها وغموضها وحيويتها، وما يفسر لنا أسرار تحولاتها وانعطافاتها فى سياق ما مرت به من احداث سياسية واجتماعية واقتصادية، وما يساهم فى تقييم ما يجرى من إعادة تشكيل مخطط القاهرة والغرض منه ولمصلحة من. ومن هنا أهمية مشروعه البحثى عن «القاهرة الذى كرس له د. نزار الصياد والذى تنيره قناعاته بأن العمارة والتخطيط الحضرى لا تنفصم عن ثقافة المكان والسياسة وأن تاريخ المدن يبدأ من اللحظة الراهنة ويمتزج بمطالبنا وأحوالنا المعاصرة وتختلط فيه تجاربنا وتعايشنا مع المدينة مع تجارب من عاشوا فى احيائها أو التقطوا لمحة منه فى زيارتهم العابرة أو الطويلة. وبحساسية الشاعر يهتم نزار بالسرديات والتمثيلات الأدبية والفنية والقصصية كما نرى فى اختياره لموضوعات الجزء الثانى من هذا الكتاب. أما فى هذا الجزء الأول من «القاهرة مؤرخة» الذى، يقدم فيه كوكبة من الباحثين وأغلبهم من الشباب الذين نتوقع منهم المزيد عن هذه المدينة الخلابة الآسرة على الرغم من كل مشاكساتها، عرضا ثريا لفقرات من التاريخ العمرانى للقاهرة فى توقيت هام، متزامنا مع التغيرات المصيرية التى تتسارع منذ نهايات القرن العشرين فى صدام مروع بين الماضى والحاضر وانفجار عمرانى متزامنا مع أزمات إسكان واقتصاد وعشوائيات وازدحام وضجيج يحتاج إلى نظرة عميقة إلى ما فعل المصريون بالقاهرة وماذا ستفعل بهم فى العقود القليلة القادمة.